حالنا في الفتن

عبدالله اليابس
1437/11/15 - 2016/08/18 16:37PM
حالنا في الفتن الجمعة 16/11/1437هـ
الحمد لله الغفور الودود، الكريم المقصود، الملك المعبود ، لا يخفى عليه دبيب النملة السوداء في الليالي السود، ويسمع حس الدود في خلال العود، وتردد الأنفاس في الهبوط والصعود, وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
سبحانك اللهم أنت الواحـد *** كل الوجود على وجودك شاهد
يا حي يا قيوم أنت المرتجى *** وإلى عُلاك علا الجبينُ الساجد
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وخليله.
خاتم الرسل والأنبياء، وسيد الأولياء والأصفياء، المتصف بالصدق والوفاء.
أُرسلت داعيةً إلى الرحـمن *** ودعـوتَ فاهتزت لك الثقلان
أخرجت قومك من ضلالات الهوى *** وهديتنا للواحد الديان
فاللهم صل وسلم عليه, وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه وتمسك بسنته واقتدى بهديه واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين, ونحن معهم يا أرحم الراحمين
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. حياتنا بين حزن وفرح, سعادة وشقاء, أمن وخوف, بين طاعة ومعصية.
هذه الدنيا لا تبقى على حال, دنيا متقلبة, تفرحك يومًا وتحزنك أيامًا.
النَفسُ تَبكي عَلى الدُنيا وَقَد عَلِمَت** أنَّ السَلامَةَ فيها تَركُ ما فيها
لا دارَ لِلمَرءِ بَعدَ المَوتِ يَسكُنُها *** إِلّا الَّتي كانَ قَبلَ المَوتِ بانيها
فَإِن بَناها بِخَيرٍ طابَ مَسكَنُها *** وَإِن بَناها بَشَرٍّ خابَ بانيها
في خضم أحداث الدنيا يتعرض المسلم الواثق بالله تبارك وتعالى, السائرُ على طريقه, الطالبُ جنته, يتعرض لفتن ومحن ومصائب, من هذه الفتن ما يكون عامًا لعموم الأمة, ومنها ما يكون خاصًا بالمرء نفسه لا يتجاوزه إلى غيره.
فقد تكون الفتن عامة تغشى الناس جميعًا, يتساقطون في شركها, وينشغلون بها عن أمور دينهم ودنياهم, كالحروب والمعاصي العامة ونحو ذلك, ومنها ما يكون خاصًا بالمرء يبتلى به ويفتن فإما أن يصبر فيفلح أو يزيغ فيهلك.
{الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}.
لقد حذرنا المولى تبارك وتعالى من الفتن وحذرنا رسوله صلى الله عليه وسلم غاية التحذير.
يقول الله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
وروى مسلم في صحيحه أن حذيفة رضي الله عنه قال: كنَّا عندَ عمرَ رضي الله عنه فقالَ: أيُّكم سمِعَ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يذكرُ الفتَنَ؟ فقالَ قَومٌ: نحنُ سمِعناهُ, فقالَ لعلَّكم تَعنونَ فتنةَ الرَّجلِ في أهلِهِ وجارِهِ؟ قالوا: أجَل, قالَ: تلكَ تُكفِّرُها الصَّلاةُ والصِّيامُ والصَّدقةُ, ولكِن أيُّكم سمِعَ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يذكرُ الفتنَ الَّتي تموجُ مَوجَ البحرِ؟ قالَ حُذَيفةُ: فأسكَتَ القَومُ, فقُلتُ أنا, قالَ: أنتَ للَّهِ أبوكَ. قالَ حُذَيفةُ: سمِعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ يقولُ: (تُعرَضُ الفتنُ علَى القلوبِ كالحصيرِ عودًا عودًا, فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ سَوداءُ, وأيُّ قلبٍ أنكرَها نُكِتَ فيهِ نُكتةٌ بَيضاءُ, حتَّى تصيرَ علَى قلبَينِ: علَى أبيضَ مِثلِ الصَّفا, فلا تضرُّهُ فتنةٌ ما دامتِ السَّماواتُ والأرضُ, والآخرُ أسوَدُ مُربادًّا كالكوزِ مُجَخِّيًا ,لا يعرِفُ معروفًا ولا ينكرُ مُنكرًا إلَّا ما أُشرِبَ مِن هواهُ).
