حذيفة رضي الله عنه للفتن واصفا ولسبيل النجاة مبينا
محمد بن عبدالله التميمي
الحمد لله الملك الحق المبين، هدى إلى صراطه المستقيم، وأبان سبيل دينه القويم، وأمر بالاستقامة، ونهى عن الضلالة، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله بلغ ما أنزل إليه من ربه، فأقام الحجة، وأوضح المحجة، فجعلنا على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فاتَّقوا اللهَ، واعمَلوا، فإنَّما هي الجنَّةُ والنّارُ، خُلودٌ فلا مَوتَ، وإقامةٌ فلا ظَعنَ، وليس للمرء إلا ما عمل إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وكلُّ صاحِبٍ استصحَبَه أحدٌ خاذِلُه وخائِنُه، إلّا العَملَ الصّالحَ، وهذا من وصية رسول الله، وقد قال الله تعالى: (وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين) .
عباد الله.. إن مما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتذاكره مع أصحابه، ويتذاكره أصحابه فيما بينهم ويوصي بعضهم بعضا بالأخذ بأسباب النجاة من الفتن، فالإنسان معرض في الدنيا للفتن، وفي حياة البرزخ معرض للفتن كما قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم تفتنون في قبوركم) وفي الآخرة معرض للفتن ولا يأمن من الفتن إلا من أمنه الله عز وجل بدخول الجنة فحينئذ رشاد ولا خوف ورشاد ولا فتنة–نسأل الله الكريم من فضله- . عباد الله.. لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعقد المجلس لذكر الفتن كما في صحيح مسلم قال حذيفة رضي الله عنه: (ولكن رسول الله ﷺ قال وهو يحدث مجلسا أنا فيه عن الفتن : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعد الفتن: منهن ثلاث لا يكدن يذرن شيئا , ومنهن فتن كرياح الصيف منها صغار ومنها كبار). وإن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه كان أعلم الناس بالفتن وأنواعها وأسباب النجاة منها كما قال رضي الله عنه: (والله إني لأعلم الناس بكل فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة، وَما بي إلّا أَنْ يَكونَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَسَرَّ إلَيَّ في ذلكَ شيئًا، فذَهَبَ أولئكَ الرَّهْطُ كُلُّهم غَيري) رواه مسلم، فهو صاحب سر النبي صلى الله عليه وسلم، وكثُر حديثه لتأخُّرِ وفاتِه رضي الله عنه عمن شهد معه مجالس النبي صلى الله عليه وسلم في الفتن، وأيضا: عنايته بسؤال النبي صلى الله عليه وسلم عنها واستقصائه، كما قال رضي الله عنه: (فما منه شيء إلا وقد سألته عنه) رواه الحاكم، ومن ذلك ما في الصحيحين أنه رضي الله عنه قال : كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ,وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني . فقلت : يا رسول الله إنا كنا في الجاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال: (نعم) . قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال: (نعم وفيه دخن) قلت: وما دخنه ؟ قال : (قوم يهدون بغير هديي تعرف منهم وتنكر) . قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : (نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها) . قلت: يا رسول الله صفهم لنا . فقال: (هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : (تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال : (فاعتزل تلك الفرق كلها , ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) زاد أحمد وأبوداود: قلت : ثم ماذا ؟ قال : (ثُمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ مَعَهُ نَهْرٌ وَنَارٌ، فَمَنْ وَقَعَ فِي نَارِهِ، وَجَبَ أَجْرُهُ، وَحُطَّ وِزْرُهُ، وَمَنْ وَقَعَ فِي نَهْرِهِ، وَجَبَ وِزْرُهُ، وَحُطَّ أَجْرُهُ) قال: قلت ثم ماذا ؟ قال: (ثم هي قيام الساعة)، وفي الصحيحين واللفظ لمسلم قال رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (لأنا أعلم بما مع الدجال منه معه نهران يجريان أحدهما رأى العين ماء أبيض , والآخر رأى العين نار تأجج ؛ فإما أدركن أحد فليأت النهر الذي يراه نارا وليغمض ثم ليطأطئ رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد, وإن الدجال ممسوح العين عليها ظفرة غليظة مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب) .
