حُرْمَةُ الغشِّ والاحتكارِ، والتّستّرِ والإضرارِ. (موافقةٌ للتعميمِ)
عبدالمحسن بن محمد العامر
الحمدُ للهِ شرعَ لنا أكملَ الشرائعِ وأتمَّها، وأباحَ لنا مِنَ البيوعِ أبْرْكَها وأعمَّها، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، أعطاهُ ربُّهُ أعدلَ الأحكامِ وأرحمَها، صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يومٍ تَحْمِلُ فيه النُّفوسُ همَّها وغمَّها ..
أمّا بعدٌ: فيا عبادَ اللهِ: أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ عزّ وجلَّ؛ فالتقوى مقوّيَةٌ على البلاءِ في الأموالِ والأنفسِ، والصبَّرُ مع التقوى؛ مِنْ عزمِ الأمورِ وعظائمِها: "لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَٰلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ"
معاشرَ المؤمنينَ: تعاليمُ الإسلامِ الصّارِمةُ في البيعِ والشراءِ، وفي جميعِ المعاملاتِ الماليةِ؛ مع ما فيها مِنْ حفظِ حقوقِ البائعِ والمشتري، فإنَّ في معانيها ومقاصدِها تحقيقُ التكافلِ الاجتماعيِّ، والحفاظُ على حقوقِ المجتمعِ الذي يتعاملُ معَ التّجارِ، وحمايةُ المستهلكِ الذي هو آخرُ محطَّةٍ للسلْعَةِ، وعندَه تنتهي رحلتُها الطويلةُ.
ومما حرّمَهُ الإسلامُ وحذَّرَ مِنْهُ وتوعّدَ فاعلَّه بالعذابِ والنَّكالِ؛ الغشُّ في البيعِ والشراءِ، وفي جميعِ المعاملاتِ التجاريةِ والمالية، فالغشُّ واسع المجالاتِ، داخلٌ في أبوابٍ مِنَ أمورِ الحياةِ كثيرةٍ، وصورُهُ لا تكادُ تحصرُ ولا تُحصى، فالتطفيفُ في الكيلِ نوعٌ مِنَ الغشِّ سواءً كانَ صريحاً معلوماً للطرفِ الآخرِ، أو كانَ بالإيهامِ والتدليسِ والاحتيالِ؛ كَمَنْ يغشُّ في مقدارِ الكمياتِ التي تكونُ في علبةٍ معروفةِ المقدارِ ومتعارفٍ عليها، فيقلَّلُ الكميّةَ فيها ويبيُعها بنفسِ ثمنِ العُلْبةِ غيرِ المنقوصَةِ، وقدْ توعَّدَ اللهُ هؤلاءِ بقولِه جلَّ جلالُه "وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ *الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ*وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ*أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ*لِيَوْمٍ عَظِيمٍ*يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ"
وإخفاءُ عيوبِ السلعةِ أيَّاً كانتْ مِنْ الغِشِّ الصريحِ الذي لا عُذرَ فيه؛ كمَنْ يضعُ الأحجامَ الكبيرةَ في الأعلى والصغيرةَ في الأسفلِ، وما أكثرَ هذا الفعلَ اليومَ إلا عندَ مَنْ رحمَ اللهُ "مَرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلمَ علَى صُبْرَةِ طَعامٍ فأدْخَلَ يَدَهُ فيها، فَنالَتْ أصابِعُهُ بَلَلًا فقالَ: ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ قالَ أصابَتْهُ السَّماءُ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أفَلا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعامِ كَيْ يَراهُ النَّاسُ، مَن غَشَّ فليسَ مِنِّي" رواه مسلمٌ.
ومِنَ الغشِّ الذي يَعْظُمُ أثرُه حاضراً ومستقبلاً، ويحصلُ فيه مِنَ الضَّررِ المتعدي الشيءُ العظيمُ؛ الغشُّ في المباني؛ سواءً مِنَ المقاولينَ وعُمّالِ البناءِ، أو مِنَ المُطوِّرينَ العقاريينَ، فالبناءُ الرديءُ الذي لا يستوفي الشروطَ، ولا يكونُ وفقَ قوانينِ ومخططاتِ البناءِ الصحيحةِ السليمةِ، يخسرُ فيه المشتري خسارةً فادِحةً، وربّما تسبّبَ عليه بالغرقِ ودخولِ السيولِ، وربّما كانَ سهلَ الوقوعِ والانهدامِ عندَ حدوثِ الزَّلازلِ؛ حمانا اللهُ والمسلمينَ أجمعينَ منها.
ومن هذا القَبِيْلِ؛ الغشُّ في بهيمةِ الأنعامِ، في أعلافِها، وفي أسنانِها، وأوْلادِها، ومِنْ أشدِّ الغشِّ فيها؛ عدمُ الالتزامِ بفترةِ التَّحريمِ بعدَ إعطائها الإبرَ العلاجيَّة ذاتِ الأدوية الكيميائية، التي لا تتناسبُ معَ أجسامِ البشرِ، ويترتبُ على ذلكَ تعريضُ آكلي لحمِها للأمراضِ الخطيرةِ المستعصيَةِ، ومثلُ هذا الكلامِ يقالُ في الخضرواتِ والفواكه التي ترشُّ بالمبيداتِ، وتباعُ بالأسواقِ قبلَ انتهاءِ فترةِ تحريم المبيد.
