حال المؤمن بعد الحج | د. محمد العريفي
مكتب الشيخ د. محمد العريفي
حال المؤمن بعد الحج
إنَّ الحمدَ للهِ نـَحمدُهُ ونَستعينُه ونَستغفرُه ونَعوذُ باللهِ تعالى من شُرورِ أنفسِنا وسَيئاتِ أعمالِنا، من يهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَه ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له جَلَّ عن الشبيهِ و المثيلِ والكُفْءِ والنظير ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه وصفيُه وخليلُه وخيرتُه من خلقِه وأمينُه على وحيهِ أرسلَه رحمةً للعالمينَ وحُجَّةً على العبادِ أجمعين، فصلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ ما ذكرَهُ الذاكرونَ الأبرارُ وصلواتُ اللهِ وسلامُه عليهِ ما تَعاقَبَ الليلُ والنهارُ ،
ونَسألُ اللهَ أنْ يجعلَنا جميعاً من صالحي أمتِه وأنْ يـَحشُرَنا يوم القِيامَةِ في زُمرتهِ ،
أما بعدُ :
أيُّها الإخوةُ المؤمنون :
نَحمَدُ اللهَ جَلَّ وعلا أنْ يَسَّرَ لـِحُجَّاجِ بيتهِ الحرامِ إتـْمَامَ نُسُكِهم وقَضاءِ مَشاعِرِهم ونسألُ اللهَ سبحانه وتعالى أنْ يُيَسِّرَ لهم الوصولَ إلى أهلِهم مَأجورينَ سالمينَ غانمين.
أيها الأحبةُ الكرام :
إنَّ مَن رأى جُموعَ الحجاجِ الذين أقبلوا إلى بيتِ اللهِ العتيقِ رآهم يختلفونَ في أشكالهم وأجناسِهم منهم الكبيرُ والصغيرُ والغنيُّ والفقيرُ والأبيضُ والأسودُ والعربيُّ والأعجمي .
إنَّ هؤلاءِ جميعاً أقبلوا إلى البيتِ العتيقِ يَرجونَ بَــرَكَةَ قَولِ النبي r: «الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الـجَـنَّةُ» رواه البخاري ومسلم ، والـحَجُّ لا يَتَعاملُ مع الجسدِ، إنما يتعاملُ مع القَلبِ ؛ لذلك فإنَّ إبراهيمَ عليه السلامُ لما أسْكَنَ ذُرِّيــَّتـــَهُ عندَ البيتِ الحرامِ ، رفعَ يَدَيهِ داعياً فقال: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} فإبراهيمُ عليهِ السلامُ لا يُريدُ الأجسادَ إنما يريدُ القلوبَ فإذا سافرَ جَسَدُكَ إلى الحجِّ ولم يُسافرْ قلبُكَ فما حَجَجْتَ ولكنْ حَجَّتْ العيرُ .
أيها الأحبةُ الكرام :
ليسَ المقصودُ أنْ تَرجِعَ من الحجِّ وقد تغيَّرَ جسدُكَ فاسْمَرَّ لونُكَ أو بُحَّ صوتُكَ أو زُكِمَ أنْفُكَ إنما المقصودُ أنْ يتغيَّرَ قلبُكَ .
ولو تأمَّلْتَ سورةَ الحجِّ لوَجَدْتَ أنَّ اللهَ تعالى لـم يذكُرْ فيها كلمَةَ مُزْدَلِفَة ولا عَرَفَة ولا مِنى ؛ وذلك لأنَّ المقصودَ من الحجِّ أعظمُ من أنْ تَقِفَ بعَرفَةَ وتَبيتَ بـِمُزدلفَةَ وتَرمِيَ الجمراتِ إنـما المقصودُ الأعظمُ هو أنْ يَصْلُحَ قلبُكَ لذلكَ لم يَبدأْ اللهُ عَزَّ وجَلَّ سورةَ الحجِّ بقولهِ حُجُّوا واعتَمِروا وإنما قال سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم}{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} وتـَمضي الآياتُ بذكرِ الآخِرَةِ وخَلْقِ الإنسانِ وبِتَعظيمِ الرَّبِّ جَلَّ جَلالُه .
ولما ذكرَ اللهُ تعالى ذَبْحَ الـهَدْيِ قال سبحانه وتعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} إذنْ ربُّنا يُريدُ هذا القلبَ لا الجسدَ .
أيها الأحبةُ الكرام :
لما وقفَ عمرُ بنُ الخطاب في الحجِّ على الصفا جعلَ يَنظرُ إلى جُموعِ الحُجَّاجِ ، و وقفَ بجانبهِ ابنُه عبدُالله فلما نظرَ عبدُالله بنُ عمرَ إلى جُـموعِ الحُجاجِ أعجبَه كثرةُ الحُجاجِ، فالتفتَ إلى أبيهِ وقال: يا أبَتِ ما أكثرَ الحاجَّ فقال له أبوه: يا بُنيَّ الركبُ كثيرٌ لكنَّ الحاجَّ قليلٌ.
