حُبُّ الْوَطَنِ. 27-2-1444هـ
أ.د عبدالله الطيار
الحمدُ للهِ الذي أسكنَنَا أطهرَ البقاعِ العامرةِ، وأسبغَ علينا نعمَهُ ظاهرةً وباطنةً أطعمنا بعد جوع، وأمّنَنَا بعد خوف، ونَصَرَنا بعد حَيْف، جَمَعَ شملنا بعد شتات وَرَزَقَنَا رغدَ العيشِ بعد الفُتَات، وأكْرَمَنَا بصلاحِ ولاةِ الأمورِ، فلهُ الحمدُ، وإليهِ النُّشُور.
وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا، أمّا بعدُ:
فاتّقُوا اللهَ أَيُّهَا المؤمنونَ، فالتقوى وصيةُ اللهِ للأوَّلينَ والأخرينَ، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء: 131].
عبادَ الله: فَطَرَ اللهُ النفوسَ البشريةَ على حبِّ الأوطان، والانتماء إلى البلدان، تلك الديار التي نشأوا بين جنباتها، وأكلوا من خيراتها، فالإبلُ تحنُّ إلى أوطانِهَا والصقورُ تهفوا إلى أوكارِها، والوحوش ترنُوا إلى غاباتها، وكما فطرَ اللهُ الرضيعَ أن يحنّّ إلى أمّهِ، مهدِ طفولتِهِ، ومنبعِ أمانِهِ، ومصدرِ رزقِهِ، فَطرَ الإنسانَ أن يحنَّ إلى وَطَنِهِ، دارِ إِقَامَتِهِ وَأَمَانِِهِِ، ومصدرِ راحتِهِ وانتمائِهِ، ومرتعِ صِبَاهُ، وَمَنْزِلِ شَبَابِهِ.
ومما يدلُّ على أصالةِ حبّ الوطن في النفوس، أنّ الله عز وجل شبّهَ خروج الإنسان من الوطن، بخروج الروحِ من الجسد، قال الله تعالى:{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} النساء: [66].
أيها المؤمنون: أخرجَ البخاريُّ في صحيحهِ من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ ﷺ كانَ إذا قَدِمَ مِن سَفَرٍ، فَنَظَرَ إلى جُدُراتِ المَدِينَةِ، أوْضَعَ راحِلَتَهُ، وإنْ كانَ على دابَّةٍ حَرَّكَها؛ مِن حُبِّها) أخرجه البخاري (1886).
أي: من حبّ المدينة، وفرحًا بالعودة إليها. قال ابن حجر رحمه الله: (وفي الحديث دلالة على مشروعية حب الوطن والحنين إليه) فتح الباري لابن حجر (3/621).
إن بلادنا –حماهَا اللهُ- غُرّةُ جبين الأوطان، وشامةُ جَيْدِ الزمان والمكان، أحبُّ الأوطانِ إلى قلوبِ المسلمينَ عامّة، وإلى قلوبِ أهلِهَا خاصَّة، هي مهدُ الإسلام، ومأرِزُ الإيمان، بها وُلد أفضل إنسانِ، ومنها عَمّّ شعاعُ النُّورِ جميعَ الأركان، وفي ثَرَاهَا وُورِيَ أَطْهَرُ جُثْمَانٍ، مَنَّ اللهُ عليهَا أنْ جَعَلَهَا على الجادّة مِنْ توحيدِ اللهِ، وإخلاصِ العبادةِ له، واجتماعِ الكلمةِ، وَوَحْدَةِ الصفِّ، واستخْلَفَ عليها ولاةَ أمرٍ موحّدين مُصْلِحِينَ، كما استخلف الذين من قبلهم، أَبْدَلَ أهلَهَا من بعد خوفِهِمْ أمنًا، وأخْرَجَ لهم من الأرض رزقًا، وجعلها لبيتِهِ العتيقِ مَوْطِنًا ومَقَرًّا، فأضحت قبلةً للمسلمين ومنارةً للعلمِ والدّين.
وإذا رُمْتَ معرفةَ قدرِ هذا الوطن، فارْمِ بَصَرَك إلى ما حولك من أوطان وديار: قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ}العنكبوت: [67].
