حديث رمضان تصحيح الجهاد
مبارك الجزائري
1434/09/01 - 2013/07/09 12:15PM
حديث رمضان
تصحيح الجهاد
ــــــــــــــــــــــــــــــتصحيح الجهاد
لم تبتذل كلمة عربية مثل ما ابتذلت كلمة "الجهاد" على ألسنة هذا الجيل في الشرق الإسلامي، فلعلّها أصبحت أكثر الكلمات دورانًّا على الألسنة، وسيرورة في الأفواه، ووصفًا بها لكل غاد ورائح، ومع هذا الدوران الكثير لا توجد كلمة أفرغ من معناها منها.
والكلمات الفارغة من المعاني كالأجساد الفارغة من الأرواح: تلك كلمات ميتة وهذه أجساد ميتة، وما كانت الأجساد نافعة إلا بالأرواح، ولا تكون الكلمات صادقة إلا بتحقيق معانيها في الخارج، والأرواح في الأجساد، والمعاني للألفاظ هما معنى الحياة وما تستتبعه من آثار.
تساهلنا في هذه الكلمة ومشتقاتها حتى أصبحنا نطلقها على كل عمل سخيف، ونصف بها كل عامل ضعيف، واستطابها العجزة القاعدون منّا فأصبحوا يطربون لوصفهم بها، ويبذلون الكرائم لتحليتهم بوصفها، وملك التساهل على الألسنة والأقلام أمرها فأصبحت تضع هذه الكلمة وغيرها في غير موضعها وتجود بها على غير مستحقّيها.
أتدرون لماذا يغضب الناس من وصفهم بالمكروهات ولو كانت موجودة فيهم، ولا يغضبون لوصفهم بالمحبوبات إذا كانت مفقودة منهم؟ فالبخيل المسيك يأنف أن يوصف بالبخل ويطرب إذا وصفته بالكرم، والجبان الرعديد يغضب أن يوسم بالجبن، ويرتاح إذا وصفته بالشجاعة.
علّة العلل في ذلك هي ضعف التربية الأخلاقية فينا معشر الشرقيين، وبعد المسافة بين القول والعمل عندنا، واختلال الموازين العقلية في تقديرنا، ونسياننا للواقع حين نتناول الأشياء بالوزن والمقارنة. إن هذه النقائص تبتدئ في الفرد فلا يظهر أثرها، ثم تنتقل إلى المجموعات فتبرز آثارها السيّئة، فتكون بلاء وشرًا وخضوعًا واستسلامًا.
ولقد مرّت من تاريخ الإسلام حقب صالحة كان السلطان فيها للفضيلة، فصحّت الموازين، وعرفت القيم، فكان الواحد من أولئك القوم يرى من أبلغ السب أن تمدحه بما ليس فيه، ثم هجمت علينا الرذائل يقودها الغرور والأنانية والمبالغة فأفسدت علينا تربيتنا النفسية، وجرّ شيء إلى أشياء حتى انتهينا إلى هذا الانحطاط الخلقي الذي نرى آثاره، ونتجرعّ مرارته.
الجهاد- أيها المسلمون- لفظ قليل، تحته معنى جليل. هو صرف القوى الروحية والعقلية والفكرية، تظاهرها القوى المادية، إلى تحقيق غرض مما ينفع الناس؛ ويتفاوت شرف الجهاد بتفاوت ذلك الغرض في النفع، فإذا لم يكن للجهاد غاية ولم يكن فيه نفع كان جهدًا ضائعًا وسعيًا عقيمًا، أما إذا كان وصفًا تطلقه الألسنة كما هو واقع في زماننا هذا فهو نفاق يصطنعه الطامعون، وتزوير يتعلل به الفارغون.
وشوقي يقول: إذا كثر الشعراء قلّ الشعر، ونقول على وزنه: إذا كثر المجاهدون قل الجهاد.
