حتى تكون مطمئنّا
إبراهيم بن صالح العجلان
حَتَّى تَكُونَ مُطْمَئِنًّا 27/10/1441هـ
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
هِيَ مَطْلَبُ كُلِّ مَخْلُوقٍ، وَغَايَةٌ يَسْعَى إِلَيْهَا كُلُّ مَوْجُودٍ.
إِذَا حَلَّتْ فِي الْوِجْدَانِ حَلَّتْ مَعَهَا الرَّاحة، وَابْتَسَمَتْ لِأَهْلِهَا الْحَيَاةُ.
هِيَ نِعْمَةٌ لَا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ، وَعِيشَةٌ أَغْلَى مِنْ أَيِّ وَطَنٍ.
إِذَا تَحَرَّكَتْ دَقَّاتُ الْقَلَقِ، وَكَثُرَتْ أَنْفَاسُ التَّخَوُّفِ فَالْحَدِيثُ عَنْهَا لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ.
إِنَّهَا طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ، تِلْكَ الْجَنَّةُ الْعَاجِلَةُ، مَنْ حَازَهَا فَقَدْ حَازَ كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الدُّنْيَا، وَمَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ خَيْرًا كَثِيرًا.
طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ حَقِيقَةٌ لَا خَيَالٌ، وَحَالٌ لَيْسَ مُحَالًا، هِيَ سَهْلَةُ الْوُصُولِ وَقَرِيبَةُ الْمَنَالِ، يَسِيرَةٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهَا عَلَيْهِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ.
طُمَأْنِينَةُ النَّفْسِ لَهَا أَسْبَابٌ شَرْعِيَّةٌ، مَنْ أَخَذَ بِهَا أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ مِنَ الْهُدُوءِ النَّفْسِيِّ، وَالِاطْمِئْنَانِ الْقَلْبِيِّ.
فَيَا عَبْدَ اللَّهِ: حَتَّى تكونَ مُطْمَئِنًّا اعْلَمْ -رَعَاكَ اللَّهُ- أَنَّ مِفْتَاحَ هَذِهِ الطُّمَأْنِينَةِ هُوَ فِي الْإِيمَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى رَبًّا، وَخَالِقًا، وَمُدَبِّرًا.
إِذَا عَرَفَ الْعَبْدُ رَبَّهُ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ الْمَالِكُ الْمُدَبِّرُ بِيَدِهِ نَوَاصِي الْعِبَادِ، حِينَئِذٍ تَطْمَئِنُّ نَفْسُهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَيَحْتَمِي بِمَلِكٍ عَظِيمٍ، قَدْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، وَفَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ، وَمَنْ أَرْضَى اللَّهَ بِطَاعَتِهِ أَرْضَاهُ اللَّهُ عَلَى أَقْدَارِهِ،(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً).
لَا تَعِيشُ النُّفُوسُ طُمَأْنِينَتَهَا بِمِثْلِ الْإِقْبَالِ عَلَى الصَّلَاةِ، الَّتِي مَنْ عَظَّمَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا فَقَدْ حَفِظَ إِسْلَامَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ.
وَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَرَى فِي عُمَّارِ الْمَسَاجِدِ، وَفِي حَالِ كُلِّ رَاكِعٍ وَسَاجِدٍ، أَنَّهُمْ مِنْ أَشْرَحِ النَّاسِ صَدْرًا، وَأَسَرِّهِمْ قَلْبًا، كَيْفَ لَا وَالصَّلَاةُ هِيَ أُنْسُ الْمُؤْمِنِ وَعَوْنُهُ وَسَلْوَاه، يَسْتَعِينُ بِهَا الْمُسْلِمُ عَلَى كُلِّ مَا يَلْقَاهُ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ).
عَرَفَ ذَلِكَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِرَبِّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ"، وَكَانَ إِذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَزِعَ إِلَى الصَّلَاةِ.
وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِجَنَّةِ الطُّمَأْنِينَةِ هُمْ أَهْلُ الذِّكْرِ، الَّذِينَ تَلْهَجُ أَلْسِنَتُهُمْ، وَتَتَحَرَّكُ أَنَامِلُهُمْ تَسْبِيحًا وَتَحْمِيدًا، وَتَكْبِيرًا وَاسْتِغْفَارًا وَتَهْلِيلًا، فَبُشْرَى هَؤُلَاءِ الْمُوَفَّقِينَ سَكِينَةُ الرُّوحِ، وَرَاحَةُ الْبَالِ (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).
وَأَعْظَمُ الذِّكْرِ تِلَاوَةُ كَلَامِ اللَّهِ، فَهُوَ الْهُدَى وَالنُّورُ، وَهُوَ الشِّفَاءُ وَالسُّرُورُ، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).
وَسِرُّ طُمَأْنِينَةِ النُّفُوسِ هِيَ فِي الْقَنَاعَةِ، الْقَنَاعَةِ بِالْمَوْجُودِ، وَعَدَمِ التَّعَلُّقِ وَاللَّهْثِ وَرَاءَ مَا هُوَ مَفْقُودٌ، فَاسْتَشْعِرْ نِعَمَ اللَّهِ عَلَيْكَ، وَتَحَدَّثْ بِمَا أَسْدَاهُ اللَّهُ إِلَيْكَ.
إِنَّ عَدَمَ الْقَنَاعَةِ بِالْأَرْزَاقِ يُورِثُ الْهُمُومَ وَالْأَحْزَانَ، وَالْخَوْفَ مِنَ الْمُسْتَقْبَلِ الْغَائِبِ، فَيُؤَمِّلُ الْعَبْدُ وَيُؤَمِّلُ حَتَّى يَغْدُوَ فِي الْقَبْرِ مَعَ آمَالِهِ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ طُمَأْنِينَةِ الرُّوحِ وَأَوْسَعِهَا: اصْطِنَاعُ الْمَعْرُوفِ، وَإِغَاثَةُ الْمَلْهُوفِ.
عَوِّدْ نَفْسَكَ عَلَى أَنْ تُحْسِنْ إِلَى نُفُوسٍ مَكْسُورَةٍ، أَوْ تَرْفَعَ شِدَّةَ قُلُوبٍ مَكْرُوبَةٍ، وَجَرِّبْ أَنْ تَمْسَحَ رَأْسَ يَتِيمٍ، أَوْ تَمْشِيَ فِي حَاجَةِ غَرِيمٍ، ثُمَّ انْظُرْ فِي سَعَادَتِهِمْ وَابْتِسَامَتِهِمْ، وَاسْمَعْ بَعْدَهَا مَا تَشَاءُ أَنْ تَسْمَعَ مِنَ الدَّعَوَاتِ الْمُفْرِحَةِ لَكَ.
كَيْفَ لَا تَطْمَئِنُّ النُّفُوسُ بِهَذَا، وَنَحْنُ نَرَى أَنَّهُ كُلَّمَا كَانَ الْإِنْسَانُ أَعْظَمَ بِنَاءً لِمُسْتَقْبَلِهِ ارْتَاحَتْ نَفْسُهُ، وَطَابَ عَيْشُهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْتَعِينُ عَلَى بِنَاءِ الْآخِرَةِ بِصَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ، وَفِي الْحَدِيثِ: "كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ:
(فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ).
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ...
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عَبْدَ اللَّهِ:
وَحَتَّى تَكُونَ مُطْمَئِنًّا، ارْفَعْ مِنْ لِيَاقَةِ كَظْمِ الْغَيْظِ فِي رُوحِكَ، وَوَطِّنْ نَفْسَكَ عَلَى الْعَفْوِ وَالْمُسَامَحَةِ، فَمَا تَنْتَظِرُهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْأَجْرِ، خَيْرٌ لَكَ مِنْ نَفْثَةِ الْغَضَبِ وَصَيْحَةِ الْقَهْرِ، (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ).
أَمَّا إِنْ طَفِقْتَ تَغْضَبُ لِكُلِّ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، فَأَنْتَ تَزْرَعُ كَوَابِيسَ الْقَلَقِ بِيَدَيْكَ، وَتَتَعَايَشُ بَيْنَ أَشْبَاحِ النَّكَدِ وَالْهَمِّ بِاخْتِيَارِكَ وَإِرَادَتِكَ.
