حر الصيف .. موعظة بليغة

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، أظهر العجائب في مصنوعاته، ودل على عظمته بمخلوقاته، فأمر بالتدبر والنظر في أرضه وسماواته، أحمده سبحانه وأشكره، نعمه تترى، وفضله لا يحصى، لا معطي لما منع، ولا مانع لما أعطى. أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أصدق عباد الله شكراً، وأعظمهم لربهم ذكراً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأتقياء، وأصحابه الأصفياء، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

فاتقوا الله -عباد الله- فتقوى اللهِ وصيةُ اللهِ للأولين والآخرين، وهي مُسْتَمْسَكُ الصالحين، وسبيل النجاة في الدنيا ويومِ الدين.

إخوة الإيمان والعقيدة ... إن في تقلُّب الليالي والأيام، وفصول السنة والأعوام، وفي تناوب الضياء والظلام، وتبدّل الحرارة والبرودة، وطلوع الشمس وأفولها، وولادة القمر واحتضاره، وغيرها من المظاهر الكونية، والتغيرات المناخية والجوية، عبرة لنا أي عبر ( يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَار ).

فنحن نعيشُ هذه الأيام مع فصل الصيف موعظةً بليغةً، ودروسًا عظيمة، يشهدُها السميع والبصير، ويُدركها الأعمى والأصم.

نعيشُ هذه الأيام مع واعظِ الصيف وخطيبه، فهل أصغتْ قلوبُنا لموعظتِه؟! وهل وعينا دروسَه؟! فمَن مِنا الذي لم يؤذهِ حَرُّ الصيف؟! فأيُّ شيءٍ تعلمناه من الحَرِّ؟.

رأى عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- قومًا في جنازة قد هربوا من حَر الشمس إلى الظل، وتوقَّوا الغبار، فأبكاه هذا المنظر، وحال الإنسان يألف النعيم والبهجة، حتى إذا وُسِّد قبره فارقهما إلى التراب والوحشة، فأنشد قائلا:

مَنْ كانَ حِينَ تُصيبُ الشمسُ جبهتَه *** أو الغبارُ يخافُ الشَّيْـنَ والشَعَثـا
ويألفُ الظـــلَّ كي تبقَى بشاشتُه *** فسوفَ يسكنُ يومـًا راغمًا جَدَثًا
في ظـِـــلِّ مُقْفِرَةٍ غبراءَ مُظْلِمَةٍ *** يُطيلُ تحت الثَّرى في غمها اللُّبُثَـا
تجهَّـزِي بجَهَــازٍ تبلُغيـن بــه *** يا نفسُ قبْلَ الرَّدَى لم تُخْلَقِي عَبَثَـا

ويا تُرى من أين يأتي الحر في الصيف؟ وما مصدره؟ فقدأخبرنا الصادقُ المصدوقُ فقال ( إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَاشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: يَا رَبِّ! أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ ).

نعم .. فالصيف موعظة، وأي موعظة! فإذا كان هذا حَرُّ الصيف نَفَسَاً لجهنم، فكيف بجهنم نفسَها؟ ( إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَاْتِكُمْ نَذِيرٌ ) وقال سبحانه ( إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( نَارُكُمْ هَذِهِ الَّتِي يُوقِدُ ابْنُ آدَمَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ)  قَالُوا: وَاللَّهِ إِنْ كَانَتْ لَكَافِيَةً يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ ( فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهَا مِثْلُ حَرِّهَا ) أعاذنا الله وإياكم ووالدينا وجميع المسلمين منها.

فإذا كنا نَفِرُّ الآن من هذا الحر الدنيوي، أفلا يكون الفرار من الحر الأكبر هو الشغل الشاغل للعاقل والواعي!!

في غزوة تبوك ابتلي الناس بالخروج للجهاد، في زمن عُسرة وشدة من الحرِّ وجدب من البلاد، وحين طابت الثمار، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، خرج المؤمنون الصادقون، وقعد الذين في قلوبهم مرض ( وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ )  ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ).

