"حارسُ الإسلام" 13 /5/ 1446هـ
د عبدالعزيز التويجري
الخطبة الاولى : حارسُ الإسلام بيأبي وقاصومقبنارت 13/5/1446هـ
الحمد للهِ العلي الأعلى ، له الأسماءُ الحسنى والصفاتُ العلى، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمداً عبدالله ورسولِه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن بهديه اهتدى وسلم تسليما أما بعد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}
الأحداثُ والمواقفُ توقظُ الضمائرَ وترفعُ الهممَ وتحي الرممَ {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
وللإسلامِ رجالٌ بذكرهم تحيا القلوبُ وتعلوا النفوسُ ، وفي قصصهِم عِبْرَةٌ وذكرى {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ}..
وفي سجلِ التاريخ تمرُ عليك قوافلَ ممن بنوا مجدَ الأمةِ بمواقفهِم ، وسطروا التاريخَ بمداد أقوالهمِ وعطائِهم ، وتخَلَد ذكرُهم بصنائعِ أعمالهمِ وصدقِ سرائرهم .
ويأتي أبو إسحاق في مقدمة السباق ، مَكَثَ سَبْعَةَ أَيَّام وَإِنِّه لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ..
إنه حارسُ الإسلامِ وفارسُ القادسيةِ، الأميرُ الفذّ، أحدُ العشرةِ المبشرين بالجنةِ، وأحدُ الستةِ من أهلِ الشورى في الخلافة.. أسدٌ من أسودِ الإسلام، وزاهدٌ من زهاده، ورجلٌ من كبار أعلامِه .. أبو إسحاق سعدُ بن أبي وقاص. خالُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .. من كان رسولُ اللهِ r يعتز به ويفاخرُ به .. قال جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنه : أَقْبَلَ سَعْدٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ r: هَذَا خَالِي فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ. أخرجه الترمذي..
لبِسْتَ منَ الفضائِلِ ثوبَ فخْرٍ ** ولكنْ كُنتَ أنتَ لهُ الطّرازا
يُفاخرُ به عليه الصلاة والسلام لا لأنه أكثرُ الصحابةِ مالا، ولا أو سعُهم دارا ، ولا لأنه يحضرُ المجامع ليُشْهرَ نفسَهُ ويُظهَر عمَله ويتبجحُ بمالِه .. يُفاخرُ به لأنه فارسُ المهماتِ ، ورجلُ النائبات .. قالت عَائِشَةَ رضي الله عنها: سَهِرَ رَسُولُ اللهِ r مَقْدَمَهُ الْمَدِينَةَ، لَيْلَةً، فَقَالَ: «لَيْتَ رَجُلًا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِي يَحْرُسُنِي اللَّيْلَةَ» قَالَتْ: فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ سَمِعْنَا خَشْخَشَةَ سِلَاحٍ، فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟» قَالَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ r: «مَا جَاءَ بِكَ؟» قَالَ: وَقَعَ فِي نَفْسِي خَوْفٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ r، فَجِئْتُ أَحْرُسُهُ، فَدَعَا لَهُ رَسُولُ اللهِ r، ثُمَّ نَامَ. متفق عليه .
ما أسعدَ الإنسانَ حين يكونُ همُّه ومهمتُه حراسةَ الإسلام ...
لَهُ هِمَّةٌ تَعلُو علَى كلِّ هِمَّةٍ ** كمَا قَد عَلا البَدرُ النُّجومَ الدَّرَارِيَا
ويكفيه مكرمةً وفخرا وفضلاً ما جاء في صحيح مسلم قال سعد "لَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ".
شرفُ تخجلُ الكواكبُ إذ يبدو ** وتُطوى بذيلهِ الجوزاءُ
قال عَلِيُّ t: مَا سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ r جَمَعَ أَبَوَيْهِ لأَحَدٍ غَيْرَ سَعْدٍ، قال سعد نَثَلَ لِي رَسُوْلُ اللهِ r كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ: (ارْمِ! فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي) أخرجه البخاري.
وَكَانَ سَعْدٌ رَامِياً، وكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَحْرَقَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ r لسعد: «ارْمِ فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» قَالَ فَنَزَعْتُ لَهُ بِسَهْمٍ لَيْسَ فِيهِ نَصْلٌ، فَأَصَبْتُ جَنْبَهُ فَسَقَطَ، فَانْكَشَفَتْ عَوْرَتُهُ فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ rحَتَّى نَظَرْتُ إِلَى نَوَاجِذِهِ. أخرجه مسلم.
