حَدِيثُ: ( مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ... )
مبارك العشوان 1
الْحَمْدُ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ رَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ وَابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ )
الجَارُ هُوَ: المُجَاوِرُ لِلْبَيْتِ المُلَاصِقُ لَهُ، وَالقَرِيبُ مِنْهُ.
وَقَدْ أَوْصَى الشَّرْعُ بِهِ؛ وَأَكَّدَ عَلَى حَقِّهِ؛ قَالَ اللهُ تَعَــــالَى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } النساء 36
يَقُولُ القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: أَمَّا الْجَارُ؛ فَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِحِفْظِهِ، وَالْقِيَامِ بِحَقِّهِ، وَالْوَصَاةِ بِرَعْيِ ذِمَّتِهِ؛ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ؛ أَلَا تَرَاهُ سُبْحَانَهُ أَكَّدَ ذِكْرَهُ بَعْدَ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ...الخ
وَيَقُولُ ابنُ حَجَرٍ رَحِمَهُ اللهُ: وَاسْمُ الْجَارِ يَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ، وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ، وَالصَّدِيقَ وَالْعَدُوَّ، وَالْغَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ، وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ، وَالْقَرِيبَ وَالْأَجْنَبِيَّ، وَالْأَقْرَبَ دَارًا وَالْأَبْعَدَ؛ وَلَهُ مَرَاتِبٌ بَعْضُهَا أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ...الخ
عِبَادَ اللهِ: يَقُولُ العُلَمَاءُ: الجِيْرَانُ ثَلَاثَةٌ:
جَارٌ مُسْلِمٌ قَرِيْبٌ؛ فَلَهُ حَقُّ الجِوَارِ وَالإِسْلَامِ وَالقَرَابَةِ.
وَجَارٌ مُسْلِمٌ غَيْرُ قَرِيْبٍ؛ فَلَهُ حَقُّ الجِوَارِ وَالإِسْلَامِ.
وَجَارٌ كَافِرٌ؛ فَلَهُ حَقُّ الجِوَارِ، فَإِنْ كَانَ قَرِيْبًا؛ فَلَهُ حَقُّ الجِوَارِ وَالقَرَابَةِ.
وَمِمَّا جَاءَ فِي الوَصِيَّةِ بِالجَارِ: قَولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ...) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: ( فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ ) وَفِي رِوَايَةٍ: ( فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ ) وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: ( فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ ).
فَكَمَا حَرَّمَ الشَّرْعُ أَذِيَّةَ الجَارِ؛ فَقَدْ أَمَرَ بِالإِحْسَانِ إِلَيهِ وَإِكْرَامِهِ.
وَصُورُ الإِحْسَانِ إِلَى الجَارِ وَإِكْرَامِهِ كَثِيرَةٌ؛ وَلَعَلَّ مِنْ أَبْرَزِهَا: مَا جَاءَ فِي قَولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَسَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ ). رَوَاهُ مُسْلِمٍ.
وَهَكَذَا مَا جَاءَ فِي قَولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فَلِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ حُقُوقًا؛ سَوَاءً كَانَ جَارًا أَمْ لَمْ يَكُنْ، فَإِنْ كَانَ جَارًا كَانَ حَقُّهُ أَعْظَمُ.
وَمِنْ صُوَرِ الإِحْسَانِ لِلْجَارِ: البَشَاشَةُ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ وَطِيْبُ الكَلَامِ مَعَهُ، وَتَفَقُّدُ حَالِهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ.
وَمِنْهَا: الصَّبْرُ عَلَى أَذَاهُ، وَتَحَمُّلُ الخَطَأِ مِنْهُ أَوْ مِنْ أَوْلَادِهِ. وَمِنْهَا: بَذْلُ الهَدِيَّةِ؛ وَلَو كَانَتْ يَسِيرَةً؛ يَقُولُ النَّبِيُّ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: ( يَا نِسَاءَ المُسْلِمَاتِ، لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَفِرْسِنَ الشَّاةِ: ظِلْفُهَا.