تَفِرُّ مِنَ الهَجِيرِ وَتَتَّقِيـهِ *** فَهَلَّاً مِنْ جَهَنَّمَ قَدْ فَرَرْتَا؟
وَلَسْتَ تُطِيقُ أهونَها عذابًا *** وَلَوْ كُنْتَ الحَدِيـدَ بِهَا لَذُبْتا
وتُشْفِقُ للمُصِرِّ على الخَطَايَا *** وتَرْحَمُهُ وَنَفْسَكَ مَا رَحِمْتَا
ولا تُنْكِرْ فإنَّ الأمرَ جِـدٌّ *** وَلَيْسَ كَمَا حَسَبْتَ ولا ظَنَنْتا

يا مَن لا يصبر على وقفة يسيرة في حرِّ الظهيرة، كيف بك إذا دنت الشمس من رؤوس الخلائق، وطال وقوفهم، وعظم كربهم، واشتد زحامهم!! قال رسول الله يقول ( تُدنى الشمس يوم القيامة من الخَلْق حتى تكون منهم كمقدار مِيل، فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرَق، فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا ) قال: وأشار رسول الله بيده إلى فيه.

تلكم نارُ الآخرة، وذاك حرُّ الموقف، فأين المتقون- ياعباد الله ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ).

أيها المؤمنون .. إن من أعظم ما يُدفع به العذاب، وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات، والتخفف من السيئات، فذاك هو الزاد، وتلك هي الجُنّة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ * وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلَّى الله على المبعوث رحمة للعالمين.

معاشر المؤمنين ... اتقوا الله حق التقوى، وطهروا قلوبكم فإن الله يطلع على القلوب والضمائر، وأكثروا من الأعمال الصالحة فاليوم عمَل، وغداً حساب ولا عمل، فاعمل ولا تمل، واستبقوا الخيرات، وأحسنوا.

عباد الله .. إذا تذكرنا حر يوم النشور، فلا ننس فضل الصدقة، وظلها الوارف لأصحابها في ذلك اليوم العظيم الذي تدنو فيه الشمس من الخلائق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ( كل امرئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِهِ حتى يفصل بين الناس ) أو قال ( حتى يحكم بين الناس ).

وفي حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ( رجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه ) هناك فقراء ومساكين، وهناك البيوت غير مكيفة ... فهل تفقَّدْنا ونحن في حر لهيب الصيف أحوال الجيران والقريبين، وذوي الحاجات والمعوزين؟ ففي البيوت أسرار لا يعلم بحالها إلا الواحد القهار، فهذه مطلَّقة لا تملك ما تشتري به جهاز التكييف فترفع إلى الله شكواها، وتلك أرملة لا تجد ثلاجة تبرد بها شربة ماء لها ولصغارها، وهذا فقير يئن تحت وطأة الفواتير والإيجار .. وهكذا أحوال الناس، وإنما نُرزق وننصَر ونُحفَظ بضعفائنا.

أطفئوا حر الصيف بالمواساة والصدقة، وتواصوا بالبر والمعروف، فالدال على الخير كفاعله، وارحموا العمالة الكادحة مِن حَرِّ الظهيرة، فهم بشَر يشعرون، وعن لقمة العيش يبحثون، فلا تكلفوهم ما لا يطيقون، وارحموا من في الأرض، يرحمكم من في السماء.

اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

حفِظ الله بلادَنا، ونصر الله دولتنا، وأعزَّ الله ولاتنا، وسدد الله رُماتِنا...

اللَّهُمَّ احفَظْ جُنْدَنَا وجُندَ المُسلِمينَ مِن كُلِّ سُوءٍ وَمَكرُوهٍ, سَدِّد رَميَهُم, قَوي عَزَائِمَهُم. اللَّهُمَّ أعِزَّ الإسلامَ والمُسلِمينَ، اللَّهُمَّ اكتُب النَّصرَ والتَّمكِينَ لِجَمِيعِ المُسلمينَ فِي كُلِّ مَكَانٍ.

اللَّهُمَّ وفِّق وليَّ أَمرِنَا وجَمِيعِ وُلاةِ المُسلمين لِما تُحبُّ وترضى. اللَّهُمَّ احفَظْ بلادَ المُسلمينَ مِن الشُّرورِ والأَخطَارِ، اللَّهُمَّ احفَظْ علينا أمنَنا واستِقرارَنا. الَّلهُمَّ أنعِم على العالَم الإسلاميِّ بكلِّ أمنٍ واستِقرارٍ ورخاءٍ وعزَّةٍ وتَمكِينٍ يا ذا الجَلالِ والإكرَامِ.

عباد الله: اذكروا الله ذِكرًا كثيرًا، وسبِّحوه بُكرةً وأصيلاً، اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.

المشاهدات 1019 | التعليقات 0