حر الصيف ( مختصرة )

الخطبة الأولى : حرُّ الصيف

الحمدُ لله خلقَ الخلقَ على غيرِ مِثالٍ سابِق، لا إله إلا هو يُصرِّفُ الأقدارَ كما يشاءُ ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له مُؤمِنًا به ومُوقِنًا، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه بعَثَه ربُّه بالحقِّ بشيرًا ونذيرًا ، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلهِ الطيبين وأصحابِه الغُرِّ الميامِين ، والتابِعين ومَن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم القِيَام.     أما بعد:

فأُوصِيكم ونفسِي بتقوَى الله ( واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ).

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ e: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا عَزَّ وَجَلَّ، فَقَالَتْ: أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْـحَرِّ مِنْ حَرِّهَا، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ زَمْهَرِيرُهَا) متفق عليه .

عبادَ الله: الدنيا مِرآةُ الآخرةِ ؛ فكلُّ ما في الدنيا مِن سعادةٍ ولذَّةٍ ونعيمٍ يُذكِّرُ بنعيمِ الجنَّة، ولذِيذِ عيشِها. وما في الدنيا مِن ألَمٍ وشقاءٍ وبُؤسٍ يُذكِّرُ بعذابِ النار، وسُوءِ مَصِيرِ أهلِها - عِياذًا بالله مِن ذلك -.

أيها الإخوة: لقد كان مِن سُننِ رسولِ الله e تذكِيرُ أصحابِه بمَا يرَونَ مِن أحداثِ الدنيا بأحداثِ الآخرة، قال e: «نارُكم هذه التي يُوقِدُ بنُو آدم جُزءٌ مِن سبعِين جُزءًا مِن جهنَّم»، قالوا: واللـهِ إن كانَت لكافِيَة! قال: «إنها فُضِّلَت عليها بتِسعةٍ وتِسعِين جُزءًا كلُّها مِثلُ حرِّها». متفق عليه.

ولقد قال اللـهُ عزَّ وجل في نارِكم هذه التي عليها تُوقِدُون (نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ) .

بل إن حرارةَ الحُمَّى مِن أعظَم المُذكِّرات؛ ففي الحديثِ: «الحُمَّى كِيرٌ مِن جهنَّم، فنَحُّوها عنكُم بالماءِ البارِدِ». ابن ماجة.  وفي بعضِ الرِّواياتِ: «هي حظُّ المُؤمنِ مِن النَّار». أحمد

معاشِرَ المسلمين: أنتُم تعِيشُون هذه الأيام أيامَ الصَّيف، وتتَّقُونَه بما تستَطِيعُون .. فتذكَّرُوا، واعتَبِرُوا، وبالعملِ الصالِحِ بادِرُوا.

يقولُ أبو الدرداء t "صُومُوا يومًا شديدًا حرُّه لحَرِّ يومِ النُّشُور، وصَلُّوا ركعتَين في ظُلمةِ الليل لظُلمةِ القُبُور".  وكانوا يقولُون: "نصُومُ في الحرِّ ليومٍ أشدَّ حرًّا ".

ومِن عجائِبِ فَهمِهم في صِيامِ يوم الـحَرِّ قولُهم: "إن السِّعرَ إذا رَخُصَ اشتَراهُ كلُّ أحد"؛ يُريدُون: أن الصيامَ في الأيام المُعتَدِلة والبارِدَة ميسُورٌ لكلِّ أحَدٍ، أما صِيامُ يوم الحرِّ فيحتاجُ إلى مُعاناةٍ ومُصابَرَة (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْـمُتَنَافِسُونَ) ناهِيكُم - عباد الله - بمَن يرَى في الحرِّ غنِيمةً لا تَفُوت !

