حادثة تفجير القديح
المهذب المهذب
1436/08/10 - 2015/05/28 21:57PM
خطبة حول حادثة تفجير القديح ، مهذبة ومجموعة من عدة خطب لمشايخنا الفضلاء بالملتقى، ومعظمها للشيخ إبراهيم الحقيل
حَادِثَةُ تَفْجِيرِ القدِيحِ
11/8/1436
الْحَمْدُ لِلَّـهِ المَلِكِ الْحَقِّ المُبِينِ، أَنَارَ الطَّرِيقَ لِلسَّالِكِينَ، وَصَرَفَ عَنْ صِرَاطِهِ الضَّالِّينَ، وَجَعَلَ الْبَلَاءَ سُنَّةً فِي عِبَادِهِ أَجْمَعِينَ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَنَسْأَلُهُ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَظِيمٌ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَلَهُ الْكَمَالُ المُطْلَقُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيَنْشُرَ الْإِيمَانَ وَالْأَمْنَ، وَيُقِيمَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَيَرْفَعَ الْبَاطِلَ وَالظُّلْمَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَلاَ تَعْصُوا، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، فَبِالِاجْتِمَاعِ تَأْتَلِفُ الْقُلُوبُ، وَتَزْدَادُ الْقُوَّةُ، وَتُهَابُ الْأُمَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ الْأَمْنُ. وَبِالْفُرْقَةِ تَسْتَوْحِشُ الْقُلُوبُ، وَتَتَنَافَرُ النُّفُوسُ، وَتَذْهَبُ الرِّيحُ، وَيَتَحَقَّقُ الْفَشَلُ، وَتُسْتَبَاحُ الْأُمَّةُ، وَيَنْتَشِرُ الْخَوْفُ. وَمَا نَالَ الْأَعْدَاءُ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا عَلَوْا عَلَيْهِمْ إِلَّا بِأَيْدِيهِمْ، حِينَ أَوْقَعُوا الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمْ، وَجَعَلُوا بَعْضَهُمْ يَضْرِبُ بَعْضًا.
وَكُلُّ ذَلِكَ مِصْدَاقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ حِينَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلَا المَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ، فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «الهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ». فَالْقَاتِلُ فِي الْحَدِيثِ لَا يَدْرِي مَا الدَّافِعُ الْحَقِيقِيُّ لِلْقَتْلِ، وَلَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُدْرِكُ الدَّافِعَ وَهُوَ لَا يُدْرِكُهُ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْحُكْمَ وَهُوَ يَجْهَلُهُ، وَبِهَذَا الْخَطإِ فِي الْفَهْمِ، وَالْجَهْلِ فِي الْحُكْمِ يَسْتَبِيحُ قَتْلَ مَنْ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ.
وَكَذَلِكَ المَقْتُولُ لَا يَدْرِي مَا الدَّافِعُ لِقَتْلِهِ؛ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا يُوجِبُ الْقَتْلَ.
وَغَالِبُ الدِّمَاءِ الَّتِي سُفِكَتْ فِي المُسْلِمِينَ مُنْذُ أَنْ وُضِعَ السَّيْفُ فِي الْأُمَّةِ بِمَقْتَلِ عُثْمَانَ هِيَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي يَجْهَلُ فِيهِ الْقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ سَبَبَ الْقَتْلِ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَظِيمٍ يَكْشِفُ أَنَّ الْعُقُولَ تَذْهَبُ فِي الْفِتَنِ وَتَحَارُ وَتَطِيشُ، فَلَا يَمْلِكُ عَقْلَهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ، وَأَمَّا الْكَثِيرُ فَمُنْدَفِعٌ إِلَى الْفِتْنَةِ بِلَا عَقْلٍ رَشِيدٍ، وَلَا رَأْيٍ سَدِيدٍ، رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرْجًا» ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ» ، فَقَالَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَقْتُلُ الْآنَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِنَ المُشْرِكِينَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لَيْسَ بِقَتْلِ المُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَابْنَ عَمِّهِ وَذَا قَرَابَتِهِ» ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَعَنَا عُقُولُنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لاَ. تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ لَا عُقُولَ لهُمْ» ثُمَّ قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجًا، إِنْ أَدْرَكَتْنِي وَإِيَّاكُمْ، إِلَّا أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَا فِيهَا لَمْ نُصِبْ مِنْهَا دَمًا وَلَا مَالًا».
