حادثة القديح بين الفاجعة والعاطفة

عبدالله الغامدي
1436/08/11 - 2015/05/29 07:24AM
حادثة القديح بين الفاجعة والعاطفة

عبدالله بن محمد آل يحيى الغامدي
إمام وخطيب جامع خديجة بغلف بجدة

الحمد للـه الملك الحق المبين، أنار الطريق للسالكين، وأوضح المحجة للمتبصرين، وصرف عن صراطه الضالين، وجعل البلاء سنة في عباده أجمعين , نحمده على نعمه وآلائه، ونشكره على فضله وإحسانه، ونسأله الثبات على دينه، ونعوذ به من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجاءة نقمته، وجميع سخطه.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ عظيم في ربوبيته وألوهيته، وله الكمال المطلق في أسمائه وصفاته، وله الحكمة البالغة في أفعاله وأحكامه , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق؛ لينشر الأمن والإيمان، ويقيم الحق والعدل، ويرفع الباطل والظلم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، (واعتصموا بحبل اللـه جميعا ولا تفرقوا) [آل عمران: 103]، عباد الله : الاجتماع رحمة، والفرقة عذاب.. بالاجتماع تأتلف القلوب، وتزداد القوة، وتهاب الأمة، ويتحقق الأمن. وبالفرقة تستوحش القلوب، وتتنافر النفوس، وتذهب الريح، ويتحقق الفشل، وتستباح الأمة، وينتشر الخوف. وما نال الأعداء من المسلمين إلا بأنفسهم، ولا علوا عليهم إلا بأيديهم، حين أوقعوا الفرقة بينهم، ونشروا الضغائن فيهم، وجعلوا بعضهم يضرب بعضا.
أيها الإخوة : تتوالى الأحداث المفزعة والغريبة على بلاد العالم الإسلامي، بلدا تلو الآخر، تنشر فيها الفتن، وتحدث الاضطرابات، وتخلف قتلى وجرحى، وتصنع إحنا ومحنا، وتفرق الصفوف، ولا بد ونحن نفتش عن السبب ونسبر أغوار الجريمة أن نكون على وعي بتلك المقولة الحكيمة، إذا أردت أن تعرف فاعل الجريمة "فتش عن المستفيد من الجريمة، فهو يكون عادة منفذها، أو المحرض عليها، أو الممهد لها".
إن يد الغدر تضرب بقوة في بلاد المسلمين، ولا يفتأ الماكرون والحاقدون عن بث المكائد، وزرع الأحقاد، ونشر سموم الفتن في بلاد المسلمين، غير آبهة بدين ولا حرمة، ولا دماء؛ تسعى في خفاء، وتضرب في عمياء، وتنضح حقدا ومكرا، وتخلف وراءها أهوالا، وتدع العقلاء في حيرة، وتذهب بصفاء البلاد وهدوئها، وتعكر صفوها، وتبدد شمل أهلها.
إن مكر الكافرين والمنافقين يمتلئ لؤما وحقدا، لا يفتر عن زعزعة الأمن في المجتمعات الآمنة الهادئة , يبث في خبث سمومه وأحقاده، يريد أن تعم الفوضى، وأن يقوض الأمن، وتضيع مقدرات المسلمين، ويذهب استقرارهم، لتصبح الأمة أثرا بعد عين.. وهذه آثار مكر المنافقين والكافرين ظاهرة في قلب الأمة الإسلامية، من العراق إلى اليمن ومن سوريا إلى مصر، والمتابع لوسائل الإعلام يقف على أهوال ومصائب كبيرة، وما لا ينشره الإعلام كثير، والله من ورائهم محيط.
أن المسلمين اليوم في أشد الحاجة إلى التعايش فيما بينهم؛ حتى مع اختلاف مشاربهم، وتنوع مذاهبهم، وتعدد رؤاهم، وإن هذا التعايش داخل إطار الوطن الواحد، وتحت مظلة الإسلام الواسعة كفيل بأن يوحد صفهم، ويعلي كلمتهم، ويجمع شملهم، ويقوي بلادهم، ويوفر الأمن والاستقرار لهم، ويحول دون ضياع الدين والدنيا، وتنتظم معايشهم، ويغيظ عدوهم المشترك، ويسد منافذ الخبثاء ومسالكهم في التفريق بينهم، ولو أن كل مجموعتين اختلفتا اقتتلتا، لما بقي بين المسلمين وشيجة ولا رابط، فأين الدين والعقل وروابط الدم، وحرمة الأوطان؟!
إن الجريمة التي وقعت في بلدة القديح خلال هذا الأسبوع جريمة وحادث بشع وغريب على نسيج المجتمع في المملكة، الذي يتعايش فيه الناس، من السنة والشيعة، في سلام منذ عصور طويلة وأزمان مديدة، ويحرص كل طرف منهم على الوئام مع شركاء الأرض، فضلا عما يجمع بينهم من روابط الدم والقرابة.