 فعن أبي الدرداءِ t قال: "لقد رأيتُنا مع رسولِ الله e في بعضِ أسفَارِه في اليوم الحرِّ الشديدِ ، وإن الرجُلَ ليضَعُ يدَهُ على رأسِهِ مِن شدَّة الحرِّ، وما في القَومِ صائِمٌ إلا رسولَ الله e وعبدَ اللـهِ بنَ رواحَة" ابنُ ماجة

عباد الله: المَشيُ إلى المساجِدِ أفضلُ مِن الرُّكوبِ ولو في شِدَّة الحَرِّ. يقولُ أُبَيُّ بن كعبٍ t: كان رجُلٌ لا أعلَمُ رجُلًا أبعَدَ مِن المسجدِ مِنه، وكان لا تُخطِئُه صلاةٌ، فقِيلَ له : لو اشتَرَيتَ حِمارًا تركَبُه في الظَّلمَاء وفي الرَّمضاء؟ فقال: ما يسُرُّني أن منزِلِي إلى جنبِ المسجِدِ، إنِّي أُريدُ أن يُكتَبَ لي مَمشايَ إلى المسجِدِ ورُجوعِي إذا رجَعتُ إليهم، فقال رسولُ الله e: «قد جمَعَ الله لك ذلك كلَّه» .م.

عبدَ الله: إذا اشتدَّ الحرُّ فاسأَل اللـهَ أن يَقِيَكَ حرَّ جهنَّم، وإذا كان بينَك وبينَ الشمسِ هذه المسافاتُ العظيمةُ ومع هذا لا تُطيقُ حرَّها، فكيف إذا دنَت الشمسُ مِن الرُّؤوسِ يومَ القيامة؟! وإذا بلغَ العرقُ مِنك مبلَغَه، فكيف إذا عَرِقَ الجَبِينُ مِن سَكَرَات الموت؟! وكيف إذا غرِقَ الناسُ في عرَقِهم يومَ القيامةِ كلٌّ حسَبَ عملِه، أين سيبلُغُ مِنك العرَقُ؟! قال r (تُدْنَى الشَّمْسُ يَومَ القِيامَةِ مِنَ الخَلْقِ، حتَّى تَكُونَ منهمْ كَمِقْدارِ مِيلٍ -قالَ سُلَيْمُ بنُ عامِرٍ-أحدُ رواةِ الحديث-: فَواللَّـهِ ما أدْرِي ما يَعْنِي بالمِيلِ؛ أمَسافَةَ الأرْضِ، أمِ المِيلَ الذي تُكْتَحَلُ به العَيْنُ؟- قالَ: فَيَكونُ النَّاسُ علَى قَدْرِ أعْمالِهِمْ في العَرَقِ؛ فَمِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى كَعْبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يَكونُ إلى حَقْوَيْهِ، ومِنْهُمْ مَن يُلْجِمُهُ العَرَقُ إلْجامًا. قالَ: وأَشارَ رَسولُ اللـهِ r بيَدِهِ إلى فِيهِ ) . م.

عبد الله: إذا اتَّقَيتَ لَفحَ الشمسِ ولَهِيبَها، ونعِمتَ بظلِّ الدُّور والقُصُور، وظلِّ الأشجارِ والبساتين، فتحتَ أيِّ ظلٍّ ستكُونُ يومَ القِيامة ؟!

فتذكَّر في ذلكَ الموقفِ السبعةَ الذين يُظِلُّهم اللـهُ في ظِلِّه، فلعلَّك أن تعملَ بعملِهم؛ لتنعَمَ بنعيمِهم، والمرءُ في ظلِّ صدَقَتِه يوم القيامة، والمُتحابُّون بجلالِ اللـه يُظِلُّهم اللـه في ظِلِّه يوم لا ظِلَّ إلا ظِلُّه.

وإذا ألهَبَ الحرُّ جَوفَك، واشتَدَّ ظمَؤُك، ثم شَرِبتَ ماءً بارِدًا، فهنِيئًا مرِيئًا، ثم سَلْ نفسَك: كيف تُسقَى في يومِ القيامة؟! فإن أقوامًا يرِدُون حَوضَ المُصطفى e ، ويشرَبُون منه، وآخرين يُذادُون عنه ذَودًا لأنهم غيروا وبدلوا ( إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا). وأهلُ النَّارِ يستَغِيُثون فيُغاثُون (بِمَاءٍ كَالْـمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا) .