وَإِنَّمَا ذَهَبَتِ الْعُقُولُ فِي تِلْكَ الْفِتَنِ؛ لِأَنَّهَا تَظُنُّ أَنَّهَا تَعْلَمُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تُطِيعُ اللهَ تَعَالَى وَهِيَ تَعْصِيهِ، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تُصْلِحُ وَهِيَ تُفْسِدُ، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تَنْصُرُ دِينَ اللَّـهِ تَعَالَى وَهِيَ تَنْتَصِرُ لِأَشْخَاصٍ دُونَ الدِّينِ، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تَمْلِكُ زِمَامَ الْأُمُورِ وَهِيَ لَا تَمْلِكُهَا، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تُحِيطُ بِالْوَاقِعِ وَهِيَ لَا تُدْرِكُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ تُحِيطَ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ بَعْضُ كِبَارِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَصَابَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مِنْ شِدَّةِ وَقْعِ الْفِتْنَةِ فَكَيْفَ بِمَنْ هُمْ دُونَهُمْ عِلْمًا وَفِقْهًا وَتَقْوَى وَوَرَعًا وَزُهْدًا وَعِبَادَةً؟!
وَإِلَّا فَأَيُّ جِهَادٍ فِي تَفْجِيرِ النَّفْسِ فِي جَمْعٍ مِنَ المُصَلِّينَ دَاخِلَ مَسْجِدٍ وَهُمْ يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ، مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الرُّهْبَانِ فِي الْكَنَائِسِ، فَكَيْفَ بِقَتْلِ المُصَلِّينَ فِي المَسَاجِدِ؟! وَبُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى مَحَلُّ الْأَمْنِ لَا الْخَوْفِ، وَقَدْ شَنَّعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنِ انْتَهَكُوا حُرْمَةَ المَسَاجِدِ فِي حُرُوبِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتُحِلَّ الْغَدْرُ بِالمُصَلِّينَ فِي المَسَاجِدِ الْآمِنَةِ فَمَا الذِي يَبْقَى آمِنًا لِلنَّاسِ؟ وَأَيُّ حُرْمَةٍ تَبْقَى لَمْ تُنْتَهَكْ بِآرَاءٍ كَاسِدَةٍ، وَتَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةٍ، وَجَهَالَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ؟!
هَذَا مِنْ جِهَةِ شَنَاعَةِ الْفِعْلِ شَرْعًا، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ فَسَادِهِ فِي السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَّ المَشْرُوعَ الِاسْتِعْمَارِيَّ الْغَرْبِيَّ لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ قَدْ ظَهَرَ مِنَ السِّرِّ إِلَى الْعَلَنِ، وَبُدِئَ فِي تَنْفِيذِهِ عَمَلِيًّا؛ وَذَلِكَ بَعْدَ فَشَلِ الْغَزْوِ المُبَاشِرِ لأَفْغَانِسْتَانَ وَالْعِرَاقِ؛ لِتَكُونَ الْفَوْضَى بَدَلَ الْغَزْوِ، وَيَخلُقُوا بُؤَرَاً لِلصِّرَاعِ بِأَسْبَابٍ مَذْهَبِيَّةٍ أَوْ عِرْقِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَيُشْعِلُوا نَارَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تُحَرِّكُ أَكْثَرَهُمْ، وَيُمِدُّوهُمْ بِالسِّلَاحِ لِيَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَّتى إِذَا مَا أُنْهِكُوا جَمِيعًا جَاءَ المُسْتَعْمِرُ لِيَفْرِضَ نُفُوذَهُ، وَيُمْلِيَ شُرُوطَهُ، وَيُقَسِّمَ المُقَسَّمَ مِنْ بِلَادِ المُسْلِمِينَ إِلَى دُوَيْلَاتٍ صَغِيرَةٍ مُتَعَادِيَةٍ، يَسْهُلُ إِشْعَالُ الصِّرَاعِ بَيْنَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ يُرِيدُونَ. فَهَلْ يَكُونُ ذَا عَقْلٍ مَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ أَدَاةً لِتَنْفِيذِ هَذَا المُخَطَّطِ الْإِجْرَامِيِّ الَّذِي يَقْضِي عَلَى مَا تَبَقَّى مِنْ بُلْدَانِ المُسْلِمِينَ وَأَرَاضِيهِمْ؟!
وَمِنَ الْغَبْنِ الْعَظِيمِ، وَالْإِثْمِ الْكَبِيرِ أَنْ تُنَفَّذَ هَذِهِ السِّيَاسَةُ الْخَبِيثَةُ بِأَيْدِي أَبْنَاءِ المُسْلِمِينَ، سَوَاءً شَعَرُوا أَنَّهُمْ بِهَذَا الْفِعْلِ الشَّنِيعِ يَخْدُمُونَ المَشْرُوعَيْنِ الِاسْتِعْمَارِيَّيْنِ الْغَرْبِيِّ وَالصَّفَوِيِّ أَمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِذَلِكَ.
فَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَآلَ مَا فَعَلُوا وَنَتِيجَتَهُ فَهُمْ عُمَلَاءُ مُظَاهِرُونَ لِأَعْدَاءِ الْأُمَّةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَقَدْ أَرْدَى بِهِمْ جَهْلُهُمْ وَحُمْقُهُمْ إِلَى هُوَّةٍ سَحِيقَةٍ تُهْلِكُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَاللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ أَعْلَمُ بِمَ يُقَابِلُونَهُ بِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَكَمْ فِي هَذَا الْفِعْلِ مِنْ صَدٍّ عَنْ دِينِ اللَّـهِ تَعَالَى، حِينَ تَنَاقَلَتْهُ شَاشَاتُ الْعَالَمِ مِنْ شَرْقِهِ إِلَى غَرْبِهِ، فَإِذَا رَأَى مَنْ دَخَلُوا الْإِسْلَامَ حَدِيثًا، وَمَنْ يُرِيدُونَ الدُّخُولَ فِيهِ أَنَّ بَعْضَ المُسْلِمِينَ يُفَجِّرُ المَسَاجِدَ الَّتِي يُصَلِّي فِيهَا المُسْلِمُونَ، هَلْ يَبْقَى لَهُ رَغْبَةٌ فِي دُخُولِ الْإِسْلَامِ أَوِ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ، فَأَيُّ دِينٍ هَذَا الَّذِي يُبِيحُ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي لَا تُقِرُّهُ الشَّرِيعَةُ، وَتَنْفُرُ مِنْهُ الْفِطَرُ السَّوِيَّةُ.
وَالنَّبِيُّ تَرَكَ قَتْلَ بَعْضِ المُنَافِقِينَ الَّذِينَ عَارَضُوا دِينَهُ، وَجَادَلُوهُ فِي شَرْعِهِ، وَاتَّهَمُوهُ فِي أَمَانَتِهِ وَعِرْضِهِ، وَقَدْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ بِذَلِكَ، لَكِنَّهُ تَرَكَهُمْ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : «لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ».
نَعُوذُ بِاللَّـهِ تَعَالَى مِنَ الْجَهْلِ وَالْظُّلْمِ، وَمِنْ زَيْغِ الْقُلُوبِ، وَمِنْ التَّأَلِّي عَلَى اللَّـهِ تَعَالَى بِلَا عِلْمٍ.. وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ المُسْلِمِينَ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَتَرَبُّصِ المُتَرَبِّصِينَ، وَأَهْدَافِ المُغْرِضِينَ، وَأَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا الْفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَنْ نَلْقَاهُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدُا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَعَوَّذُوا بِهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَسَلُوهُ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ إِلَى المَمَاتِ؛ فَإِنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِذَا أُصِيبَتِ الْأُمَّةُ بِرَزِيَّةٍ مِنَ الرَّزَايَا، وَأُشْعِلَتْ فِيهَا فِتْنَةٌ مِنَ الْفِتَنِ؛ ظَهَرَ الِانْتِهَازِيُّونَ لِيَقْتَاتُوا عَلَيْهَا، وَيَنْفُخُوا فِي نَارِهَا، وَيُصَفُّوا حِسَابَاتِهِمْ مَعَ مَنْ يَرَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُمْ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَفِّي حِسَابَاتِهِ مَعَ الدَّعْوَةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا وَهَّابِيَّهً، وَيُحَمِّلُهَا مَصَائِبَ الْعَالَمِ كُلِّهِ. بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُصَفِّي حِسَابَهُ مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مُبَاشَرَةً، وَيَسْتَغِلُّ الْحَدَثَ لِلطَّعْنِ فِيهِمَا، وَصَرْفِ النَّاسِ عَنْهُمَا. وَمِنَ الِانْتِهَازِيِّينَ مَنْ يُصَفِّي حِسَابَهُ مَعَ الدُّعَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالمَنَاهِجِ الشَّرْعِيَّةِ.
إِنَّ هَؤُلَاءِ الِانْتِهَازِيِّينَ يَفْرَحُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ المُؤْلِمَةِ لِتَحْقِيقِ أَهْدَافٍ وَضِيعَةٍ، وَالْوُصُولِ إِلَى مَآرِبَ شَخْصِيَّةٍ حَقِيرَةٍ، فَقَلْبُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ يَرْقُصُ طَرَبًا عَلَيْهَا، وَهُوَ بِلِسَانِهِ يَلْطُمُ وَيَنْدُبُ كَأَنَّهُ نَائِحَةٌ مُسْتَأْجَرَةٌ.
إِنَّ أَمْنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ ضَرُورَةٌ لِإِقَامَةِ الشَّعَائِرِ، وَضَرُورَةٌ لِلْعَيْشِ الْكَرِيمِ، وَضَرُورَةٌ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْأَعْدَاءِ المُتَرَبِّصِينَ، وَلَمْ يَرْخُصْ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ مِنَ المَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ إِلَى المَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ الْآنِيَّةِ، وَمَنْ حَوَّلَهُ إِلَى سِلْعَةٍ يُتَاجِرُ بِهَا فَبِئْسَ مَا قَالَ وَبِئْسَ مَا فَعَلَ.
