حبر الأمة خطبة 24 ذو الحجة 1438هـ (نص + وورد + بي دي إف)

عاصم بن محمد الغامدي
1438/12/24 - 2017/09/15 07:25AM

الخطبة الأولى:

الحمدلله فالق الحبِّ والنوى، عالمِ السر وأخفى، الذي خلقَ فسوّى، وقدَّر فهدى، لا تخفى عليه نجوى، ولا تعزب عنه شكوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، بالهدى ودين الحق أرسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، فهي وصيته للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين، {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}.

عباد الله:

في المواقف العصيبة تظهر معادن الرجال، ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أكبر المصائب التي حلت بأمة الإسلام، وكان عمرُ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في ذلك العام ثلاثة عشر عامًا أو يزيد قليلاً، لكنه كان عاقلاً فطنًا، ومن عقله إقباله الشديد على طلب العلم.

يقول ابن عباس رضي الله عنهما: لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ: هَلُمَّ فَلْنَسْأَلْ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمُ الْيَوْمَ كَثِيرٌ. فَقَالَ: يَا عَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ! أَتَرَى النَّاسَ يَفْتَقِرُونَ إِلَيْكَ وَفِي النَّاسِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ فِيهِمْ؟ قَالَ: فَتَرَكَ ذَلِكَ، وَأَقْبَلْتُ أَنَا أَسْأَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَعَاشَ الرَّجُلُ الْأَنْصَارِيُّ حَتَّى رَآنِي وَقَدِ اجْتَمَعَ حَوْلِي النَّاسُ يَسْأَلُونِي، فَيَقُولُ: هَذَا الْفَتَى كَانَ أَعْقَلَ مِنِّي. [البداية والنهاية بتصرف 12/86].

ولم تكن هذه البداية، بل كان في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ملازمًا له يراقب تصرفاته، ويحفظ كلماته، ويضبط أحواله وأقواله وأفعاله، حتى قام معه الليل، وركب خلفه على دابته، وكان يبادر إلى تجهيز وضوء النبي عليه الصلاة والسلام، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم ذات مرة فقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ». [رواه البخاري].

وبلغ من شأنه رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يدنيه في مجالس كبار الصحابة، حتى وَجَدَ بَعْضُهُمْ فِي نَفْسِهِ، فَقَالَ: لِمَ تُدْخِلُ هَذَا مَعَنَا وَلَنَا أَبْنَاءٌ مِثْلُهُ، فأثنى عليه عُمَرُ ثمَّ دَعَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ فَأَدْخَلَهُ مَعَهُمْ وسألهم عن تفسير قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ}؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أُمِرْنَا أَنْ نَحْمَدَ اللَّهَ وَنَسْتَغْفِرَهُ إِذَا نُصِرْنَا، وَفُتِحَ عَلَيْنَا، وَسَكَتَ بَعْضُهُمْ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ عمر لابن عباسٍ: أَكَذَاكَ تَقُولُ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؟ فَقال: لاَ، قَالَ: فَمَا تَقُولُ؟ قال: «هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَمَهُ لَهُ»، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ} فتح مكة، {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا} «عَلاَمَةُ أَجَلِكَ»، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}، فَقَالَ عُمَرُ: «مَا أَعْلَمُ مِنْهَا إِلَّا مَا تَقُولُ». [رواه البخاري].

إنه حبر الأمة وترجمان القرآن، كان عمر رضي الله عنه يقول عنه: "ذَاكُمْ فْتَى الْكُهُولِ إِنَّ لَهُ لِسَانًا سَؤُولًا، وَقَلْبًا عَقُولًا". [مصنف عبدالرزاق برقم 8123]، وَإِذَا جَاءَتْهُ الأَقْضِيَةُ الْمُعْضِلَةُ قَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: «إنها قد طرت علينا أَقْضِيَةٌ مُعْضِلَةٌ، فَأَنْتَ لَهَا وَلأَمْثَالِهَا». [أسد الغابة 3/187]. وقال بعض التابعين: إني رَأَيْت سبعين رجلاً من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا اختلفوا فِي أمرٍ صاروا إلى قول ابْنِ عَبَّاس. [أسد الغابة 3/188].

إنه خير مثال يحتذى لطالب العلم، فقد قضى في العلم شبابه وفتوته وشيخوخته، طالبًا ومعلمًا ومفتيًا ومناظرًا، وأخبر عن نفسه أنه كان يسأل عن المسألة الواحدة ثلاثين رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له مجالس علمية يومية، يومٌ للفقه، ويومٌ للتأويل، ويومٌ للمغازي، ويومٌ للشعر، ويومٌ لأيام العرب. [أسد الغابة 3/188].