ومِنَ الغِشِّ الذي آذى المسلمينَ؛ الغشُّ في السياراتِ المستعملةِ، إذْ صارَ الغشُّ فيها احترافياً لا يكشِفُه إلا الخُبراءُ وأجهزةُ الفَحْصِ الخاصةِ بذلك.
أيها المسلمونَ: ومِنَ الغشِّ الذميمِ، الذي ينمُّ عن خُلُقٍ لئيمٍ، وقصدٍ سقيمٍ، الغشُّ بإخفاءِ عيوبِ أحدِ الزوجينِ عن الآخرِ، فينصدمُ أحدُ الزوجينِ بعيوبٍ لم يُخبرْ بها، لو علمَ بها لما وافقَ عليها، فتصيرُ حالُه بينَ نارينِ، وتضيقُ عليه الميادين.
هذه إشاراتٌ لصورٍ مِنَ الغشِّ حَسُنَ التَّنبيهُ عليها؛ لأهميَّتِها، وشدَّةِ ضررِها، لنتجنَّبَها، ولنِتَواصَى بالتَّنبيهِ عليها، ومحاربتِها.
فالغشّاشُ مفضوحٌ، ومصيرُه مكشوفٌ، قدْ أجازَ العلماءُ غيبتَه في بيانِ غشِّه وفسادِه والتَّحذيرِ منه، ومَنْ غشَّ في أمرٍ صغيرٍ غشَّ في أمرٍ كبيرٍ، فالمسألةُ مسألةُ مبدأٍ مبنيٍّ على الصِّدقِ والأمانةِ والخوفِ مِنَ اللهِ تعالى.
باركَ اللهُ لي ولكم بالكتابِ والسنَّة ونفعنا بما فيهما مِنَ العبرِ والحكمةِ..
أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبةُ الثانيةُ:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلى الله وسلمَ عليه وعلى آله وصحبِه وأتباعِه وإخوانِه ..
أما بعدُ: فيا عبادَ اللهِ: اتقوا اللهَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسط وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ"
معاشرَ المؤمنينَ: وممَّا يَلحقُ الغشَّ بالتحريمِ والتَّجريمِ، الاحتكارُ بمفهومِه العامِّ الذي هوَ (حَبْسُ مالٍ، أوْ مَنْفَعَةٍ، أوْ عملٍ، والامتناعُ عن بيعِه، وبذلِه، حتى يغلوَ سعرُه غلاءً فاحشاً غيرَ مُعْتادٍ، بِسبَبِ قِلَّتِه، أوْ انعدامِ وجودِه في مَظانِّه، مَعَ شِدَّةِ حَاجَةِ الناسِ أوْ الدوْلةِ أوْ الحيوانِ إليه) والاحتكارُ حرامٌ على قولِ جمهورِ العلماءِ، وقد قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلّمَ "لا يحتكر إلا خاطئ" رواه مسلمٌ
والاحتكارُ فيه ظلمٌ للناسِ، وظلمٌ للسُّوقِ، وظلمٌ للتُّجّارِ.
عبادَ اللهِ: ومما يتعارضُ معَ أحكامِ الشرعِ المطهرِ، ومقاصدِه العظيمةِ، وأهدافِه الساميةِ؛ التستّرُ التجاريُّ بجميعِ أنواعِه وصورِه وأشكالِه، فالتستُّرُ هدْمٌ لاقتصادِ البلدِ، وإضرارٌ بالآخرينَ الملتزمينَ بالأنظمةِ والتشريعاتِ، وظلمٌ للنفسِ بإدخالِ المالِ الحرامِ عليها، وظلمٌ أيضاً للمتستَّرِ عليه بالأكلِ مِنْ تعبِه وعرقِه بغيرِ حقٍّ شرعيٍّ.
وبعدُ عبادَ اللهِ: الإسلامُ دينُ السّماحةِ في كلِّ الأمورِ والشؤونِ، وقدْ نصَّ على السّماحةِ في البيعِ والشراء خصوصاً؛ لِعِظَمِ الحاجةِ لهذا الخُلُقِ في هذا المجالِ، قالَ عليه الصلاةُ والسّلامُ: "رحمَ اللهُ رجلاً سمحًا إذا باعَ، وإذا اشترى، وإذا اقتضى" رواه البخاري
والسماحةُ في البيعِ؛ حسنُ المنطقِ، وطلاقةُ الوجهِ، والابتسامةُ، والملاطفةُ، والإعانةُ والخدمةُ، والقناعةُ بالربحٍ اليَسيرِ، والصّدقُ بالمعاملةِ، وبيانُ العيوبِ، وسلاسةُ الإجراءاتِ عند إرجاعِ السلْعَةِ، ونحو هذا ممَّا يدخلُ في بابِ السّماحَةِ.
هذا وصلوا وسلموا على مَنْ أمركم بالصلاةِ والسلامِ عليه اللهُ حيثُ يقولُ: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"
المشاهدات 1516 | التعليقات 3
جزاك الله خيراً ورحم والديك
- جزاك الله خيراً ورحم والديك
تركي العتيبي
اجمل خطبة ياشيخ
الله يسعدك
تعديل التعليق