عباد الله.. كان الصحابة بل كبارهم يسألونه عنها كما في الصحيحين قال حذيفة : كُنّا عِنْدَ عُمَرَ، فقالَ: أيُّكُمْ سَمِعَ رَسولَ اللهِ ﷺ يَذْكُرُ الفِتَنَ؟ فقالَ قوْمٌ: نَحْنُ سَمِعْناهُ، فقالَ: لَعَلَّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرَّجُلِ في أهْلِهِ وجارِهِ؟ قالوا: أجَلْ، قالَ: تِلكَ تُكَفِّرُها الصَّلاةُ والصِّيامُ والصَّدَقَةُ، ولَكِنْ أيُّكُمْ سَمِعَ النبيَّ ﷺ يَذْكُرُ الَّتي تَمُوجُ مَوْجَ البَحْرِ؟ قالَ حُذَيْفَةُ: فأسْكَتَ القَوْمُ، فَقُلتُ: أنا، قالَ: أنْتَ لِلَّهِ أبُوكَ. قالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ ﷺ يقولُ: (تُعْرَضُ الفِتَنُ على القُلُوبِ كالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأَيُّ قَلْبٍ أنْكَرَها، نُكِتَ فيه نُكْتَةٌ بَيْضاءُ، حتّى تَصِيرَ على قَلْبَيْنِ، على أبْيَضَ مِثْلِ الصَّفا فلا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ ما دامَتِ السَّمَواتُ والأرْضُ، والآخَرُ أسْوَدُ مُرْبادًّا كالْكُوزِ، مُجَخِّيًا لا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، ولا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إلّا ما أُشْرِبَ مِن هَواهُ). قالَ حُذَيْفَةُ: وحَدَّثْتُهُ، أنَّ بيْنَكَ وبيْنَها بابًا مُغْلَقًا يُوشِكُ أنْ يُكْسَرَ، قالَ عُمَرُ: أكَسْرًا لا أبا لَكَ؟ فلوْ أنَّه فُتِحَ لَعَلَّهُ كانَ يُعادُ، قُلتُ: لا بَلْ يُكْسَرُ) قلنا لحذيفة : أكان عمر يعلم الباب ؟ قال: (نعم كما يعلم أن دون غد ليلة , وذلك أني حدثته حديثا ليس بالأغاليط) فهبنا أن نسأله من الباب ؟ فأمرنا مسروقا فسأله فقال من الباب؟ قال عمر . وهكذا ما كان منه رضي الله عنه من الحرص على البلاغ كما في المسند: (يا أيُّها النّاسُ، ألا تَسأَلوني؟) ومن ذلك ما يبتدر الحديث به كما في الصحيحين قال حذيفة رضي الله عنه: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة . وحدثنا عن رفعها قال : ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل ؛ كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه منتبرا ؛ وليس فيه شيء فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة فيقال: إن في بني فلان رجلا أمينا , ويقال للرجل : ما أعقله وما أظرفه وما أجلده ؛ وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان . ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت لئن كان مسلما رده علي الإسلام , وإن كان نصرانيا رده علي ساعيه, فأما اليوم فما كنت أبايع إلا فلانا وفلانا)
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، أَقولُ قَولي هَذا، وأَستغفِرُ اللهَ لي وَلَكُم.
(الخطبة الثانية)
أما بعد: فإن مما تنبغي العناية به: الأخذ بأسباب النجاة: فمن ذلك لزوم كتاب الله علما وفهما قال حُذَيفة: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، بعدَ هذا الخيرِ شرٌّ؟ فقال: يا حُذَيفةُ، تعلَّمْ كتابَ اللهِ، واتَّبِعْ ما فيه -ثلاثَ مِرار-، والسنة قرينة القرآن بلزومها كما هي وصية رسول الله ﷺ: (كتابَ الله وسنتي) أي: الزموا كتاب الله وسنتي . ومن ذلك لزوم منهج السلف كما قال حذيفة " إِنَّ الضَّلالَةَ حَقَّ الضَّلالَةِ أَنْ تَعْرِفَ مَا كُنْتَ تُنْكِرُ ، وَتُنْكِرَ مَا كُنْتَ تَعْرِفُ ، فَانْظُرِ الَّذِي أَنْتَ عَلَيْهِ الْيَوْمَ فَتَمَسَّكْ بِهِ ، فَإِنَّهُ لا يَضُرُّكُ فِتْنَةٌ بَعْدُ " ومن ذلك ما تقدم من لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، واعتزال الأحزاب والجماعات، ولو أن يعض المرء بأصل شجرة حتى يدركه الممات، ومن ذلك اجتناب مواقع الفتن والتطلع والترأس، وكذا الحديث في كل شاذة وفاذة، قال حذيفة: " أَتَتْكُمُ الْفِتَنُ مِثْلَ قِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ , يَهْلِكُ فِيهَا كُلُّ شُجَاعٍ بَطَلٍ ، وَكُلُّ رَاكِبٍ مُوْضِعٍ ، وَكُلُّ خَطِيبٍ مِصْقَعٍ " ويكون حالك كما قال حذيفة : (كن إذا كابن المخاض لا رَكوبة فتُركَب، ولا حَلوبة فتُحلب). ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال حذيفة قال صلى الله عليه وسلم (والذي نفسي بيدِه لتَأمرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عن المنكرِ أوليُوشِكَنَّ اللهُ أن يَبعثَ عليكمْ عقابًا منهُ فتدعونهُ فلا يَستجيبُ لكمْ) رواه الترمذي وحسنه . ومن ذلك صحبة أهل الصلاح والسنة، قال حذيفة رضي الله عنه «سيأتي عليكم زمان لا يكون فيه شيء أعز من ثلاثة: درهم من حلال، أو أخ يُوثَقُ به، أو سنة يُعمل بها» ومن ذلك الدعاء بالأمن من الفتن وذلك دبر كل صلاة قبل السلام كما في صحيح مسلم من حديث عن أبي هريرة: (إِذا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الآخِرِ، فَلْيَتَعَوَّذْ باللَّهِ مِن أَرْبَعٍ: مِن عَذابِ جَهَنَّمَ، وَمِنْ عَذابِ القَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ المَحْيا والْمَماتِ، وَمِنْ شَرِّ المَسِيحِ الدَّجّالِ)، وفي صحيح مسلم عن عبدالله بن عباس: أنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ كانَ يُعَلِّمُهُمْ هذا الدُّعاءَ كما يُعَلِّمُهُمُ السُّورَةَ مِنَ القُرْآنِ، وهكذا يُكثر المسلم من الدعاء بالعياذ من الفتن ويلح على ربه، فقد قال حذيفة رضي الله عنه: (ليأتين على الناس زمان لا ينجو فيه إلا الذي يدعو كدعاء الغريق) .
المرفقات
عن-حديث-حذيفة-في-الفتن-وصفا-ولسبيل-النج
عن-حديث-حذيفة-في-الفتن-وصفا-ولسبيل-النج