وقد صوَّر النبي صلى الله عليه وسلم حال الفتن آخر الزمان في حديث عجيب, حث فيه أمته على المبادرة بالأعمال الصالحة قبل حلول الفتن, أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بادروا بالأعمالِ فتنًا كقطعِ الليلِ المظلمِ, يصبحُ الرجلُ مؤمنًا ويمسي كافرًا, أو يمسي مؤمنًا ويصبحُ كافرًا, يبيعُ دينَه بعرضٍ من الدنيا).
يا الله .. يتحول الرجل من الإيمان .. من الإيمان إلى الكفر في ليلة؟؟ فاللهم لا تُزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا, ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
أيها الإخوة .. ينبغي للمسلم أن يحذر الفتن الخاصة.. ينبغي أن يتفقد قلبه بين وقت وآخر, يتفقد إيمانه .. فهو أعز ما يملك..
كما ينبغي على المسلم أن يبتعد عن مواطن الفتن .. فيبتعد عن كل ما يمكن أن يفتتن به.. فيبتعد عن السفر ــ مثلاً ــ إذا كان يعلم أنه إن سافر ارتكب المحرمات, ويبتعد عن بعض التعاملات المالية المشبوهة إذا علم أنها تكون طريقًا ووسيلة للحرام, ويبتعد عن دخول بعض مواقع الانترنت أو تطبيقات الهاتف أو بعض المجالس إذا كان يظن من نفسه أنها تجره إلى الحرام.
أخرج المنذري وصححه الشيخ الألباني من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ضرب اللهُ مثلًا صراطًا مستقيمًا, وعن جَنبَيِ الصِّراطِ سُوران فيهما أبوابٌ مفتوحةٌ, وعلى الأبوابِ سُتورٌ مُرخاةٌ, وعند رأسِ الصِّراطِ داعٍ يقولُ: استقيموا على الصِّراطِ ولا تَعْوَجُّوا, وفوق ذلك داعٍ يدعو, كلَّما همَّ عبدٌ أن يفتحَ شيئًا من تلك الأبوابِ قال: ويحَك!! لا تفتَحْه فإنَّك إن تفتَحْه تلِجْه), ثمَّ فسَّره فأخبر أنَّ الصِّراطَ هو القرآنُ والدَّاعي من فوقه هو واعظُ اللهِ في قلبِ كلِّ مؤمنٍ.
أما الفتن العامة .. التي تنزل بعموم الأمة فإنه ينبغي في أوقات الفتن أن يعتصم الناس بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, ففيهما النجاة كل النجاة من الفتن, {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}.. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تركتُ فيكم أَمْرَيْنِ لن تَضِلُّوا ما تَمَسَّكْتُمْ بهما: كتابَ اللهِ وسُنَّةَ نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ).
ومما ينبغي في أوقات الفتن أن يقترب الناس من ربهم تبارك وتعالى أكثر وأكثر, فهو سبحانه القادر وحده على رفع البلاء, وهو سبحانه القادر وحده على كشف الضر, وهو سبحانه القادر وحده على إنهاء الأزمات.
الناس في زمن الفتنة تغفل عن العبادة, أخرج مسلم في صحيحه من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ), بل إن أجر العبادة في زمن الفتنة يضاعف, جاء في الحديث عن عتبة بن غزوان رضي الله عنه وصححه الشيخ الألباني رحمه الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ مِن ورائِكم أيامَ الصَّبرِ، لِلمُتَمَسِّكِ فيهنَّ يومئذٍ بما أنتم عليه أجرُ خمسين منكم، قالوا: يا نبيَّ اللهِ منا أو منهم؟ قال: بل منْكم).
ومما ينبغي أن يحرص عليه المسلم دائمًا ويتأكد ذلك في أوقات الفتن أن يسأل الله الثبات على دينه, روى الترمذي وغيره وصححه الألباني أن شهر بن حوشب رحمه الله قال: قُلتُ لأمِّ سلمةَ: يا أمَّ المؤمنينَ.. ما كانَ أَكْثرُ دعاءِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا كانَ عندَكِ؟ قالَت: كانَ أَكْثرُ دعائِهِ: يا مُقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ, قالَت: فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ ما أكثرُ دعاءكَ يا مقلِّبَ القلوبِ ثبِّت قلبي على دينِكَ؟ قالَ: يا أمَّ سلمةَ .. إنَّهُ لَيسَ آدميٌّ إلَّا وقلبُهُ بينَ أصبُعَيْنِ من أصابعِ اللَّهِ، فمَن شاءَ أقامَ، ومن شاءَ أزاغَ.