لنعلم - أيها الإخوة - أن الفتنة التي تخلف القتل والدم، ويختلط فيها الأمر، وتحار فيها العقول هي أكبر من عقول أصحاب الفتنة، وهي تجرهم إلى أتونها وهم لا يشعرون، فيفسدون وهم يظنون أنهم مصلحون.
أي جهاد في تفجير النفس في جمع من المصلين داخل مسجد وهم يصلون الجمعة، مع ورود النهي عن قتل الرهبان في الكنائس، فكيف بقتل المصلين في المساجد؟! وبيوت اللـه -تعالى- محل الأمن لا الخوف، وفي تاريخ الفتن بين المسلمين شنع العلماء على من انتهكوا حرمة المساجد في حروبهم، وفي فتح مكة قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ومن دخل المسجد فهو آمن" (رواه أبو داود). فإذا استحل الغدر بالمصلين في المساجد الآمنة فماذا يبقى آمنا للناس؟ وأي حرمة تبقى لم تنتهك بآراء كاسدة، وتأويلات فاسدة، وجهالات متراكمة؟!
هذا من جهة شناعة الفعل شرعا، وأما من جهة فساده في السياسة الشرعية؛ فإن المشروع الاستعماري الغربي لإحداث الفوضى في بلاد المسلمين قد ظهر من السر إلى العلن، وبدئ في تنفيذه عمليا؛ وذلك بعد فشل الغزو المباشر لأفغانستان والعراق؛ لتكون الفوضى بدل الغزو، وتكون فوضى خلاقة إذا آلت إلى ما يريد المستعمرون، يسعون لخلق بؤر للصراع بأسباب مذهبية أو عرقية أو غيرها، وإشعال نار الفتنة التي تحرك أكثرهم، ومدهم بالسلاح ليقتل بعضهم بعضا، حتى إذا ما أنهكوا جميعا جاء المستعمر ليفرض نفوذه، ويملي شروطه، ويقسم المقسم من بلاد المسلمين إلى دويلات صغيرة متعادية، يسهل إشعال الصراع بينها في أي وقت يريدون. فهل يكون ذا عقل من يضع نفسه أداة لتنفيذ هذا المخطط الإجرامي الذي يقضي على ما تبقى من بلدان المسلمين وأراضيهم؟!
وأما المشروع الصفوي الفارسي فإنه لما بان له العجز الكبير عن المواجهة المباشرة لإعادة مملكة كسرى؛ استجلب الفكرة الغربية في نشر الفوضى، ولا يستطيع ذلك إلا عن طريق صناعة الفعل ورد الفعل بالتخريب والتفجير والقتل والتدمير. ومن الغبن العظيم، والإثم الكبير أن يتم تنفيذ هذه السياسة الفارسية الخبيثة بأيدي أبناء المسلمين، سواء شعروا أنهم بهذا الفعل الشنيع الذي استباحوا به حرمة المسجد، وسفكوا دماء المصلين أنهم يخدمون المشروعين الاستعماريين الغربي والصفوي أم لم يشعروا بذلك. فإن كانوا يعلمون مآل ما فعلوا ونتيجته , فهم عملاء مظاهرون لأعداء الأمة عليها، وإن لم يعلموا فقد أردى بهم جهلهم وحمقهم إلى هوة سحيقة تهلكهم في الدنيا، والله -تعالى- وحده أعلم بم يقابلونه به في الآخرة.
كيف؟ أيها الإخوة وهذا العمل الخبيث الذي استبيح به المسجد جاء في وقت هبة سنية لقطع الأذرعة الصفوية التي تسعى لتطويق دول أهل السنة، والاستيلاء على الحرمين الشريفين، وقد صرح المعممون الموتورون بأنهم سينقلون المعركة إلى داخل بلادنا، فكان التفجير عقب التصريح، وبتخطيط وتنفيذ بعض أبنائنا، فيا لها من كارثة لا يمكن تصورها! ويا لها من فاجعة ما أشد وقعها! نتجت عن مسارعة في الغلو والتكفير، أنتج يأسا من الإصلاح والتعمير، فكان التخريب والتدمير.
وكم في هذا الفعل من صد عن دين اللـه -تعالى-، حين تناقلته شاشات العالم من شرقه إلى غربه، حتى شاهده أهل كل بيت في الأرض، فإذا رأى من دخلوا الإسلام حديثا، ومن يريدون الدخول فيه أن بعض المسلمين يفجر المساجد التي يصلي فيها المسلمون، هل يبقى له رغبة في دخول الإسلام أو الثبات عليه، فأي دين هذا الذي يبيح هذا العمل الذي لا تقره الشريعة، وتنفر منه الفطر السوية.والنبي -صلى الله عليه وسلم- ترك قتل من يستحقون القتل من المنافقين الذين عارضوا دينه، وجادلوه في شرعه، واتهموه في أمانته وعرضه، وقد حلت دماؤهم بذلك، فتركهم معللا تركهم بقوله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه".نعوذ باللـه -تعالى- من الجهل والحمق، ومن زيغ القلوب، ومن التألي على اللـه -تعالى- بلا علم.. ونسأله سبحانه أن يحفظ بلادنا وبلاد المسلمين من كيد الكائدين، وتربص المتربصين، وأهداف المغرضين، وأن يردهم على أعقابهم خاسرين، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن نلقاه على الإيمان والسنة، إنه سميع مجيب. وأقول قولي هذا وأستغفر الله...