ولاه عمر قيادة الْقَادِسِيَّةِ، قال ابن كثير رحمه الله :وكانت وَقْعَةٌ عَظِيمَةٌ لَمْ يَكُنْ بِالْعِرَاقِ أَعْجَبُ مِنْهَا ; وكَانَ سَعْدٌ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَدْ أَصَابَهُ مرض، لَا يَسْتَطِيعُ معه الرُّكُوبَ فاضطجع فِي مشرفةٍ مُتَّكِئٍ عَلَى صَدْرِهِ فَوْقَ وِسَادَةٍ، يَنْظُرُ إِلَى الْجَيْشِ وَيُدَبِّرُ أَمْرَهُ، ويَنْظُرُ فِي مَصَالِحِ الْجَيْشِ .. حتى انْهَزَمَتِ الْفُرْسُ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، وَلَحِقَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ الْمُسَلْسَلُونَ بِكَمَالِهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَقُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ عَشَرَةَ آلَافٍ.
وَسَاقَ الْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُمُ الْمُنْهَزِمِينَ حَتَّى دَخَلُوا الْمَدَائِنُ الَّتِي فِيهَا إيوان كسرى، وغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ وَقْعَةِ الْقَادِسِيَّةِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالسِّلَاحِ مَا لَا يُحَدُّ وَلَا يُوَصَفُ كَثْرَةً، وَبُعِثَ بِالْخُمُسِ وَالْبِشَارَةِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ كَانَ عُمَرُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَسْتَخْبِرُ عَنْ أَمْرِ الْقَادِسِيَّةِ كُلَّ مَنْ لَقِيَهُ مِنَ الرُّكْبَانِ وَيَخْرُجُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى نَاحِيَةِ الْعِرَاقِ كل يوم يَسْتَنْشِقُ الْخَبَرَ..
يا من رأى عُمَراً تكسوه بردته ... والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً ... من بأسه وملوك الروم تخشاه
وبعد هذا المكارم والمكرمات لبطل الإسلام سعد بن أبي وقاص .. يكافئه عمر فيوليه إمرة الكوفة لكفائته وحنكته وعدله وحسن إدارته .
وحين يتنكر الأقزام من الكرام ، ولا يُحفظُ حق من لهم سابقة في الإسلام ، تطْرُقُ سمعك شنشنات يُحْتقَر أو يُزهد بأهل الفضل بأنهم رجال كغيرهم ، لا يُعْتبرُ لهم قولاً ، ولا يُحْترم لهم فضلاً ، ويُتكلمُ فيهم على الدين .. قال سعد بن أبي وقاص حين تُكلم فيه ووشي عليه إلى عمر «إِنِّي لَأَوَّلُ الْعَرَبِ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ , وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا نَغْزُو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ r وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقَ السَّمَرُ. ثُمَّ أَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَيِّرُنِي عَلَى الْإِسْلَامِ لَقَدْ خِبْتُ إِذًا وَضَلَّ عَمَلِي» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ..
ما أعظمَ أن يقهرَ الانسانُ في نفسهِ أو يُتهمَ في دينه بغير حق .. قالَ جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ رضي الله عنه: شَكَا أَهْلُ الكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ رضي الله عنه، فَأَرْسَلَ عمرُ رِجَالًا إِلَى الكُوفَةِ، فَسَأَلَوا عَنْهُ أَهْلَ الكُوفَةِ وَلَمْ يَدَعْوا مَسْجِدًا إِلَّا سَأَلَوا عَنْهُ، وَيُثْنُونَ مَعْرُوفًا، حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ فقَالَ: أَمَّا إِذْ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لاَ يَسِيرُ بِالسَّرِيَّةِ، وَلاَ يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلاَ يَعْدِلُ فِي القَضِيَّةِ، قَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بِثَلاَثٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَأَطِلْ عُمْرَهُ، وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ بِالفِتَنِ، وَكَانَ بَعْدُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قَالَ عَبْدُ المَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الكِبَرِ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ. أخرجه البخاري .. هذا جزاء من آذى الصالحين ورماهم بما ليس فيهم ..
ليتعزى أهل الدين والصلاح بمثل حارس الإسلام، إذا لم يرع الجهلاء حقَهم ، وتندر السفهاءُ من ثباتِهم وتدينِهِم ..
وكم على الأرض أشجارُ مورقةُ ** وليس يرجمُ إلا من به ثمرُ
يا ويل الَّذين يظْلمُونَ النَّاس ويبغون فِي الأَرْض بِغَيْر .جزائهم( أُولَئِكَ لَهُم عذابٌ أَلِيم).