يعني: الركبُ الذينَ ركِبوا وجاءوا إلى الحجِّ وقالوا لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ كثيرٌ لكنَّ الذي يَصدُقُ عليهِ أنه حَاجٌّ قليل . نعم ، من أرادَ النجاةَ فلْيَسْلُكْ مَسالِكَها إنَّ السفينةَ لا تَجري على اليَبَسِ ، الـمَغْفِرَةُ لها طَريقٌ يَسْلُكُه من أرَادَها .
في صحيحِ مسلمٍ أنَّ رَبيعةَ بنَ كعبٍ t كانَ غُلامَاً يـَخْدِمُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام ، فأرادَ r أنْ يُكافِئَهُ يَوماً فقال: «سَلْ» فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ ، قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ» قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ ، قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» يعني: سَأدعو اللهَ لكَ بالجنةِ لكنْ أعِنِّي على نَفْسِكَ يعني: قَدِّمْ ما تَنالُ بهِ المغفرةَ ، فكانَ ربيعةُ بعدَها لا يُرى إلّا راكِعاً أو ساجِداً .
وأقبلَ سعدُ بنُ أبي وَقَّاصٍ يَوماً إلى النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ ، وسعدٌ هو خالُ النبيِّ r وقالَ لهُ النبيُّ r في مَعركَةِ أُحُدٍ: "فِدَاكَ أبي وأُمِّي" كما في الصحيحين .
أقبلَ إلى النبيِّ عليه الصلاة والسلام قال يارسولَ الله: ادعُ اللهَ أنْ يجعلَني مُستجابَ الدعوةِ، فقال r: "يا سعدُ أطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ " رواه الطبراني .
يعني : تريدُ أنْ تُستجابَ دَعوَتُكَ اعْمَلْ واجْتَهِدْ .
فكانَ سعدٌ بعدَها لا يَأكُلُ إلّا حَلالاً حتى ذكروا أنَّ شَاةً لَه كان يَشرَبُ من لَبَنِها ، فدَخَلَتْ مزرعَةً لجيرانـِهم وأكَلَتْ من عُشْبِهم بغيرِ إذنِ الجارِ ، فلمّا عَلِمَ سعدٌ بذلكَ امْتَنَعَ أنْ يَشْرَبَ من لَبَنِها إلى أنْ ماتَ خَوفاً من أنْ يكونَ ذلكَ اللَّبَنُ تـَخَلَّقَ من ذلك العُشبِ الذي أكَلَتْهُ في ذلك اليومِ ، فأطابَ مَطْعَمَهُ فصارَ مُستجابَ الدعوةِ .
إذنْ إذا طَلَبْتَ منَ اللهِ فلابُدَّ أنْ تَعملَ لِتَنالَـها .
أسألُ اللهَ تعالى بـِمَنِّهِ وكَرَمِهِ أنْ يجعلَنا ممّنْ تَقَبَّلَ اللهُ طاعاتِهم ورفعَ درجاتِهم وكفَّرَ سيئاتـِهم وضاعَفَ حسناتـِهم ، أقولُ ما تسمعونَ وأستغفِرُ اللهَ الجليلَ العظيمَ لي ولكم من كُلِّ ذَنْبٍ فاستغْفِروهُ وتوبوا إليهِ إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ على إحسانهِ والشُّكرُ له على تَوفيقهِ وامتنانِهِ وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَه تَعظيماً لِشأنِه وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُه ورسولُه الداعي إلى رِضْوانِهِ صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليهِ وعلى آلهِ وصَحْبِهِ وإخوانهِ و خِلَّانِه ومَنْ سارَ على نـَهجِهِ واقتفَى أثَرَهُ واسْتَنَّ بسُنتهِ إلى يومِ الدين،أما بعـــد :
أيها الإخوةُ المؤمنون :
من علاماتِ قَبولِ العمل التوفيقُ إلى العمل الصالح من بعده فالذي يكون حاله بعد الحج في صلاته وصيامه وهجرانه للمنكرات وإقباله على الطاعات خيراً من حاله قبل الحج فهذا من علامات قَبولِ حجه ، وهكذا جميعُ الطاعات لابدّ أن تؤثِّر في النفْسِ إيمانا ً وتقوى ..
ولما وقف عمر بن الخطاب مع ابنه عبدالله ينظران إلى الحجاج
فقال عبد الله لأبيه : يا أبتِ ما أكثرَ الحاجّ !
فقال أبوه: "يابُني الركبُ كثيرٌ لكن الحاجَّ قليل " يعني أنَّ الذين لَبِسوا الإحرام ،ولَبُّوا كثيرٌ لكن من يؤثرُ فيه الحج ، ويُصلحُ حالَه ، قليل ، وكان ظاهرهم أنهم حجاج ، الركب كثير لكن الحاج قليل .