وإذا تخفَّفتَ مِن ملابِسِك مِن شدَّة الحرِّ، فتذكَّر الذين (قُطِّعَتْ لَـهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْـحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْـجُلُودُ)

وإذا فتَحتَ وتنعَمَت بأجهِزةِ التكييفِ والتبريد، فاحمَد اللـهَ، وتذكَّر أهلَ دارٍ ( لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ) ، وتذكَّر دارًا أُخرى هي عليهم (مُؤْصَدَةٌ  فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ) .

عباد الله: المُؤمنُ يعيشُ حياتَه في تفكُّرٍ واعتِبارٍ، وتبصُّرٍ واتِّعاظٍ؛ فيرَى آياتِ اللهِ فيما حولَه، ويتفقَّدُ مَن حولَه في شُكرِ ربِّه، ورِضًا عن مَولاه، ورِفقٍ بإخوانِه (وَاللَّـهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْـحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ)    بارك الله لي ...

 

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدُ لله...      أما بعد .. فيا أيها المُسلمون:

رأى عمرُ بنُ عبدِ العَزيزِ  قومًا في جَنازةٍ قدْ هَربُوا مِن الشَّمْسِ إلى الظِّلِ، وتَوقَّوا الغُبَارَ، فأَبْكَاه حَالُ الإنسانِ يَأْلَفُ النَّعيمَ والبَهْجَةَ، حتى إذا وُسِّدَ قَبْرَه فَارَقَهُمَا إلى التُّرابِ والوَحْشَةِ، وأَنْشَدَ:

مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ 

 أَوِ الْغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعَثَا

وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ 

  فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثًا

فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ غَبْرَاءَ مُوحِشَةٍ 

  يُطِيلُ فِي قَعْرِهَا تَحْتَ الثَّرَى لَبِثَا

تَجَهَّزِي بِجَهَازٍ تَبْلُغِينَ بِهِ   

  يَا نَفْسُ قَبْلَ الرَّدَى لَمْ تُخْلَقِي عَبَثَا

عباد الله: كَم هم المُوفَّقُون الذين يجعَلُون مِن هذه الأجواء الحارَّةِ بابًا عظيمًا واسِعًا للمعروفِ والإحسانِ، فيتوجَّهُون إلى ربِّهم بالدعاء الصادِقِ أن يقِيَهم وإخوانَهم حرَّ جهنَّم، وحرَّ يوم الوُقوفِ .

الصَّيفُ ولَهِيبُه يُذكِّرُهم بإخوانٍ لهم مُحتاجُون لمَدِّ يدِ العَون والمُساعَدَةِ في هذه الأجواء الحارَّةِ الحارِقة، تتفقَّدُ أحوالَهم، وتقضِي حوائِجَهم، وتُعينُهم على تحمُّل ما يُعانُون بتوفيرِ أدواتِ التكييفِ والتبريدِ ، أو إصلاحِها ودفعِ تكالِيفِها ، وحَفرِ الآبار ، ومَن كثُرَت ذنُوبُه، فعلَيه بسَقْيِ الماء .

عباد الله : الصَّيفُ يُذكِّرُ بنِعمةِ اللـهِ بالماءِ البارِدِ والهواءِ البارِدِ حيثُما تحِلُّ، وحيثُما ترحَلُ، فتأمَّلْ، واشكُرْ، واحذَر السَّرَف، والزَم الاقتِصادَ في الاستِهلاك ؛ ليصِلَ الخيرُ إلى الجميع .

 ومما ينبَغِي مُراعاتُه : حِفظُ الظلِّ وأماكِنِ الاستِظلالِ للناسِ في المرافِقِ العامَّة؛ فيحرُمُ إفسادُها بتقذيرِها وتنجِيسِها، وإلقاءِ القِمامةِ والقاذُوراتِ فيها ، فإن ذلك موجبٌ للَّعنِ والعياذُ بالله .

وشِدَّةُ الحرِّ مظِنَّةُ كثرةِ العرَقِ، فمَن يحضُرُ مجامِعَ الـمُسلمين ومساجِدَهم ينبَغِي أن يُزِيلَ ما يُؤذِي إخوانَه مِن الروائِحِ الكريهَةِ ... 

 ثم صلوا وسلموا ...

 

المرفقات

1658848301_حر الصيف.doc

1658848301_حر الصيف.pdf

المشاهدات 604 | التعليقات 0