وبعد هذه الفضائل والمكرمات ، والسابقة في الاسلام والتضحيات.. اشترى سعد بن ابي وقاص غُنيمات ورحل خارج المدينة واعتزل الناس .. لما اطلت الفتن وتاقت نفوس للمناصب والرئاسة .
حكى عنه ابنه عامرُ بنُ سَعْدٍ: قال اتخذ أبي غَنَماً لَهُ، فَجَاءَ ابْنُهُ عُمَرُ، فَقالَ: يَا أَبَتِ أَرَضِيْتَ أَنْ تَكُوْنَ أَعْرَابِياً فِي غَنَمِكَ، وَالنَّاسُ يَتَنَازَعُوْنَ فِي الملْكِ ، فَضَرَبَ صَدْرَ ابنهِ وَقَالَ: اسْكُتْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُوْلَ اللهِ r يَقُوْلُ : (إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَّنِيَّ، الخَفِيَّ..
فاللهم اجعلنا من الأتقياء الأغنياء الأخفياء
وبقي سعدُ t في العقيق خارج المدينةِ حتى أتاه الاجل.. قالت عائشة رضي الله عنها لما تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ r، أَنْ يَمُرُّوا بِجَنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَيُصَلِّينَ عَلَيْهِ، فَفَعَلُوا فَوُقِفَ بِهِ عَلَى حُجَرِهِنَّ يُصَلِّينَ عَلَيْهِ . أخرجه مسلم.
رضي الله عنه وعن صحابة رسول الله r وحشرنا الله في زمرتهم مع محمد عليه السلاة والسلام
ونستغفر الله ونتوب إليه إنه كان للأوابين غفورا.
الخطبة الثانية :الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه والتابعين أما بعد
اللهَ اللهَ في السرائر؛ فإن الله لما علم صدقَ سعدٍ وإقبالهِ على الدين وإخلاصهِ؛ وفَقَه وألهمه وسدده في المواقف؛ فكان مسدداً مهدياً حتى مات رضي الله عنه.
فبقدرِ صدقِك يمنحُك اللهُ الثباتَ في الأقوالِ والأفعالِ والتصرفات، ويحرسُك سبحانه وتعالى بعين رعايته.
أعطى سعدُ بن أبي وقاص درساً : أنّ المكارمَ لا تُنالُ إلا بالسِباق في المكرُماتِ ولو كنتَ وحدَك في الطريق قال t "لَقَدْ مَكَثْتُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَإِنِّي لَثُلُثُ الإِسْلاَمِ".
فلا تمييعَ للدينِ ولا مداهنةَ فيه ، بل ولاءٌ للهِ ورسولهِ والمؤمنين واستقامةٌ على الطريق..
العملُ للدينِ قائمٌ على كلِ مسلمِ كلٌ بحسبهِ ، انفقَ رجلٌ من برهِ من صاعِ تمرهِ من علْمِه من شِعْرِه ، من رأيهِ ، فسعدٌ لم يُقْعِده المرضُ عن المشاركةِ في نصرةِ الإسلام..
فلا تحتقرنّ عملاً تقومُ به في نصرةِ الإسلامِ وحفظِ دينك، ولو بكلمةِ طيبة ، ونصيحةٍ عابرة، أو موقف يحفظك الله به .
إذا شرفكَ اللهُ بهذا الدينِ فكن ثابتا فيه لا تُزحْزِحك الظروفُ، ولا تُغيرك المستجداتُ والصروفُ.. اعتزلْ كلَ ما يؤثرُ على دينِك أو ثباتِك .. ثباتٌ على المنهج القويم، واعتزالٌ للفتن ، وهذا ما تمثله سعد بن ابي وقاص حين اعتزلَ الفتن واتخذ غُنَيماتٍ خارج المدينةِ متمثلاً قول النبي r«يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرَ مَالِ المُسْلِمِ غَنَمٌ يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ» وليس الاعتزالُ أنّ تعتزل الناس وصلتَهم، والدنيا بفتنِها واخبارِها بين يديك ، تسمر عينيك وتسرح بقلبك..
اللهم اهد قلوبنا واعمالنا، وطهر سرائرنا ، واستعملنا في طاعتك ، وجنبنا وذرياتنا الفتن ، واكفنا ياربنا شر الأشرار وشر طوارق الليل والنهار ، اللهم آمنا في دورنا وأصلح ولاة أمورنا ...
المرفقات
1731582500_حارسُ الإسلام.docx
1731582500_حارسُ الإسلام.pdf