حث المحسنين على إغاثة الملهوفين في فلسطين
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله الجوادِ الكريم فخيرُه مِدرار، «يَمِينُه مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ» أشهد ألا إله إلا اللهُ الواحدُ القهّار، وأشهدُ أن محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُجتَبَى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحبه الأخيار، وتابعيهم بإحسان سائر الأعصار، أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، في أنفسكم وأهليكم وأموالكم وما أعطاكم الله، أن تكونوا بهنَّ ساعين في رضاه، حَذِرين أن تكونوا فيهن من العُصاة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
عباد الله.. إنه لما كان العبد ممتحنا بأمواله وأولاده، فربما حمله محبةُ ذلك على تقديمِ هوى نفسِه على أداء أمانته، فأخبر الله تعالى أن الأموال والأولاد فتنة يبتلي الله بهما عباده، وأنها عاريَّةٌ ستُؤدَّى لمن أعطاها، وترد لمن استُودِعَها، فإن كان لكم عقل ورَأْيٌ، فآثروا فضله العظيم على لذة صغيرة فانية مضمحلَّة.
وإنَّ الله تعالى كما يبتلي العبدَ بالبأساء، بقلَّةِ المال فيكون من المساكين والفقراء، فإنَّ اللهَ تعالى يبتلي بالثراء، بوَفرة المال والزيادة والنَّماء، فإن الابتلاءَ اختبارٌ يتبين به الصادقُون من الكاذبين، والفائزون من الخاسرين، كما أخبر النبيُّ ﷺ في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبي ﷺ وهو جالسٌ في ظل الكعبة، فلما رآني قال: «هم الأخسرون ورب الكعبة. قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقار أن قمت، فقلت: يا رسول الله، فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا - من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله - وقليلٌ ما هم» رواه البخاري ومسلم، فاستثنى من الأغنياء ألا يكون أخسرين، مَن كانوا لأموالهم منفقين في جميع جهات الخير.
وكان هَدْيُهُ ﷺ فِي صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ عَجَبًا، فكَانَ أعظمَ الناس صدقةً بما ملكت يَدُه، ولا يَستكثرُ شيئًا أعطاه لله، ولا يَسْتَقِلُّه، وكان لا يَسألُه أَحَدٌ شَيْئًا عِنْدَهُ إِلَّا أَعْطَاهُ، قَلِيلًا كَانَ أو كثيرًا، وَكَانَ سُرُورُهُ وَفَرَحُهُ بِمَا يُعْطِيهِ أَعْظَمَ مِنْ سرور الآخذ بما أخذه، وَكَانَ إِذَا عَرَضَ لَهُ مُحْتَاجٌ آثَرَهُ عَلَى نفسه،
وكان يتنوع في أصناف إعطائه وصدقته، وكان إحسانه بِمَا يَمْلِكُهُ وَبِحَالِهِ وَبِقَوْلِهِ، فَيُخْرِجُ مَا عِنْدَهُ، ويأمر بالصدقة، ويَحُضُّ عليها، وكان أشرح الخلق صدرا، وأطيبهم نفسا، فإنَّ للصدقةِ والمعروف تأثيرًا عجيبًا في شَرْحِ الصَّدْر.
عباد الله.. إن بذلَ المالِ والجودَ به من كمال الإيمان وحسن الإسلام، ودليلٌ على حسن الظن بالله تعالى بما وعَد من الخلَف في الدنيا والمضاعفة في الآخرة، قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}، وقال تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} قال التابعيُّ الجليل عبدالرحمن بن زيد: (هُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْكَ، إِنَّمَا نَفَقَتُكَ لِنَفْسِكَ وَابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَجْزِيكَ)، وفي صحيح مسلم أن رَسُولَ اللهِ ﷺ قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» وفي الصحيحين أن رَسُولَ اللهِ ﷺ قال: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ»، وفيهما أيضا أن رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» وفيهما أيضا أن رسول الله ﷺ: «إِذَا أَنْفَقَ المُسْلِمُ نَفَقَةً عَلَى أَهْلِهِ، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً» فيَحتسبُ المسلمُ كلَّ ما يبذِلُهُ ويُنفِقُه قُربةً لله، وطلبا لرضاه.
