حدد آخر لحظاتك.

عاصم بن محمد الغامدي
1437/05/24 - 2016/03/04 12:15PM
[align=justify]حدد آخر لحظاتك.
الخطبة الأولى:
الحمد لله أول الأمر وآخره، وباطنه وظاهره، أحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزِنة عرشه، ومدادَ كلماته، وأشهد أن لا إله إلا الله الحي القيوم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الرسول المأمون، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، فاتقوه وراقبوه وتوبوا إليه ولا تعصوه.
العمر بآخره، والعمل بخاتمته، من أحدث قبل السلام؛ بطل ما مضى من صلاته، ومن أفطر قبل غروب الشمس؛ ذهب صيامه ضائعًا، ومن أساء في آخر عمره؛ لقِي ربه بذلك الوجه.
والسعيد من أحسن اختيار طريقة وفاته، واهتم بها أكثر من حياته.
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
عباد الله:
شاب يسكن مدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودع أهله يومًا بعد أن صلى الظهر والعصر جمع تقديم، ولبس إحرامه، قاصدًا مكة المكرمة، لأداء مناسك العمرة، وفي الطريق وقع له حادث مروري ففاضت روحه إلى بارئها.
هنيئًا له، مات محرمًا، ملبيًا، حافظًا لكتاب الله، عقب أداء الصلاة.
وآخر عاد إلى منزله بعد عملية جراحية، ولما سمع المؤذن لصلاة الفجر وثب يتوضأ، ولم تثنه محاولات زوجه عن الخروج إلى المسجد، وما هي إلا لحظات وإذ بجاره يسمع تهليله، ويرى لحظة سقوطه وتوديعه لهذه الدنيا.
فهنيئًا له، أسلم الروح متوضئًا، في طريقه لصلاة الفجر، وهو يهلل ويكبر.
وفتاة في الخامسة عشر من عمرها، استأذنت من والديها في عصر يوم من أيام رمضان، وانطلقت إلى غرفتها تقرأ كلام الرحمن، وقبيل الغروب جاءت إليها أمها تنبهها لوقت الإفطار، فوجدتها ساجدة، فوقفت عند باب الغرفة تنتظرها، ولما طال انتظارها نادتها فلم تجب، فكررت النداء، ثم حركتها فسقطت الفتاة، لتعلن أنها أسلمت الروح إلى بارئها.
فهنيئًا لها توفيت في نهار رمضان، صائمة تقرأ القرآن، بارة بوالديها، مقبلة على طاعة ربها.
وعلى النقيض من ذلك، شاب يلقّن وقت احتضاره الشهادتين، فيجيب يا ليل ويا عين.
وآخر ودع الدنيا على خشبة المسرح، وهو يطرب الناس، ويعزف لهم أوتار عوده.
وثالث آخر لحظاته قضاها مع إبرة مخدرة، في دورة المياه، وأثرت الجرعة على دماغه، فدخل في غيبوبة، ثم توفي.
سبحان الله، كم شاهد الناس من هذا عبرًا؟ والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم وأعظم، فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوته وكمال إدراكه، قد تمكن منه الشيطان، واستعمله فيما يريده من العصيان، فكيف الظن به عند سقوط قواه، واشتغال قلبِه ونفسِه بما هو فيه من ألم النزع؟ وَجَمْعِ الشيطان له كل قوته وهمته، وحشده جميع ما يقدر عليه لنيل فرصته، هناك: {يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء}.
عبدالله:
كل إنسان يختار نهايته، لأن الله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، فهل يؤمر العاجز باختيار حاله عند الموت؟
قال ابن كثير رحمه الله في معنى هذه الآية: (حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه). ا.هـ
والاهتمام بحسن الختام، سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والهرم والبخل، وأعوذ بك من عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات". [متفق عليه].