لَقَدْ اكْتَوَى أَهْلُ السُّنّةِ قَبْلَ غَيرِهِمْ بِنَارِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ فَصَبَرُوا، وَوَقَفُوا مَعَ حُكَّامِهِمْ صَفَّاً وَاحِدًا فِي مُوَاجَهَةِ الأَخْطَارِ؛ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تُتَّخَذَ هَذِهِ الأَحْدَاثُ مَجَالاً لِلْمُزَايَدَةِ عَلَى أَمْنِ هَذِهِ البِلاَدِ؛ فَالمُزَايَدَةُ عَلَى الأَمْنِ، وَالتَّهْدِيْدُ بِالْحِمَايَةِ الذَّاتِيَةِ أَو الْحُشُودِ الشَّعْبِيِّةِ، أَمْرٌ لاَ يُقِرُّهُ العُقَلاءُ وَالمُخْلِصُونَ, وَهْوَ إِنَّمَا يَخْدِمُ أَعْدَاءَ هَذِهِ البِلاَدِ الَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ لهَا اسْتِقْرَارَاً وَلاَ أَمْنًا, فَلْنَقِفْ صَفًا وَاحِدًا وَيَدًا وَاحِدَةً مَعَ دَولَتِنَا وَرِجَالِ أَمْنِنَا فِي مُوَاجَهَةِ الأَعْمَالِ التَّخْرِيبِيَّةِ وَنَشْرِ الفَوْضَى.
وَمَنْ نَظَرَ إِلَى أَحْوَالِ الْبِلَادِ المُضْطَرِبَةِ وَمَا يُعَانِيهِ أَهْلُهَا مِنْ كَبَدِ الْعَيْشِ وَكُلْفَةِ الْبَقَاءِ، جَمَعَ الْكَلِمَةَ وَلَمْ يُفَرِّقْهَا، وَدَحَرَ الْفِتْنَةَ وَلَمْ يُوقِدْهَا، وَاسْتَعْلَى عَلَى مَصَالِحِهِ الشَّخْصِيَّةِ لِأَجْلِ أُمَّتِهِ وَمَصَالِحهَا، فَهَذَا هُوَ النَّاصِحُ الصَّادِقُ.
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ .
وَبَعْدُ؛ فَإِنَّهُ وَإِنِ استَنكَرَ أَهلُ السُّنَّةِ مِثلَ هَذِهِ الأَعمَالِ وَالجَرَائِمِ وَنَدَّدُوا بها أَشَدَّ تَندِيدٍ، وَاستَنكَرُوا أَن يُظلَمَ جَارُهُم أَو يُعتَدَى عَلَى مُعَاهَدٍ يَعِيشُ في بَلَدِهِم، وَعَدُّوا هَذَا دِينًا يَدِينُونَ اللهَ بِهِ، فَلا يَعني هَذَا بِحَالٍ أَنَّهُم يُوَالُونَ الكُفَّارَ وَالمُشرِكِينَ، أَو يُصَحِّحُون عَقَائِدَ أَهلِ الضَّلالِ، أَو يُوَافِقُون أَصحَابَ الأَهوَاءِ عَلَى بِدَعِهِم، أَو يُجَامِلُونَ بِذَلِكَ أَحَدًا، لا وَاللهِ وَكَلاَّ، فَالحَقُّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ، وَصِرَاطُ اللهِ وَاحِدٌ لا يَتَعَدَّدُ، وَقَد قَالَ سُبحَانَهُ: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ".
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
حَادِثَةُ تَفْجِيرِ القدِيحِ
11/8/1436
الْحَمْدُ لِلَّـهِ المَلِكِ الْحَقِّ المُبِينِ، أَنَارَ الطَّرِيقَ لِلسَّالِكِينَ، وَصَرَفَ عَنْ صِرَاطِهِ الضَّالِّينَ، وَجَعَلَ الْبَلَاءَ سُنَّةً فِي عِبَادِهِ أَجْمَعِينَ، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمِهِ وَآلَائِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَنَسْأَلُهُ الثَّبَاتَ عَلَى دِينِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَظِيمٌ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَلَهُ الْكَمَالُ المُطْلَقُ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَهُ الْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَرْسَلَهُ اللهُ تَعَالَى بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ؛ لِيَنْشُرَ الْإِيمَانَ وَالْأَمْنَ، وَيُقِيمَ الْحَقَّ وَالْعَدْلَ، وَيَرْفَعَ الْبَاطِلَ وَالظُّلْمَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَلاَ تَعْصُوا، ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾، فَبِالِاجْتِمَاعِ تَأْتَلِفُ الْقُلُوبُ، وَتَزْدَادُ الْقُوَّةُ، وَتُهَابُ الْأُمَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ الْأَمْنُ. وَبِالْفُرْقَةِ تَسْتَوْحِشُ الْقُلُوبُ، وَتَتَنَافَرُ النُّفُوسُ، وَتَذْهَبُ الرِّيحُ، وَيَتَحَقَّقُ الْفَشَلُ، وَتُسْتَبَاحُ الْأُمَّةُ، وَيَنْتَشِرُ الْخَوْفُ. وَمَا نَالَ الْأَعْدَاءُ مِنَ المُسْلِمِينَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا عَلَوْا عَلَيْهِمْ إِلَّا بِأَيْدِيهِمْ، حِينَ أَوْقَعُوا الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمْ، وَجَعَلُوا بَعْضَهُمْ يَضْرِبُ بَعْضًا.
