حافظوا على الأساس كي لا ينهار البناء بقلم / د. محمد بن خالد الفاضل

حافظوا على الأساس كي لا ينهار البناء



من نعم الله على هذه البلاد المباركة أنها منبع الإسلام ومهد العروبة , ومن قدر الله المشاهد والمحسوس على هذه البلاد أنها لا تزهو وتزدهر وتدخل التاريخ ويعلو شأنها وتتصدر إلا برفع راية الدين على أرضها ونشره في ربوعها , ولو عدنا نستنطق التاريخ ونسأله دليلاً على هذه الحقيقة لقال لنا إن جزيرتكم هذه لم تكن شيئاً مذكوراً قبل أن يشرفها الله ببعثة خير خلقه محمد بن عبدالله - عليه الصلاة والسلام - , وينزل عليه كلامه العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , ولم يكن لها يدٌ ولا رأسٌ في قيادة العالم وبناء حضارته , لكنها بعد أن رأت هذا النور اهتزت وَرَبَتْ وأورقت وأثمرت , وتغيّر كل شي فيها خلال عقدين من الزمان , وهي مدة يسيرة لا تعد شيئاً في تاريخ الأمم , فتحولت إلى قائدة للعالم بعد أن كانت في ذيله , وصار عباد الأصنام الأميون المتناحرون سادة العالم وقادته , فخرج منهم العلماء والسياسيون والقادة العسكريون والمبرزون الأفذاذ في كل فن ومجال نافع مثمر , وخرجت منها رسائل إلى ملوك الأرض وزعماء إمبراطورياتها المعاصرة تفيض عزة وقوة وشموخاً , لكنها تحمل الهدى والنور لمن عقلها وفهمها وتواضع لها , وتنذر بالويل والثبور لمن تكبر عليها وصدف عنها , وما هي إلا سُنيّات قليلة وإذا بهذه العروش تتهاوى وتتساقط على وقع سنابك خيل جند الرحمن الذين يحملون مشاعل الهدى والنور للبشرية , ولا غرو فقد خرج من رعية هذه الإمبراطوريات صفوة من أكابر علماء الإسلام بعد أن تفتحت أذهانهم وعقولهم وأُشربت هذا النور العظيم .