عباد الله: إنّ هذه المكانة العالية لوطننا الغالي، توجب على كل من يُقِيمُ على ثراهُ عامة، ومن يُنسبونَ إليه خاصّة، أن يقوموا بواجبهم تجاه هذا الوطن، ومن واجبنا تجاه بلادنا ما يلي:
أولًا: وجوبُ حبِّها، والانتماءِ إليها، وإظهارُ ذلك، فعن عبدِ اللهِ بن عديِّ بنِ الحمراءِ قال: رأيتُ رسولَ اللهِ ﷺ وهوَ على ناقتِه واقفٌ بالحَزورةِ -موضعٌ بمكةَ- يقولُ: (واللهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُّ أرضِ اللهِ إليّ..) إلى أن قال: (..واللهِ لولا أنِّي أُخْرِجْتُ منكِ ما خَرجتُ) رواه ابن ماجه (3108)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (2523).
ثانيًا: طاعة ولاة الأمر، والدعاء لهم، والذبّ عنهم، قالَ ﷺ: (مَن خَلَعَ يَدًا مِن طاعَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ يَومَ القِيامَةِ لا حُجَّةَ له، وَمَن ماتَ وَليسَ في عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، ماتَ مِيتَةً جاهِلِيَّةً) أخرجه مسلم (1851) وقدْ تقرَّرَ عندَ أهلِ السُّنةِ أنَّه لا دينَ إلا بجماعةٍ، ولا جماعةَ إلا بإمامةٍ، ولا إمامةَ إلا بطاعةِ.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الداعي إلى رضوانِهِ، صلّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا أمَّا بــــــعــــــــــدُ:
فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ: واعلموا أن من واجبنا تجاه بلادنا الحبيبة ما يلي:
ثالثًا: شكر نعم الله عز وجل على بلادنا، ومن أعظمها نعمة الأمن، وائتلاف الكلمة والتفاف الرعية حول الراعي، والأُلفة واللُّحمة بين أبنائِه، والتي لا تجد مثيلًا لها في أي مكان آخر، فبالشكر تدومُ النِّعم، قال سبحانه: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} إبراهيم: [7].
رابعًا: ومن حقوق بلادنا علينا أن نكونَ غصّةً صلبة، وشوكةً حادّة في حلق كل من يحاولُ زعزعةَ أمن وطننا واستقراره، أو العبث بمقدراته، أو شق عصا الطاعة والخروج عن الجماعة، وبث الشكوك والسموم بين أبنائه، عن طريق أولئك الذين يتسللون في الخفاء، مستغلين جهل العوام ليُغْرِقُوا الأوطان.
فاحذر أخي –رعاك الله-أن تكون أداةً لهدم وطنك، وتخريب أرضك، أو الخروج على ولاة أمرِك، بجهلك، أو بتكاسلك في تحرّي الدقة عند نقل رسالة، أو ترديد مقالة.
خامسًا: ومن واجبنا تجاه هذا الوطن: الحفاظ على أرضه، ومكتسباته، وممتلكاته العامة والخاصة، بعدم الإضرار بها، أو التعدّي عليها، واحترام الأنظمة، والمساهمة الفاعلة في مسيرة البناء والتنمية، والقيام على خدمة أبناء الوطن، والبذل في سبيل نهضته وتطوره، وتقدّمه، كلٌّ في مكانه، من كان في الحراسةِ كان في الحراسةِ ومن كان في السَّاقةِ كان في السَّاقةِ.
أيها المؤمنون: أذكّركم باستشعار ما نحن فيه من النعم، وشكرها كما يجب، فأين كان آباؤنا وأجدادنا، وأين نحن الآن؟! كيف كان حال هذه البلاد المباركة قبل أكثر من مائة عام، وما هو حالها الآن؟!
إنَّ عينًا مبصرة، ونظرةً منصفة، لا تكاد تُمَارِي في أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ رَفَعَ شأن هذه البلاد لمّا رَفَعَتْ رايتَهُ، وحَكّمَتْ شريعتَهُ، فرفعَهَا اللهُ عزّ وجلّ إلى مصافّ الأمم، ومقدّمة الدول، فحريٌّ بنا لزوم هذا المنهج، والحفاظ عليه، والدعوة إليه، والدفاع عنه.
أسأل الله عز وجل أن يحفظ وطننا من مكر الماكرين، وعدوان المعتدين، وأن يحفظ رايته عالية خفّاقة.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56]. الجمعة: 27-2-1444هـ