وَكُلُّ ذَلِكَ مِصْدَاقُ مَا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ حِينَ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَذْهَبُ الدُّنْيَا، حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى النَّاسِ يَوْمٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ، وَلَا المَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ، فَقِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «الهَرْجُ، الْقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ فِي النَّارِ». فَالْقَاتِلُ فِي الْحَدِيثِ لَا يَدْرِي مَا الدَّافِعُ الْحَقِيقِيُّ لِلْقَتْلِ، وَلَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ فِي ذَلِكَ، فَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ يُدْرِكُ الدَّافِعَ وَهُوَ لَا يُدْرِكُهُ، وَيَظُنُّ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْحُكْمَ وَهُوَ يَجْهَلُهُ، وَبِهَذَا الْخَطإِ فِي الْفَهْمِ، وَالْجَهْلِ فِي الْحُكْمِ يَسْتَبِيحُ قَتْلَ مَنْ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ.
وَكَذَلِكَ المَقْتُولُ لَا يَدْرِي مَا الدَّافِعُ لِقَتْلِهِ؛ لِظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا يُوجِبُ الْقَتْلَ.
وَغَالِبُ الدِّمَاءِ الَّتِي سُفِكَتْ فِي المُسْلِمِينَ مُنْذُ أَنْ وُضِعَ السَّيْفُ فِي الْأُمَّةِ بِمَقْتَلِ عُثْمَانَ هِيَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ الَّذِي يَجْهَلُ فِيهِ الْقَاتِلُ وَالمَقْتُولُ سَبَبَ الْقَتْلِ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَظِيمٍ يَكْشِفُ أَنَّ الْعُقُولَ تَذْهَبُ فِي الْفِتَنِ وَتَحَارُ وَتَطِيشُ، فَلَا يَمْلِكُ عَقْلَهُ إِلَّا الْقَلِيلُ مِنَ النَّاسِ، وَأَمَّا الْكَثِيرُ فَمُنْدَفِعٌ إِلَى الْفِتْنَةِ بِلَا عَقْلٍ رَشِيدٍ، وَلَا رَأْيٍ سَدِيدٍ، رَوَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ : «إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ لَهَرْجًا» ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: «الْقَتْلُ» ، فَقَالَ بَعْضُ المُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا نَقْتُلُ الْآنَ فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ مِنَ المُشْرِكِينَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لَيْسَ بِقَتْلِ المُشْرِكِينَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَابْنَ عَمِّهِ وَذَا قَرَابَتِهِ» ، فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَعَنَا عُقُولُنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : «لاَ. تُنْزَعُ عُقُولُ أَكْثَرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ، وَيَخْلُفُ لَهُ هَبَاءٌ مِنَ النَّاسِ لَا عُقُولَ لهُمْ» ثُمَّ قَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مِنْهَا مَخْرَجًا، إِنْ أَدْرَكَتْنِي وَإِيَّاكُمْ، إِلَّا أَنْ نَخْرُجَ مِنْهَا كَمَا دَخَلْنَا فِيهَا لَمْ نُصِبْ مِنْهَا دَمًا وَلَا مَالًا».
وَإِنَّمَا ذَهَبَتِ الْعُقُولُ فِي تِلْكَ الْفِتَنِ؛ لِأَنَّهَا تَظُنُّ أَنَّهَا تَعْلَمُ وَهِيَ لَا تَعْلَمُ، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تُطِيعُ اللهَ تَعَالَى وَهِيَ تَعْصِيهِ، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تُصْلِحُ وَهِيَ تُفْسِدُ، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تَنْصُرُ دِينَ اللَّـهِ تَعَالَى وَهِيَ تَنْتَصِرُ لِأَشْخَاصٍ دُونَ الدِّينِ، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تَمْلِكُ زِمَامَ الْأُمُورِ وَهِيَ لَا تَمْلِكُهَا، وَتَظُنُّ أَنَّهَا تُحِيطُ بِالْوَاقِعِ وَهِيَ لَا تُدْرِكُهُ فَضْلًا عَنْ أَنْ تُحِيطَ بِهِ.