وقد مدحَ الله تعالى المنفقين في سبيله، وابتغاء مرضاته في جميع الأوقات من ليلٍ أو نهارٍ، والأحوال من سر وجهارٍ، فقال تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} قال ابنُ كثيرٍ رحمه الله: (حتى النفقةُ على الأهل تدخل في ذلك أيضًا)، وقال الرازي: (الآية عامةٌ في الذين يعمون الأوقات والأحوال بالصدقة تحرضهم على الخير، فكلما نزلت بهم حاجة محتاجٍ عجلوا قضاءها ولم يؤخروها ولم يُعلِّقُوها بوقتٍ ولا حالٍ).
عباد الله.. وصُنْعُ المعروفُ للمرء يُعلي، وللمال يقي، وللعِرض يحمي، ولا يَتردَّى في مصارع السُّوءِ ولا يَهوِي، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء)، وعنه رضي الله عنه: (الجود حارس الأعراض)، وخيرُ الجود والبذل ابتداءُ المرء به قبل أن يُسأل، قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه: (السخاء ما كان ابتداء، فأما ما كان عن مسألة فحياءٌ وتَذَمُّم)، وقد جاء ما يدلُّ على أنه يُكتفَى في حاجة المحتاج تعرضُه للعطاء من غير سؤالٍ، ففي حديث أبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنه قال: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ إِذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَى رَاحِلَةٍ لَهُ قَالَ: فَجَعَلَ يَصْرِفُ بَصَرَهُ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ» رواه مسلم.
والأيامُ دُوَل، تتغير أحوالها، والواجدُ اليومَ قد لا يجد غدًا، وقد قيل: (أعطِ مِن الدنيا وهي مقبلة، فإن ذلك لا يُنقصك منها شيئا).
عباد الله.. والجودُ والكرم، صفتان يُحبُّهما الله تعالى، وقد قال رسول الله ﷺ: «إنَّ اللهَ تعالى جوادٌ يحب الجود ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها»، وقال جعفر بن محمد الصادق: (إن لله وُجوها من خلقه، خلقهم لقضاء حوائج عباده، يرون الجود مجدًا، والإفضال مَغْنمًا، والله يحب مكارم الأخلاق).
اللهم اجعلنا من أهل الجود والإنفاق، وأعذنا من الشُّحِّ والإمساك خشيةَ الإملاق، وبارِك لنا ربَّنا فيما وهبتنا يا كريمُ يا رزَّاق، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين من كل ذنب وخطيئة، إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أنّ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانِه، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأتباعِه وإخوانِه، أبدًا إلى يومِ الدّين. أمّا بعدُ:
فإنه قد حَلَّ بإخوانِنا في غَزَّةَ مِن عدوانٍ أثيمٍ، وإراقةٍ للدّماء، وقتلٍ للآمنينَ وللأبرياء، وتَشريدٍ للشّيوخِ والأطفالِ والنّساء، مِن قِبَلِ اليهودِ المعتدينَ الظّالمين، ما يُوجِبُ نُصرتَهم من الدعاءِ لهم، ومواساتِهم في مِحنتِهم، والوقوفِ معهم في مُصيبتِهم، ومَدِّ يَدِ العونِ لهم وإغاثتِهم، وها قد صدر التوجيهُ الكريم مِن خادمِ الحرمينِ الشّريفينِ ووليَّ عهده الأمين، بإطلاقِ حَملةٍ شعبيّةٍ عبرَ مَنصّةِ ساهم، لإيصالِ التبرّعاتِ عَبْرَ مضمون القنوات، إلى إخواننا المستضعَفين الملهوفين في فلسطين، وهذا بابُ الخيرِ والأجرِ قد فُتِح، والكُلُّ قد فَرِح، فلا يُفوِّت المرءُ الفرصةَ وقد مُنِح، فذاك من صفات المؤمنين، وتحقيقِ أُخُوَّةِ الدين، «مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى»، واللهُ تعالى المسؤول أنْ يَكشفَ ما حَلَّ بإخوانِنا في غَزَّةَ مِن البلاء، إنّه سميعُ مجيبُ الدّعاء.
المرفقات
1698945461_حث المحسنين على إغاثة الملهوفين في فلسطين.docx
1698945461_حث المحسنين على إغاثة الملهوفين في فلسطين.pdf