وَيَقُـولُ عَلَيهِ الصَّـلَاةُ وَالسَّـلَامُ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِـيَ اللهُ عَنْــــهُ
: ( يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً، فَأَكْثِرْ مَاءَهَا، وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ صُوَرِ الإِحْسَانِ: مَا جَاءَ فِي البُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( لَا يَمْنَعْ جَارٌ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ ) ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: مَا لِي أَرَاكُمْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ وَاللهِ لَأَرْمِيَنَّ بِهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمْ )
وَمِنْ أَعْظَمِ الإِحْسَانِ إِلَى الجَارِ: بَذْلُ النَّصِيْحَةِ لَهُ؛ وَحَثُّهُ عَلَى الخَيْرِ، وَتَحْذِيْرُهُ مِنَ الشَّرِّ؛ وَأَمْرُهُ بِالمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُ عَنِ المُنْكَرِ؛ مَعَ الرِّفْقِ بِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ.
جَعَلَنِي اللهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ المُحْسِنِينَ فِي عِبَادَتِهِ؛ المُحْسِنِينَ إلى عِبَادِهِ.
وَبَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ العَظِيمِ وَنَفَعَنَا بِمَا فِيهِ مِنَ الآيِ وَالذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَأَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمْ.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَهَذِهِ بَعْضُ أَبْوَابِ الإِحْسَانِ إِلَى الجَارِ، وَغَيْرُهَا كَثِيْرٌ؛ أَمَّا إِيْذَاؤهُ؛ فَمِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ؛ وَقَدْ جَاءَ عَلَيهِ الوَعِيدُ الشَّدِيدُ؛ فِي قَولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلمَ: ( وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، وَاللهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُــولَ اللهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ) رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ( لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ) وَالبَوَائِقُ: الغَوَائِلُ وَالشُّرُورُ.
عِبَادَ اللهِ: مِنْ عَظَائِمِ الذُّنُوبِ وَكَبَائِرِهَا: إِيْذَاءُ الجَارِ فِي عِرْضِهِ؛ - وَالعِيَاذُ بِاللهِ - يَقُولُ ابنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: سَأَلْتُ، أَوْ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلمَ: أَيُّ الذَّنْبِ عِنْدَ اللهِ أَكْبَرُ؟ قَالَ: ( أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: أَنْ تُزَانِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِكَ، قَالَ: وَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلمَ: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ } رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَمِنْ أَذَى الجِيْرَانِ: إِلْقَاءُ النِّفَايَاتِ فِي طُرُقَاتِهِمْ، وَإِيْقَافُ السَّيَّارَاتِ أَمَامَ أَبْوَابِهِمْ، وَإِزْعَاجُهُمْ بِالرَّوَائِحِ الكَرِيْهَةِ وَالمُحَرَّمَةِ؛ كَالدُّخَّانِ وَالشِّيْشَةِ وَغَيْرِهَا، أَوْ بِالْأَصْوَاتِ المُحَرَّمَةِ كَالْأَغَـانِي وَالمُوسِيْقَى وَنَحْوِهَا، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُعَدُّ مِنَ الأَذَى.
أَلَا فَاتَّقُوا اللهَ - رَحِمَكُمُ اللهُ - فِي جِيْرَانِكُمْ
( مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ ).
ثُمَّ صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى مَنْ أَمَرَكُمُ اللهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيهِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: { إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا }الأحزاب 56
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، اللَّهُمَّ وَانْصُرْ عِبَادَكَ المُوَحِّدِينَ، اللَّهُمَّ وَعَلَيكَ بِأَعْدَائِكَ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ. اللَّهُمَّ أصْلِحْ أئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلَاةَ أمْرِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا وَإِيَّاهُمْ لِهُدَاكَ، واجْعَلْ عَمَلَنَا فِي رِضَاكَ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَنَا وَدِينَنَا وَبِلَادَنَا بِسُوءٍ فَرُدَّ كَيْدَهُ إِلَيهِ، وَاجْعَلْ تَدْبِيرَهُ تَدْمِيرًا عَلَيهِ، يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ.
عِبَادَ اللهِ: اُذْكُرُوا اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيْمَ يَذْكُرْكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ وَلَذِكْرُ اللهِ أكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.
المرفقات
1689175435_حديث مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ 1444.pdf
1689175457_حديث مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ 1444.docx