وَإِذَا كَانَ بَعْضُ كِبَارِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَصَابَتْهُمُ الْحَيْرَةُ مِنْ شِدَّةِ وَقْعِ الْفِتْنَةِ فَكَيْفَ بِمَنْ هُمْ دُونَهُمْ عِلْمًا وَفِقْهًا وَتَقْوَى وَوَرَعًا وَزُهْدًا وَعِبَادَةً؟!
وَإِلَّا فَأَيُّ جِهَادٍ فِي تَفْجِيرِ النَّفْسِ فِي جَمْعٍ مِنَ المُصَلِّينَ دَاخِلَ مَسْجِدٍ وَهُمْ يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ، مَعَ وُرُودِ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الرُّهْبَانِ فِي الْكَنَائِسِ، فَكَيْفَ بِقَتْلِ المُصَلِّينَ فِي المَسَاجِدِ؟! وَبُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى مَحَلُّ الْأَمْنِ لَا الْخَوْفِ، وَقَدْ شَنَّعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنِ انْتَهَكُوا حُرْمَةَ المَسَاجِدِ فِي حُرُوبِهِمْ؛ لِأَنَّهُ إِذَا اسْتُحِلَّ الْغَدْرُ بِالمُصَلِّينَ فِي المَسَاجِدِ الْآمِنَةِ فَمَا الذِي يَبْقَى آمِنًا لِلنَّاسِ؟ وَأَيُّ حُرْمَةٍ تَبْقَى لَمْ تُنْتَهَكْ بِآرَاءٍ كَاسِدَةٍ، وَتَأْوِيلَاتٍ فَاسِدَةٍ، وَجَهَالَاتٍ مُتَرَاكِمَةٍ؟!
هَذَا مِنْ جِهَةِ شَنَاعَةِ الْفِعْلِ شَرْعًا، وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ فَسَادِهِ فِي السِّيَاسَةِ الشَّرْعِيَّةِ؛ فَإِنَّ المَشْرُوعَ الِاسْتِعْمَارِيَّ الْغَرْبِيَّ لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى فِي بِلَادِ المُسْلِمِينَ قَدْ ظَهَرَ مِنَ السِّرِّ إِلَى الْعَلَنِ، وَبُدِئَ فِي تَنْفِيذِهِ عَمَلِيًّا؛ وَذَلِكَ بَعْدَ فَشَلِ الْغَزْوِ المُبَاشِرِ لأَفْغَانِسْتَانَ وَالْعِرَاقِ؛ لِتَكُونَ الْفَوْضَى بَدَلَ الْغَزْوِ، وَيَخلُقُوا بُؤَرَاً لِلصِّرَاعِ بِأَسْبَابٍ مَذْهَبِيَّةٍ أَوْ عِرْقِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا، وَيُشْعِلُوا نَارَ الْفِتْنَةِ الَّتِي تُحَرِّكُ أَكْثَرَهُمْ، وَيُمِدُّوهُمْ بِالسِّلَاحِ لِيَقْتُلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، حَّتى إِذَا مَا أُنْهِكُوا جَمِيعًا جَاءَ المُسْتَعْمِرُ لِيَفْرِضَ نُفُوذَهُ، وَيُمْلِيَ شُرُوطَهُ، وَيُقَسِّمَ المُقَسَّمَ مِنْ بِلَادِ المُسْلِمِينَ إِلَى دُوَيْلَاتٍ صَغِيرَةٍ مُتَعَادِيَةٍ، يَسْهُلُ إِشْعَالُ الصِّرَاعِ بَيْنَهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ يُرِيدُونَ. فَهَلْ يَكُونُ ذَا عَقْلٍ مَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ أَدَاةً لِتَنْفِيذِ هَذَا المُخَطَّطِ الْإِجْرَامِيِّ الَّذِي يَقْضِي عَلَى مَا تَبَقَّى مِنْ بُلْدَانِ المُسْلِمِينَ وَأَرَاضِيهِمْ؟!
وَمِنَ الْغَبْنِ الْعَظِيمِ، وَالْإِثْمِ الْكَبِيرِ أَنْ تُنَفَّذَ هَذِهِ السِّيَاسَةُ الْخَبِيثَةُ بِأَيْدِي أَبْنَاءِ المُسْلِمِينَ، سَوَاءً شَعَرُوا أَنَّهُمْ بِهَذَا الْفِعْلِ الشَّنِيعِ يَخْدُمُونَ المَشْرُوعَيْنِ الِاسْتِعْمَارِيَّيْنِ الْغَرْبِيِّ وَالصَّفَوِيِّ أَمْ لَمْ يَشْعُرُوا بِذَلِكَ.
فَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَآلَ مَا فَعَلُوا وَنَتِيجَتَهُ فَهُمْ عُمَلَاءُ مُظَاهِرُونَ لِأَعْدَاءِ الْأُمَّةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا فَقَدْ أَرْدَى بِهِمْ جَهْلُهُمْ وَحُمْقُهُمْ إِلَى هُوَّةٍ سَحِيقَةٍ تُهْلِكُهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَاللهُ تَعَالَى وَحْدَهُ أَعْلَمُ بِمَ يُقَابِلُونَهُ بِهِ سُبْحَانَهُ فِي الْآخِرَةِ.
وَكَمْ فِي هَذَا الْفِعْلِ مِنْ صَدٍّ عَنْ دِينِ اللَّـهِ تَعَالَى، حِينَ تَنَاقَلَتْهُ شَاشَاتُ الْعَالَمِ مِنْ شَرْقِهِ إِلَى غَرْبِهِ، فَإِذَا رَأَى مَنْ دَخَلُوا الْإِسْلَامَ حَدِيثًا، وَمَنْ يُرِيدُونَ الدُّخُولَ فِيهِ أَنَّ بَعْضَ المُسْلِمِينَ يُفَجِّرُ المَسَاجِدَ الَّتِي يُصَلِّي فِيهَا المُسْلِمُونَ، هَلْ يَبْقَى لَهُ رَغْبَةٌ فِي دُخُولِ الْإِسْلَامِ أَوِ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ، فَأَيُّ دِينٍ هَذَا الَّذِي يُبِيحُ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي لَا تُقِرُّهُ الشَّرِيعَةُ، وَتَنْفُرُ مِنْهُ الْفِطَرُ السَّوِيَّةُ.
وَالنَّبِيُّ تَرَكَ قَتْلَ بَعْضِ المُنَافِقِينَ الَّذِينَ عَارَضُوا دِينَهُ، وَجَادَلُوهُ فِي شَرْعِهِ، وَاتَّهَمُوهُ فِي أَمَانَتِهِ وَعِرْضِهِ، وَقَدْ حَلَّتْ دِمَاؤُهُمْ بِذَلِكَ، لَكِنَّهُ تَرَكَهُمْ مُعَلِّلاً ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : «لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ».
نَعُوذُ بِاللَّـهِ تَعَالَى مِنَ الْجَهْلِ وَالْظُّلْمِ، وَمِنْ زَيْغِ الْقُلُوبِ، وَمِنْ التَّأَلِّي عَلَى اللَّـهِ تَعَالَى بِلَا عِلْمٍ.. وَنَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحْفَظَ بِلَادَنَا وَبِلَادَ المُسْلِمِينَ مِنْ كَيْدِ الْكَائِدِينَ، وَتَرَبُّصِ المُتَرَبِّصِينَ، وَأَهْدَافِ المُغْرِضِينَ، وَأَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا الْفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَنْ نَلْقَاهُ عَلَى الْإِيمَانِ وَالسُّنَّةِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدُا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَتَعَوَّذُوا بِهِ مِنَ الْفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَسَلُوهُ الثَّبَاتَ عَلَى الْحَقِّ إِلَى المَمَاتِ؛ فَإِنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: إِذَا أُصِيبَتِ الْأُمَّةُ بِرَزِيَّةٍ مِنَ الرَّزَايَا، وَأُشْعِلَتْ فِيهَا فِتْنَةٌ مِنَ الْفِتَنِ؛ ظَهَرَ الِانْتِهَازِيُّونَ لِيَقْتَاتُوا عَلَيْهَا، وَيَنْفُخُوا فِي نَارِهَا، وَيُصَفُّوا حِسَابَاتِهِمْ مَعَ مَنْ يَرَوْنَهُمْ أَعْدَاءً لَهُمْ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ يُصَفِّي حِسَابَاتِهِ مَعَ الدَّعْوَةِ الَّتِي يُسَمِّيهَا وَهَّابِيَّهً، وَيُحَمِّلُهَا مَصَائِبَ الْعَالَمِ كُلِّهِ. بَلْ مِنْهُمْ مَنْ يُصَفِّي حِسَابَهُ مَعَ نُصُوصِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ مُبَاشَرَةً، وَيَسْتَغِلُّ الْحَدَثَ لِلطَّعْنِ فِيهِمَا، وَصَرْفِ النَّاسِ عَنْهُمَا. وَمِنَ الِانْتِهَازِيِّينَ مَنْ يُصَفِّي حِسَابَهُ مَعَ الدُّعَاةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالمَنَاهِجِ الشَّرْعِيَّةِ.
إِنَّ هَؤُلَاءِ الِانْتِهَازِيِّينَ يَفْرَحُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَحْدَاثِ المُؤْلِمَةِ لِتَحْقِيقِ أَهْدَافٍ وَضِيعَةٍ، وَالْوُصُولِ إِلَى مَآرِبَ شَخْصِيَّةٍ حَقِيرَةٍ، فَقَلْبُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ يَرْقُصُ طَرَبًا عَلَيْهَا، وَهُوَ بِلِسَانِهِ يَلْطُمُ وَيَنْدُبُ كَأَنَّهُ نَائِحَةٌ مُسْتَأْجَرَةٌ.