وتمر بعد ذلك عقود وقرون تنتقل منها مشاعل النور ومصادر التوجيه إلى بلاد أخرى فتغفو جزيرتنا غفوة طويلة وينساها التاريخ إلا من ومضات يسيرة لا تكاد تذكر , وتنبت فيها نوابت الجهل وما يتبعها عادة من الخرافة والبدعة , فيقيّض الله لها من يجدد فيها أمر دينها على هدي الكتاب والسنة وفق فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام الربانيين الذين جاؤوا بعدهم , ومن قدر الله أن اسم هذا المجدد يوافق اسم المبلّغ والهادي – عليه الصلاة والسلام - , ولست بهذا الكلام أغلو في المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب – رحمه الله - , أو أمنحه منزلة ليست له ; لأنه إنما جاء لمحاربة الغلو في الصالحين , ورفعهم فوق منزلتهم , وإنما أراه عبداً لله أكرمه الله بأن يكون أحد المجددين الذين بشّر بهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – على رأس كل قرن , ومن توفيق الله لهذه الأسرة الخيّرة ( آل سعود ) أن وفق جدّهم الإمام محمد بن سعود – رحمه الله – إلى احتضان هذا المجدد المبارك بعد أن تخلى عنه غيره من الأمراء الذين حوله , والتحالف معه على نصرته ونشر دعوته بصدق وإخلاص , وعلامة الصدق والإخلاص عادة ما يسفر عنهما من نتائج , ولقد أسفر هذا التحالف المبارك عن نتائج باهرة ومفرحة للرجلين ومن معهما ولأهل البلاد القريبة بل وللجزيرة كلها , ثم لعموم المسلمين , حيث امتدت غصون هذه الدوحة وثمارها لتصل إلى الهند والجزائر وما حولهما وما بينهما وما وراءهما من بلاد المسلمين , فعاد لهذه الجزيرة دورها وريادتها كما كانت من قبل وانطلق منها التوحيد النقي الصافي إلى أرجاء المعمورة , ولست بهذا الكلام أجرّد بلاد المسلمين وعلماءهم مما عندهم من خير وعلم وتوحيد , وإنما أقول إن هذه الدعوة المباركة زادت من عنده خير خيراً إلى خيره , وبصّرت طلاب الحق المقصرين بما عندهم من قصور وانحراف فقوّموه وصوّبوه , والشيء المهم السار لدينا في هذه البلاد هو أن حكامنا الكرام من آل سعود يدركون هذه الحقيقة التاريخية والواقعية منذ جدهم الأول محمد بن سعود – رحمه الله – حليف الشيخ ومرسي دعائم هذا الكيان على خدمة العقيدة والشريعة والاستظلال بظلها الوارف , إلى قائدنا الحالي خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله – وفقه الله وسدده - , وما فتئوا جيلاً بعد جيل وزعيماً بعد زعيم يرددون هذه الحقيقة ويؤكدونها , وقد رسخوها رسمياً في أنظمة الحكم المعمول بها وسائر أنظمة البلاد وقوانينها فصارت الشريعة دستوراً للبلاد تحتكم إليه في محاكمها وتأطر الناس عليه أطراً ؛ لأنها حق لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه , وحصّنت الإعلام والتعليم بسياسات وأنظمة تحافظ بها على دين الأمة وعلى الأساس الراسخ الذي قامت عليه البلاد , وأحاطت الأسواق ومجامع الناس بسياج الحسبة وأسست له هيئة متينة محكمة يسوسها العلماء بنظام محكم صارم , ولعل هذه الاحتياطات والضمانات سر من أسرار تماسك دولتنا واستقرارها مع مرور أكثر من قرن على قيامها في دورها الثالث , مع أنها تعيش في بحر متلاطم , ولعل بركة خدمتها لهذا الدين ورفعها راية التوحيد كان سبباً في هذا الخير الذي تفجر في أرضها فكانت قبلة الاقتصاد وهي قبل ذلك وبعده قبلة العبادة .




وإن أخطر ما نواجهه هذه الأيام هو غياب بعض هذه الحقائق عن نفر من رجال الإعلام والتوجيه , وقيام بعضهم – بقصد أو دون قصد – بالمساس بهذه الأسس المتينة التي قامت عليها البلاد ومحاولة الشغب والالتفاف عليها والتشكيك فيها أو في حَمَلَتها , وهذا باب ينبغي أن يظل خطاً أحمر يمنع الاقتراب منه قطعياً وتقطع دونه الأيدي والرقاب . وكما اصطففنا صفاً واحداً في حرب الإرهابيين والغلاة , فعلينا أن نصطف كذلك في محاربة التغريبيين , وهم ينخرون في الأساس , والأساس إذا مُسّ اهتز البناء فإن خُلخل سقط البناء على رؤوس سكانه , وثمة حقيقة كبرى ينبغي أن نتواصى بها كباراً وصغاراً , وهي أن بلادنا وحكومتنا لا شرعية لها بدون هذا الدين , فهو فراشها وغطاؤها , ومن نعم الله أن حكامنا أكثر من يدرك هذه الحقيقة , ويفاخر بها صباحاً ومساءً في كلماتهم وخطاباتهم , نسأل الله أن يزيدنا وإياهم فقها وبصيرة وأن يحفظ لنا هذه السفينة المباركة التي نبحر فيها جميعاً لأننا إذا سمحنا للسفهاء بخرقها فسنغرق جميعاً – لا سمح الله - .




بقلم / د. محمد بن خالد الفاضل
أستاذ اللغة العربية بجامعة الأمير سلطان
5 / 1 / 1431 هـ

المصدر: لجينيات
المشاهدات 2086 | التعليقات 0