وعرف له كبار الصحابة رضي الله عنهم قدره، فعائشة أم المؤمنين تقول: إنه أعلم الناس بالحج، وابن عمر يقول: إنه أعلم الناس بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. وأبي بن كعب يقول: إنه حَبْر الأمة. [الإصابة 4/125،127].

عباد الله:

السيرة العلمية لابنِ عباس رضي الله عنهما مليئة بالعبر والمواقف، ونحن بحاجة إلى استلهامها والتوقفِ عندها، ونشرها في بيوتنا ومجتمعاتنا.

فحاجة أمتنا في هذه الأيام تذكرنا بكمال عقل ابن عباس، عندما نظر إلى حاجتها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل على العلم، وتحمل وصبر حتى نال وظفر.

ومكان ابن عباس في الجمال والفصاحة والنسب، لم يمنعه من إجلال معلمه وحفظ مكانته، حتى إنه كان يمسك بزمام دابته يقودها له، ويقول: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا، وإذا أراد سؤال أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مسألة انتظره في وقت القيلولة عند باب منزله ولا يطرقه تقديرًا له، فإذا عاتبه أجابه قائلاً: العلم يؤتى ولا يأتي.

ولم يكن رضي الله عنه يخجل من السؤال، بل كان له لسان سؤول، وقلب عقول، فبارك الله له في علمه، ووسع له في فهمه.

سأل رجلٌ ابنَ عمرَ رضي الله عنهما عن قوله تعالى: {كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما} فأشار له إلى ابن عباس وقال: اذهب إلى ذلك الشيخ فسله ثم تعال فأخبرني.

فذهب إلى ابن عباس، فسأله، فقال: كانت السماوات رتقاء لا تمطر، والأرض رتقاء لا تنبت، ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات. فرجع الرجل فأخبر ابن عمر، فقال: لقد أوتي ابن عباس علمًا صدقًا، لقد كنت أقول ما يعجبني جرأة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن قد علمت أنه قد أوتي علمًا. [الإصابة 4/127].

عباد الله:

الجد والاجتهاد طريق الوصول للمعالي، وتقدير المعلم ومعرفة حقه ديدن المؤمنين، وتأسٍ بالصالحين، وزكاة العلم بذله لمحتاجه.

جعلنا الله ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمدلله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، أما بعد عباد الله:

فإن العلم حصنٌ لأهله، ووقاء لمجتمعاتهم، من الانحرافات الفكرية، والضلالات المنهجية، والعاقل يحرص على العلم لحماية نفسه وأهله ومجتمعه، ولا يبخل بدلالة الناس على الخير وهكذا كان ابن عباس رضي الله عنهما، ففي زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لبَّس أهل الضلال على طائفة من الناس، فَمَرَقَتْ وشَقَّتْ يد الطاعة، فاستأذن ابن عباس عليًا رضي الله عنهم أجمعين، فجاءهم وناقشهم حتى رجع منهم عدد كبير. [أخرجه عبدالرزاق في مصنفه وغيره].

أيها المسلمون:

التبصر في دين الله واجب على كل مسلم، قال الله سبحانه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.

فأقبل يا طالب العلم على ما فيه فلاحك في الدنيا والآخرة، وحذار حذار من الدعوات المغرضة للخروج على ولاة الأمر وشق كلمة المسلمين، فليس في ذلك إلا تحقيق لأهداف الأعداء، قال صلى الله عليه وسلم: «عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ فِيمَا أَحَبَّ وَكَرِهَ، إِلَّا أَنْ يُؤْمَرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلَا سَمْعَ وَلَا طَاعَةَ». [رواه البخاري ومسلم].

وفي صحيح مسلم أن رجلاً سأل رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قَامَتْ عَلَيْنَا أُمَرَاءُ يَسْأَلُونَا حَقَّهُمْ وَيَمْنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأْمُرُنَا؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فِي الثَّانِيَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، فَجَذَبَهُ الْأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ، وَقَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيْهِمْ مَا حُمِّلُوا، وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ».

فكونوا أيها الكرام من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واتقوا الله -رحمكم الله، وقوا أنفسكم وأهليكم نارًا وقودها الناس والحجارة؛ فإن الشقي من حرم رحمة الله، عياذًا بالله، ثم صلوا وسلموا على خير البرايا، فقد أمركم الله تعالى بذلك فقال عز من قائل: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}.

المرفقات

الأمة-10

الأمة-10

الأمة-11

الأمة-11

المشاهدات 770 | التعليقات 0