إِنَّ أَمْنَ الْبِلَادِ وَالْعِبَادِ ضَرُورَةٌ لِإِقَامَةِ الشَّعَائِرِ، وَضَرُورَةٌ لِلْعَيْشِ الْكَرِيمِ، وَضَرُورَةٌ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى الْأَعْدَاءِ المُتَرَبِّصِينَ، وَلَمْ يَرْخُصْ عِنْدَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَنْقُلُوهُ مِنَ المَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ إِلَى المَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ الْآنِيَّةِ، وَمَنْ حَوَّلَهُ إِلَى سِلْعَةٍ يُتَاجِرُ بِهَا فَبِئْسَ مَا قَالَ وَبِئْسَ مَا فَعَلَ.
لَقَدْ اكْتَوَى أَهْلُ السُّنّةِ قَبْلَ غَيرِهِمْ بِنَارِ الْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ فَصَبَرُوا، وَوَقَفُوا مَعَ حُكَّامِهِمْ صَفَّاً وَاحِدًا فِي مُوَاجَهَةِ الأَخْطَارِ؛ فَلاَ يَنْبَغِي أَنْ تُتَّخَذَ هَذِهِ الأَحْدَاثُ مَجَالاً لِلْمُزَايَدَةِ عَلَى أَمْنِ هَذِهِ البِلاَدِ؛ فَالمُزَايَدَةُ عَلَى الأَمْنِ، وَالتَّهْدِيْدُ بِالْحِمَايَةِ الذَّاتِيَةِ أَو الْحُشُودِ الشَّعْبِيِّةِ، أَمْرٌ لاَ يُقِرُّهُ العُقَلاءُ وَالمُخْلِصُونَ, وَهْوَ إِنَّمَا يَخْدِمُ أَعْدَاءَ هَذِهِ البِلاَدِ الَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ لهَا اسْتِقْرَارَاً وَلاَ أَمْنًا, فَلْنَقِفْ صَفًا وَاحِدًا وَيَدًا وَاحِدَةً مَعَ دَولَتِنَا وَرِجَالِ أَمْنِنَا فِي مُوَاجَهَةِ الأَعْمَالِ التَّخْرِيبِيَّةِ وَنَشْرِ الفَوْضَى.
وَمَنْ نَظَرَ إِلَى أَحْوَالِ الْبِلَادِ المُضْطَرِبَةِ وَمَا يُعَانِيهِ أَهْلُهَا مِنْ كَبَدِ الْعَيْشِ وَكُلْفَةِ الْبَقَاءِ، جَمَعَ الْكَلِمَةَ وَلَمْ يُفَرِّقْهَا، وَدَحَرَ الْفِتْنَةَ وَلَمْ يُوقِدْهَا، وَاسْتَعْلَى عَلَى مَصَالِحِهِ الشَّخْصِيَّةِ لِأَجْلِ أُمَّتِهِ وَمَصَالِحهَا، فَهَذَا هُوَ النَّاصِحُ الصَّادِقُ.
﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ .
وَبَعْدُ؛ فَإِنَّهُ وَإِنِ استَنكَرَ أَهلُ السُّنَّةِ مِثلَ هَذِهِ الأَعمَالِ وَالجَرَائِمِ وَنَدَّدُوا بها أَشَدَّ تَندِيدٍ، وَاستَنكَرُوا أَن يُظلَمَ جَارُهُم أَو يُعتَدَى عَلَى مُعَاهَدٍ يَعِيشُ في بَلَدِهِم، وَعَدُّوا هَذَا دِينًا يَدِينُونَ اللهَ بِهِ، فَلا يَعني هَذَا بِحَالٍ أَنَّهُم يُوَالُونَ الكُفَّارَ وَالمُشرِكِينَ، أَو يُصَحِّحُون عَقَائِدَ أَهلِ الضَّلالِ، أَو يُوَافِقُون أَصحَابَ الأَهوَاءِ عَلَى بِدَعِهِم، أَو يُجَامِلُونَ بِذَلِكَ أَحَدًا، لا وَاللهِ وَكَلاَّ، فَالحَقُّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ، وَصِرَاطُ اللهِ وَاحِدٌ لا يَتَعَدَّدُ، وَقَد قَالَ سُبحَانَهُ: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ".
هَذَا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
راشد الناصر
كلام جميل وترتيب أجمل ومهذب ولكن يعاب عليه أن بعض الاحاديث غير منسوبة التخريج وهذا مما يضعف الخطبه ويجعل الخطيب يبتعد عن كثير من شواهدها وذلك لعدم النسب
شكر الله لكم جهدكم ونفع بكم الاسلام والمسلمين
تعديل التعليق