وَحَتَّى تَكُونَ مُطْمَئِنًّا، تَلَمَّسِ الْمَالَ الْحَلَالَ، وَتَحَسَّسِ الْكَسْبَ الطَّيِّبَ، فَمَنْ أَكَلَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ، أَوْ غَشَّ، أَوِ ارْتَشَى، أَوْ قَامَرَ أَوْ أَكَلَ الرِّبَا فَقَدْ مُحِقَتْ بَرَكَةُ مَالِهِ، وَاسْتَحَقَّ عُقُوبَةَ اللَّهِ، وَحَسْبُكَ بِهَذَا شُؤْمًا وَاضْطِرَابًا.
وَحَتَّى تَكُونَ مُطْمَئِنًّا، ابْتَعِدْ عَنِ الْأَفْكَارِ السَّلْبِيَّةِ، وَالنَّظْرَةِ التَّشَاؤُمِيَّةِ، وَإِلَّا سَيَخْنُقُكَ الْحُزْنُ والاكْتِرَابُ، وَسَيُرَحَّبُ بِكَ فِي عَالَمِ الِاكْتِئَابِ.
وَحَتَّى تَكُونَ مُطْمَئِنًّا، لَا تَكُنْ أَسِيرَ الْمَاضِي، وَإِنَّمَا فَكِّرْ فِي الآنِي، وَالمُسْتَقْبَلِ الآتِي، وَدِينُكَ أَرْشَدَكَ لِلتَّوْبَةِ، لِيَفْتَحَ لَكَ الْأَمَلَ، وَلِتُعَوِّضَ مَا فَاتَ بِالْإِحْسَانِ وَالْعَمَلِ.
وَحَتَّى تَكُونَ مُطْمَئِنًّا، كُفَّ عَنِ التَّشَاكِي، وَعَنِ الْعِتَابِ وَالتَّبَاكِي، وَاكْسُ أَلْفَاظَكَ أَحْسَنَها، فَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ سَبَبٌ لِرَاحَةِ الضَّمِيرِ، ومُؤَشِّرٌ الْعَقْلِ وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ.
وَحَتَّى تَكُونَ مُطْمَئِنًّا، اقْفِلْ كُلَّ بَابٍ يُورِدُكَ لِلْخَطَايَا، فَالْمَعْصِيَةُ وَالتَّعَلُّقُ وَالْفَرَحُ بِهَا سُرُورُهَا عَابِرٌ، وَيَبْقَى أَثَرُهَا ظُلْمَةً فِي الْقَلْبِ، وَكَآبَةً فِي الصَّدْرِ، وَيَكْفِي الْمَعْصِيَةَ شُؤْمًا أَنَّهَا مُخَالَفَةٌ لِلَّهِ وَإِعْرَاضٌ، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
وَجَامِعُ طُمَأْنِينَةِ النَّفْسِ هُوَ الْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ، وَتَلَمُّسُ طَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ، فَمَعَ اللَّهِ يَطِيبُ الْعَيْشُ وَتَهْنَأُ الْحَيَاةُ وَتَتَبَسَّمُ الشِّفَاهُ.
فَلَيْتَكَ تَحْلُو، وَالْحَيَاةُ مَرِيرَةٌ *** وَلَيْتَكَ تَرْضَى وَالْأَنَامُ غِضَابُ
وَلَيْتَ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَامِرٌ *** وَبَيْنِي وَبَيْنَ الْعَالَمِينَ خَرَابُ
إِذَا صَحَّ مِنْكَ الْوُدُّ فَالْكُلُّ هَيِّنٌ *** وَكُلُّ الَّذِي فَوْقَ التُّرَابِ تُرَابُ
نَسْأَلُ اللَّهَ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ أَنْ يُبَاعِدَ عَنَّا أَسْبَابَ الضِّيقِ وَالْعَنَاءِ، وَأَنْ لَا يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الشَّقَاءِ، صَلُّوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ أَهْلُ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ.
المرفقات
حتى-تكون-مطمئناً-مشكولة
حتى-تكون-مطمئناً-مشكولة