والحجُّ الـمَبْرورُ ليسَ لَه جَزاءٌ إلّا الجنةَ، والحجُّ المبرورُ هو الذي يكونُ حالُ الحاجِّ بعدَهُ خَيراً مِن حالهِ قَبلَه فيُلاحِظُ هو وغيرُهُ أنَّه تَغيَّرَ بعدَ الحجِّ ، فقبلَ الحجِّ كانَ يَتَخَلَّفُ عن صلاةِ الفجرِ فتغيَّرَ بعدَ الحجِّ وصارَ يَشْهَدُها دَوماً ، قبلَ الحجِّ كانَ هاتِفُهُ مَليئاً بالصُورِ والمعازِفِ فلِأنَّه تغيَّرَ بعدَ الحجِّ صارَ من أهلِ الذِّكْرِ والقُرآنِ ، تـَجِدْ أنَّهُ قبلَ الحجِّ كانَ يجلسُ أمامَ التلفازِ لِقَنواتٍ فاسدةٍ لكنَّه تغيَّرَ بعدَ الحجِّ وصارَ ينظرُ إلى الحلالِ ، قبلَ الحجِّ كانتْ ثِيابُهُ مُسْبِلَةً وألفاظُهُ سَيِّئَةً فتغيَّرَ بعدَ الحجِّ .. فهذا حَجُّهُ مَبْرورٌ .
أمَّا مَنْ لم يَتَغَيَّرْ قَلبُهُ ولا عَمُلُهُ ولا تَحَسَّنَ حَالُهُ معَ رَبِّهِ فهذا كما قالَ عمرُ: يا بُنَيَّ الركبُ كثيرٌ لكنَّ الحاجَّ قليلٌ.
أيها المسلمون :
وعلى المرءِ أن يستمرَّ بالأعمال الصالحات بعد الحج مُقبلاً مـُجتهداً ..
ومن تأمَّلَ صفاتَ المؤمنين التي ذكرها الله في القرآن وجدَ أنهم يتَّصفون بها في جميع حياتـِهم وليس وقتاً دونَ وقت .
على الجميعِ أنْ يـَحْرِصَ على إصلاحِ حالهِ حتى من كانَ مُقَصِّراً في الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن الـمُنكرِ فليُصلِحْ حالَه بعدَ الحجِّ ، كانَ لا يـُحافِظُ على صلواتِ النوافلِ والوِترِ فليُصلحْ حالَه بعدَ الحجِّ، كما قال الله عزَّ وجَلَّ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ} يعني: ازْدَادُوا إيماناً معَ إيمانِكُم .
أسألُ اللهَ تعالى لي ولكم التوفيقَ والسدَادَ و أنْ ينفعَنا وإيَّاكم بـمِا سمِعْنا ويجعلَنا وإياكم هُداةً مُهْتَدين .
أسألُ اللهَ تعالى أنْ يُصلِحَ أحوالَ المسلمين في كلِّ مكانٍ أسألُ اللهَ أنْ يَنْصُرَ الإسلامَ والمسلمينَ في كُلِّ مكان .
اللهم انْصُرْ الإسلامَ والمسلمين في كلِّ مكانٍ، اللهم مَنْ أرَادَنا أو أرادَ بلادَنا أو أرادَ شيئاً من بلادِ المسلمين بسوءٍ فأشْغِلْهُ بنفسهِ و رُدَّ كيدَهُ في نـَحرِهِ واجْعَلْ تَدْبيرَهُ تَدميراً عليهِ يا قَوِيُّ يا عزيزُ .
اللهمَّ اغفِرْ لنا ولآبائِنا وأمهاتِنا اللهمَّ من كانَ منهم حياً فمتِّعْهُ بالصحةِ على طاعتِك واخْتِمْ لنا ولَه بخير ومن كان منهم مَيِّتاً فَوَسِّعْ له في قَبْرِهِ وضاعِفْ له حسناتِه وتَجاوزْ عن سيئاتِه واجمعْنا بهِ في جنَّتِك يا رَبَّ العالمين اللهمَّ أصْلِحْ أحوالَ المسلمين في كُلِّ مكان .
اللهُمَّ فَرِّجْ هَمَّ الـمَهْمومين، ونَفِّسْ كَرْبَ الـمَكْروبين واقْضِ الدَّينَ عنِ الـمَدينين ، واشْفِ مَرْضَى الـمـُسلِمين .
اللهمّ لا تدع لنا في مقامنا هذا ذنباً إلا غفرته ، ولا همّاً إلا فرّجْته ، ولا دَيناً إلا قضيته ، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته ، ولا عقيماً إلا ذرية صالحةً رزقته، ولا ولداً عاقّاً إلا هديته وأصلحته يا ربَّ العالمين .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، اللهم إنا نسألك الجنة لنا ولوالدينا، ولمن له حق علينا، وللمسلمين أجمعين.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت إلى إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد .
عباد الله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين.