حديث : ( سبعة يظلهم الله في ظله ... ) وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا

مبارك العشوان
1437/04/26 - 2016/02/05 02:04AM
إن الحمد لله ... أما بعد: فاتقوا الله... مسلمون.
عباد الله: في حديث السبعة الذين يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعَالَى في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ؛ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ( وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ ). رواه البخاري ومسلم.
عطاءٌ عظيم، ووعدٌ من ربٍّ كريمٍ رحيم، لمن تفيض عينه بالدمع لذكر ربه، سواءً ذكرَ ربَّهُ بلسانِهِ، أو بقلبِه.
يذكرُ سَعَةَ رحمةِ الله جل وعلا، وما أعدَّ لأوليائهِ من النعيم المقيم فيرجوا ويبكي، ويذكرُ شدة عذابه تبارك وتعالى وما أعدَّ لأعدائه من العذاب الأليم، فيخشى ويبكى، ويتفكر في أسماء الله الحسنى وصفاته العليا فيبكي حبا وتعظيما وإجلالاً.
يقرأ القرآن أو يستمع له ويتدبره؛ فيبكي، يقول ابن مسعود رضي الله عنه: قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ: { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا وفي البخاري بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا } قَالَ أَمْسِكْ فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ) رواه البخاري. هذا نبينا صلى الله عليه وسلم، وهكذا الأنبياء قبله عليهم جميعا صلوات ربي وسلامه؛ قال الله تعالى عنهم: { أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً } يقول الشنقيطي رحمه الله: بيَّنَ فيه أن هؤلاء الأنبياء المذكورين إذا تتلى عليهم آيات ربهم بكوا وسجدوا.
وأشار إلى هذا المعنى في مواضع أخر بالنسبة إلى المؤمنين لا خصوصَ الأنبياء، كقوله تعالى: { قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } وقوله: { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } وقوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً }، وقوله تعالى: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ }، فكل هذه الآيات فيها الدلالة على أنهم إذا سمعوا آيات ربهم تتلى تأثروا تأثراً عظيماً، يحصل منه لبعضهم البكاء والسجود، ولبعضهم قشعريرة الجلد ولين القلوب والجلود، ونحو ذلك. اهـ.
يسمع المسلم الموعظة فيتأثر بها ويبكي، كما بكى قبله صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهم وأرضاهم؛ يقول الْعِرْبَاضَ بْنَ سَارِيَةَ رضي الله عنه قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً وَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ... ) أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.
وعن أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ، فَخَطَبَ، فَقَالَ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، قَالَ فَمَا أَتَى عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمٌ أَشَدُّ مِنْهُ، قَالَ غَطَّوْا رُءُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ... ) الخ رواه مسلم. رضي الله عن صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم.
وبارك تعالى لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله... أما بعد: فيقول المناوي رحمه الله: وأعلم أن البكاء إما من حزن، وإما من وجع وإما من فزع وإما من فرح وإما من شكر وإما من خشية من الله تعالى وهو أعلاها درجة وأغلاها ثمنا في الدار الآخرة، ويقول الإمام ابن رجب رحمه الله عند حديث السبعة: فهذا رَجُلٌ يخشى اللهَ فِي سرِّهِ، ويراقبه فِي خلوته، وأفضلُ الأعمالِ خشيةُ الله فِي السر والعلانية. وخشيةُ الله فِي السر إنما تصدر عَن قوة إيمان، ومجاهدةٍ للنفس والهوى، فإن الهوى يدعو فِي الخلوة إلى المعاصي، ولهذا قيل: إن من أعز الأشياء الورع فِي الخلوة. أ هـ.
العمل في الخلوة عباد الله أقربُ للإخلاص، وأبعدُ عن الرياءِ والتطلعِ إلى مدحِ الناسِ وثنائِهم.
يخلو الإنسان بنفسه، يذكرُ ربه تعالى ويناجيه، ويرفع حوائجه إليه؛ فتفيض عيناه بالدمع، بعيدا عن أعين الناس، فيعتقه الله من النار؛ وفي الحديث: ( لاَ يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ فِى الضَّرْعِ وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني. وفي الحديث الآخر: ( عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) أخرجه الترمذي وصححه الألباني.
عباد الله: وينبغي لمن بكى من خشية الله أن يتجنب رفع الصوت والصياح، بل يخفي ذلك ما استطاع؛ ولهذا ذُكر عن أيوبَ السختياني رحمه الله أنه ربما حدَّث بالحديث فيرق فيتمخط ويقول ما أشد الزكام يُظهر أنه مزكوم لإخفاء البكاء، وكان الرجل يجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها, فإذا خشي أن تسبقه قام.
تأملوا رحمكم الله ما جاء في الآيات والأحاديث؛ يتضح لكم هذا المعنى: { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ }{ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ }( ففاضت عيناه )( وَذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ )(عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ ) هذا هديه عليه الصلاة والسلام؛ وهو خير الهدي ولم يعلم ابن مسعود رضي الله عنه ببكائه إلاّ بعد أن التفت إليه ونظره.
عباد الله: ثم اعلموا رحمكم الله أن هناك أسبابا لرقة القلوب فاحرصوا عليها، وأسبابا لقسوة القلوب فاحذروها.
وإن مما يرقق القلوب: الحرص على الأعمال الصالحة؛ ومن ذلك كثرة ذكر الله تعالى، وقراءة القرآن بتأنٍّ وتدبر، وتذكر الموت واليوم الآخر، والحرص على الصلوات والتبكير إليها، وحضور مجالس الذكر، وإطابة المطعم، وعيادة المرضى، واتباع الجنائز، وزيارة المقابر.
أما قسوة القلوب؛ فأعظمُ أسبابها: كثرةُ المعاصي، والإصرارُ عليها؛ وفي الحديث: ( إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أخرجه الترمذي وحسنه الألباني. قال الحسن رحمه الله: الذنب على الذنب، ثم الذنب على الذنب حتى يغمرَ القلبَ فيموت، فإذا مات قلب الإنسان لم ينتفع به صاحبه.
وقال عبد الله بن المبارك:
رأيت الذنوبَ تميت القلوبَ وقد يورث الذلَّ إدمانُها
وتركُ الذنوب حياة القلـوب وخيرٌ لنفسك عصيـانها
اللهم أصلح قلوبنا، وارزقنا خشيتك في الغيب والشهادة، اللهم أعز الإسلام... اللهم صلِّ على ... عباد الله: اذكروا الله...
المشاهدات 1736 | التعليقات 1

بارك الله فيك وفي قلمك
خطبة جميلة مفيدة مختصرة
لاحرمك الله أجرها