الخطبة الثانية:
الحمد للـه حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.أما بعد:
فاتقوا الله -تعالى- وأطيعوه، وتعوذوا به من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وسلوه الثبات على الحق إلى الممات؛ فإن قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا للـه وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون) [الأنفال: 24].
أيها الإخوة : لا زلنا نعيش آثار ما صدمنا به في يوم الجمعة الماضية من تفجير للمصلين هذا الجرم الذي لا يقره من له أدنى معرفة بشرع ، بل لا يقره صاحب عقل سوي بل لا يقره صاحب فطرة لم تمسخ ومن هنا فلا حاجة للتدليل على أن ذلك من أعظم الإفساد في الأرض ومن الإجرام المعلوم لدى الناس جميعا .
هذه حقيقة يعلمها المنصف حتى أولئك الذين حلت بهم المصيبة في دارهم يدركون هم وغيرهم أن العامة والخاصة من أهل هذه البلاد في طولها وعرضها لا يقرون بحال من الأحوال هذه الحادثة ويرون أنها من وسائل الإجرام ومن أشد المنكرات . ومن هنا فلا داعي للمزايدات واستغلال الحدث بحيث يستغله كل صاحب غرض فاسد من أجل التذرع إلى مطلوبه فإن هؤلاء الذين تصدر عنهم هذه الأعمال إنما يمثلون أنفسهم ومن يتبنى هذه الانحرافات معهم ومن يؤيدهم عليها ويغريهم بها هؤلاء فقط هم من يتحملون وزرها أما السواد الأعظم من أهل هذه البلاد فإنهم ينكرون ذلك ولا يقرونه ديانة لله فلا يصح أن يحسب عليهم .
أيها المسلمون: إذا أصيبت الأمة برزية من الرزايا، وأشعلت فيها فتنة من الفتن؛ ظهر الانتهازيون ليقتاتوا عليها، وينفخوا في نارها، ويصفوا حساباتهم مع من يرونهم أعداء لهم على حساب وطن لطالما تغنوا به، وزعموا إخلاصهم له، وهم يقتاتون بمصابه وأزماته ومشكلاته. فمنهم من يصفي حساباته مع الدعوة ، ويحملها مصائب العالم كله. بل منهم من يصفي حسابه مع نصوص القرآن والسنة مباشرة، ويستغل الحدث للطعن فيهما، وصرف الناس عنهما، كناطح جبلا ليوهنه. ومن الانتهازيين من يصفي حسابه مع الدعاة والعلماء والمناهج الشرعية يريد تصفية كل شيء له علاقة بالدين حين رأى اندحار الأفكار التغريبية وتحطمها على صخرة الإسلام الأبية.ومن الانتهازيين من يرتزق بالأزمات، ويريد بها تحقيق مجد شخصي، ولا يهمه أن يكون نافخا في نار فتنة قد تصل إليه وتحرقه.
إن هؤلاء الانتهازيين يفرحون بمثل هذه الأحداث المؤلمة لتحقيق أهداف وضيعة، والوصول إلى مآرب شخصية حقيرة، فقلب الواحد منهم يرقص طربا عليها، وهو بلسانه يلطم ويندب كأنه نائحة مستأجرة.
إن أمن البلاد والعباد ليس سلعة يتاجر بها الانتهازيون، ولم يرخص عند أهل الإسلام حتى ينقلوه من المصلحة العامة إلى المصالح الشخصية الآنية.
إن أمن البلاد والعباد ضرورة لإقامة الشعائر، وضرورة للعيش الكريم، وضرورة لقطع الطريق على الأعداء المتربصين، ومن حوله إلى سلعة يتاجر بها فبئس ما قال وبئس ما فعل.
إن أمن البلاد والعباد خط أحمر لا يقبل المساومة ولا المزايدة ولا التهديد ولا الانشقاق ومن واجب الدولة أن تضرب بيد من حديد كل من يفكر في تقويض أمن الناس بإخافتهم أو تقمص دور الدولة أو أحداث ما من شأنه الصدام مع رجال الأمن أو العمالة للغير أو الخيانة أو غيرها مما يظهر بعضه ويخفى كثير منه .
إن من نظر إلى أحوال البلاد المضطربة وما يعانيه أهلها من كبد العيش، وكلفة البقاء، وهو مخلص لبلده وأهله فإنه يجمع الكلمة ولا يفرقها، ويدحر الفتنة ولا يوقدها، ويستعلى على مصالحه الشخصية لأجل أمته ومصالحها.(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) [الأنفال: 25].
اللهم أدم علينا الأمن والإيمان والسلامة والإسلام علينا وعلى جميع بلاد المسلين يا قوي يا عزيز يا رب العالمين .
صلوا وسلموا على نبيكم...
المشاهدات 1602 | التعليقات 0