قال بعض العلماء: فتنة المحيا: أن يفتتن بالدنيا، ويشتغل بها عن الآخرة، وفتنة الممات: سوء الخاتمة عند الموت، وعذابُ القبر مما يعرض له عند مساءلةِ الملكين، ومشاهدةِ أعماله السيئة في أقبح الصورـ [عمدة القارئ للعيني].
أيها المسلمون:
حسن الخاتمة هو: أن يوفَّق العبد قبل موته للتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأفعال الخيرات، ثم يكون موته على هذه الحال الحسنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله" قالوا: كيف يستعمله؟ قال: "يوفقه لعمل صالح قبل موته". [رواه الإمام أحمد والترمذي وصححه الحاكم في المستدرك].
وعلامات حسن الخاتمة نوعان، الأول يطلع عليه الميت عند احتضاره، وهو ما أخبر الله تعالى عنه بقوله: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}.
والنوع الثاني من علامات حسن الخاتمة ما يطلع عليه من يحضر الوفاة، ومنها:
ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". [رواه أبو داود وغيره وحسنه النووي].
ومنها الشهادة في سبيل الله، أو الموت بمرض الطاعون، أو بداء من أدواء البطن، أو بالغرق، أو بالهدم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الشهداء خمسة: المطعون، والمبطون، والغَرِق، وصاحب الهدم، والشهيد في سبيل الله". [رواه البخاري ومسلم].
ومنها الموت رباطًا في سبيل الله، فقد روى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتّان". ومن أسعد الناس بهذا الحديث رجال الأمن، وحرس الحدود برًا وبحرًا وجوًا على اختلاف مواقعهم إذا احتسبوا الأجر في ذلك.
ومنها الموت ليلة الجمعة أو نهارها لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر". [رواه الترمذي وحسنه الألباني].
ومن علامات حسن الخاتمة الخاصة بالنساء، موت المرأة في نفاسها بسبب ولدها أو وهي حامل به، فقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشهداء، وذكر منهم: "والمرأة يقتلها ولدها جمعاءَ شهادة، يجرها ولدها بسرره إلى الجنة". أي: بحبل المشيمة الذي يقطع عنه. [روى الإمام أحمد وغيره بسند صحيح].
عباد الله:
أما سوء الخاتمة، فهي الوفاة حال الإعراض عن الله، والإقبال على معصيته، ومن علاماتها التي لا يراها غير صاحبها، ما أخبر عنه النبي عليه الصلاة والسلام أن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه، ومن علاماتها الموت على معصية الله، وإظهار التعلق بالمحرمات عند نزول الوفاة، عياذًا بالله تعالى.
رزقنا الله عند الوفاة حسن الختام، وجنبنا موارد السيئات والآثام، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمدلله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وصلى الله وسلم على خير خلقه وخاتم رسله، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد:
عباد الله:
فكيف يطلب المرء حسن الخاتمة، وأيامه كلها مع ربه سيئة؟
هل يأمل السادر في غيه، المنهمك في ملذاته، الغارق في عصيانه وشهواته، أن تتنزل عليه الملائكة تبشره بالرحمات، وهو لم يحدث لله توبة، ولم يحصل من قلبه إنابة؟
ألا يعلم أن حسن الخاتمة علامة على حسن الحياة الماضية؟
ألم يسمع قوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون}.
من رغب في حسن الختام فليحسن الحياة، بتوحيد الله تعالى، والاستقامة على أمره، وتقواه والتوبةِ إليه، وترك معاصيه والابتعاد عما يسخطه.
واعلم رحمك الله:
أن عدم ظهور علامة على حسن خاتمة المرء ليس دليلاً على سوء طويته، فالعبرة بما يبشر به المرء دون ما يطلع عليه من حوله.
فيا مرحى للمبشر بالجنان، ورضا الرحمن، ويا حسرة من بشر بالنيران، وسخط الديان.
جعلنا الله ممن حسنت أعمالهم فحسن ختامهم، ووقانا شر أنفسنا، وشر الشيطان وشِرْكَهُ وَشَرَكَه.
ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال عز من قائل: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.[/align]
المشاهدات 1349 | التعليقات 0