تكررت في النصوص القرآنية كلمة "الجهاد بالنفس" في معرض الأوامر التكليفية. والأوامر الدينية بمعانيها الكاملة إنما تتوجّه إلى أصحاب النفوس الكاملة التي اطمأنت للإيمان بالله، والإيقان بالحق الذي يدعو إليه، والرضا بأحكامه الدينية والقدرية. وجعل الحياة المحدودة مطية للحياة الخالدة. وما وصل أصحاب هذه النفوس إلى هذه الدرجة من الكمال إلا بعد جهاد في النفس، هيّأها للجهاد بالنفس ثم دفعها إليه.
فأعلى مراتب الجهاد وأصله الذي تتفرّع منه فروعه هو الجهاد في النفس حتى تستقيم على صراط الحق والفضيلة، وتستعدّ لما بعد ذلك من أنواع الجهاد الخارج عن النفس. والنفس البشرية كسائر الكائنات الحية يجب أن تتعاهد بالتربية الصالحة، وتراض على الفضائل والكمالات وإن شقّت، حتى ترجح قابليتها للخير على قابلية الشر، وكل هذا يفتقر إلى جهود، فهو جهاد فيه كل خصائص الجهاد بمعناه الخاص الضيّق، ويزيد عليه بأنه أصله وأساسه، وقد وردت الآثار بتسميته "الجهاد الأكبر". والمعلم والمربي لا يغنيان في هذا الباب ما يغني صاحب النفس، فهو أقدر على كبح جماحها، ومراقبة دخائلها، وضبط أنفاسها، وتنظيم خواطرها، وقمع نزعاتها الباطلة وحظوظها السافلة ونزواتها الشهوانية، وإفاضة النور المبدّد للظلام في جوانبها.
أيها المسلمون:
إننا لا نصدق الجهاد في عدوّنا الخارجي إلا إذا صدقنا- قبل ذلك وتوطئة لذلك- الجهاد في نفوسنا التي بين جنوبنا، جهادًا يصفي أكدارها، ويطهّرها من المطامع الدنية والأغراض السخيفة، والشهوات الحيوانية، حتى إذا لقينا العدو الخارجي لقيناه بنفوس مطمئنة، وبصائر مستنيرة، وعزائم مصمّمة، وقلوب متّحدة على غاية واحدة يسوقها سائق نفساني واحد قبل سائق العلم والنظام، وتدفعها قوة نفسية واحدة قبل دافع المادة والآلة. إن النظام والآلة والعلم كلها مكملات تأتي بعد إعداد النفوس.
وإننا لا ننتصر على العدو الخارجي حتى ننتصر على العدو الداخلي وهو نفوسنا، فلنبدأ بها، فمن سنّة القتال {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ}.
الطمع وحب الجاه والغرور والحسد والأنانية والبغضاء والحقد والبخل ... كلها نقائص في نفوسنا يجب أن نطهرها منها، وكلها مداخل لعدوّنا يأتينا منها، فيجب أن نسدّها عليه، ولهي- والله- أضرّ علينا من ثغورنا المفتوحة في وجه العدو.
إن أعداءنا الذين ملكوا رقابنا واحتلّوا أوطاننا وسامونا الذلة والهوان واستعبدونا شر استعباد، إنما استعلوا بأخلاقهم القوية على أخلاقنا الضعيفة، ثم استعانوا بنا علينا، فمتى طلبوا خائنًا لوطنه منا وجدوا العشرات، ومتى التمسوا جاسوسًا يكشف لهم عن أسرارنا ويدلهم على عوراتنا وجدوا المئات، ومتى التمسوا ناعقًا بالفرقة فينا أو ناشرًا للخلاف بيننا وجدوا الآلاف، ومتى أرادوا حاكمًا منّا على أن يسمع لهم ويطيع ويبيعهم مصالح بلاده وجدوه فوق ما يريدون، وما ذلك إلا لأن نفوسنا أنهكتها الرذائل وتحيفتها النقائص.
أيها المسلمون:
هذا شهر رمضان وهو المدرسة الإلهية التي تعلم الجهاد في النفس، وهو الميدان الذي تجري فيه التمرينات القاسية والإعداد الكامل والامتحان الشامل، فإما نجاح في جهاد النفس يخرج صاحبه بشهادة "قوة الإرادة" و "صدق العزيمة"، وإما إخفاق يحمل صاحبه شارة العبودية والهزيمة.
إن قوة الإرادة هي التي ملكت زمام العالم فيما ترون وتسمعون، وإن قوي الإرادة هو الذي لا يدع المجال لشهوات النفس وملذاتها الزائلة أن تنزل به عن مقامات العزة والسيادة والشرف، إلى مواطن الذل والعبودية والضعة.
وإن صوم رمضان جهاد أي: جهاد في النفس التي هي مصدر الملكات كلها، لأنه هجر للشهوات المستولية على البطون والفروج والألسنة، وقمع لأضرى الغرائز الحيوانية، وترويض على الإحسان والبر والرحمة، واشتراكية سلبية بين الأغنياء والفقراء في أخصّ خصائص الفقر وهو الجوع، وتجويع جبري يذوق به الناعم طعم الخشونة، والواجد طعم العدم، والمبطان ألم الجوع، ليعرف من هذا الدرس العملي السنوي ما يقاسيه الجياع الطاوون. ولو أن مواعظ الوعاظ كلها سكبت في أذن الغني المنعم الذي لم يجع في حياته، واصفة له الجوع وآلامه وما يلقاه الجائع المحروم من ذلك، لما بلغت من نفسه عشر ما تبلغه جوعة يوم طويل، لأن كلام الوعاظ مهما يبلغ من التأثير لا يَعْدُ أن يكون تصويرًا ينتج التصوّر، أما الجوع الحقيقي فإنه تطبيق وتصديق، ومن لم يذق لم يعرف.
ليس لله حاجة في أن ندع الطعام والشراب في هذا الشهر وإنما له في ذلك حكمة عالية، وهي أن نجاهد أنفسنا ونروّضها على تحمّل المكاره، ونرغمها بهجر شهواتها المألوفة وقمع نزواتها الطاغية لترقى من كثافة المادة إلى لطافة الروح، وأن نقوّي بذلك إرادتنا في شهر لنستعملها قوية في جميع الشهور.
إن الصوم يقوّي الروحانية ويغذّي الفضائل ويشدّ العزائم، ويغري الفكر بالسداد والإصابة، ويربّي الإرادات على الحزم والتصميم. وإن حياتكم اليوم حرب لا تنتصر فيها إلا الأخلاق المتينة، فاجعلوا من رمضان ميدانًا زمنيًا للتدريب على المغالبة بالأخلاق تنتصروا على عدوّكم، فتخرجوا هيبته من قلوبكم، ووسوسته من صدوركم، وجيوشه من بلادكم.
إن عدوّكم يعتمد على متانة الأخلاق قبل اعتماده على الحديد والنار، فأعدّوا له أخلاقًا أمتن تفلوا حديده وتطفئوا ناره.
إن عبيد الشهوات لا يتحررون أبدًا، فلا تصدّقوا أن من تغلبه شهواته يستطيع أن يغلب عدوًا في موقف.
ابدأوا بتحرير أنفسكم من نفوسكم وشهواتها ورذائلها، فإذا انتصرتم في هذا الميدان فأنتم منتصرون في كل ميدان.اهـ
آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله
رشيد بن ابراهيم بوعافية
جزاك الله خيرًا أستاذ مبارك .. اختيار موفّق . . وانظروا أحبّتي في الله في كلام الكبار نظرةَ بتمعّن وتدبّر و عُمق . . !
إنّه حين نفهم رمضان هذا الفهم . . وندرك أنه أخٌ شقيقٌ للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله حينها تتحرّر النفس . . وتعودُ القُدس . . وتكون كلمة الله يقينًا هي العليا في العقول والنفوس والأوضاع . . !
تعديل التعليق