فإذا كان سؤال الله الثبات هو أكثر دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر, فماذا نقول نحن العاصون الضعفاء المساكين؟
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ وراقبوه في السر والنجوى, واعلموا أن أجسادنا على النار لا تقوى .
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. ومن وسائل الثبات على دين الله في الفتن لزوم جماعة المسلمين وعدم مفارقتها, أخرج البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال: كان الناسُ يَسأَلونَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنِ الخيرِ، وكنتُ أسأَلُه عنِ الشرِّ، مَخافَةَ أن يُدرِكَني، فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنا كنا في جاهليةٍ وشرٍّ، فجاءنا اللهُ بهذا الخيرِ، فهل بعدَ هذا الخيرِ من شرٍّ؟ قال: (نعمْ). قلتُ: وهل بعدَ ذلك الشرِّ من خيرٍ؟ قال: (نعمْ، وفيه دَخَنٌ). قلتُ: وما دَخَنُه؟ قال: (قومٌ يَهْدُونَ بغيرِ هَديِي، تَعرِفُ منهم وتُنكِرُ) . قلتُ: فهل بعدَ ذلك الخيرِ من شرٍّ؟ قال: (نعمْ، دُعاةٌ على أبوابِ جَهَنَّمَ، مَن أجابهم إليها قَذَفوه فيها). قلتُ: يا رسولَ اللهِ صِفْهم لنا، قال: (هم من جِلدَتِنا، ويتكَلَّمونَ بألسِنَتِنا). قلتُ: فما تأمُرُني إن أدرَكني ذلك؟ قال: (تَلزَمُ جماعةَ المسلمينَ وإمامَهم). قلتُ: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمامٌ؟ قال: (فاعتَزِلْ تلك الفِرَقَ كلَّها، ولو أن تَعَضَّ بأصلِ شجرةٍ، حتى يُدرِكَك الموتُ وأنت على ذلك).
فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة رضي الله عنه بلزوم جماعة المسلمين, ألا فليتنبه لذلك من يسعى من حيث يعلم أو لا يعلم لتفريق صف المسلمين وكلمتهم, سواء كان ذلك عن طريق كتابة يكتبها في صحيفة أو تغريدة أو منشور, أو كان عن طريق مقطع يسجله أو ينشره أو يعيد إرساله, أو كان عن طريق إثارة ما يفرق صف المسلمين ويهدد اللحمة الوطنية كما يقال, سواء كان عن طريق مصادمة أخلاق الناس أو دينهم أو إشاعة منكر بينهم ونحو ذلك.
وليُعلم أنه من أولى ما ينبغي أن يفعله المسلمون في أوقات الفتن هو اللجوء إلى الله تعالى والتضرع إليه, ولا ينبغي أبدًا إشغال الناس بما يغضب الله تعالى فإنه خطر على الجميع .. الفاعل والراضي والساكت.
إن ما نشاهده في بلادنا اليوم من بعض المهرجانات الصيفية أو الحفلات الغنائية وغيرها والتي يظهر فيها منظموها كثيرًا من المخالفات الشرعية التي نهى الله عنها على الدوام .. فكيف إذا كانت هذه المنكرات الظاهرة تقام في وقت تعيش فيه البلاد في جنوبها حربًا شرسة, إن الواجب في مثل هذه الأزمات لجوء الناس إلى ربهم والتضرع إليه أن يكفينا شر الأشرار وكيد الفجار, فكيف نقابل حفظه لنا بمعصيته.
إن من غفل عن طاعة الله تعالى في مثل هذه المواقف والتهى بالمعاصي والمنكرات فإن ذلك مؤذن بهلاك المجتمع كله: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}.
والواجب على من ولاه الله تعالى أمرًا الأخذ على أيدي من يدعو إلى هذه المعاصي الظاهرة, ومنعها بكل وسيلة, والواجب على عموم الناس مقاطعة هذه المنكرات قربة لله تعالى, وشكرًا له على نعمه, وإلا فإن سنن الله ثابتة لا تتخلف.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.. اعلموا أن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فاللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المرفقات

حالنا في الفتن 16-11-1437هـ.docx

حالنا في الفتن 16-11-1437هـ.docx

المشاهدات 1647 | التعليقات 0