حادثة الإفك دروس وعبر (خطبة للشيخ عبدالمحسن القاسم بتصرف)

عبدالرحمن اللهيبي
1445/08/13 - 2024/02/23 05:04AM

أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى، ورَاقِبُوه في السِّرِّ والنَّجْوَى. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون..

أيها المسلمون: في السَّنة السَّادسة من الهجرة ابتُلي المسلمون ببلاء عظيم، جعَلَه اللَّه امتحانًا للأمَّة كلّها إلى يوم الدين؛ وذلك أنَّ النَّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بعد رجوعه من غزوةِ بني المصطلِق كانت معَه عائشةُ -رضي الله عنها-، فقامت لقضاءِ شأنِها، ثم عادت إلى رحلها وحينها انتبهت أنها فَقَدَتْ عِقْدًا لها، فرَجَعَتْ تلتمسه في الموضع الذي فَقَدَتْه فيه، وبينما هي على هذه الحال إذا بالجيش قد ارتحل وقد فرفعوا هَوْدَجَها -والهودج مركب يجعل فوق البعير للمرأة- ، ولم يَشْعُرُوا بخُلُوِّ الهودجِ منها؛ لخِفَّةِ وزنِها، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ"، قال الذَّهبيُّ -رحمه الله-: "وَعُمُرُهَا يَوْمَئِذٍ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً"، ثم وجدَتِ العقدَ بعدما رحل الجيشُ، فمَكَثَتْ مكانَها؛ ظنًّا منها أنَّهم سيفقدونها فيرجعونَ إليها، فغلبَتْها عينُها فنامت.

وكان الصَّحابي صفوانُ بن المعطَّل -رضي الله عنه- كثيرَ النَّوم فتخلَّف عن الجيش، فلمَّا أصبَح لَحِقَ بالجيش، فرأى سَوَادَ إنسانٍ نائمٍ، فأتاه، فإذا هي عائشة -رضي الله عنها-، وكان قد رآها قبل نزول الحجاب، فأعرَض بوَجْهِه عنها، واسترجع؛ -أي قال: إنَّا للَّه وإنَّا إليه راجعون-، فاستيقظت عائشة باسترجاعه، قالت: "فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَوَاللَّهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً، وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ"، قال ابن الأثير -رحمه الله-: "وَكَانَ صَفْوَانُ شُجَاعًا خَيِّرًا فَاضِلًا"، فأناخ بَعِيرَه حتَّى رَكِبَتْهُ، ثمَّ انطلَق يقود بها الرَّاحلةَ حتَّى أدركوا الجيشَ في الظَّهيرة، ولَمَّا رأى رأسُ النِّفاق عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيِّ ابن سلول ذلك طَعَنَ في بيتِ النُّبوَّةِ الطَّاهرِ، وجَعَل يُشِيعُ الإفكَ في عِرْضِ الشَّريفةِ العفيفةِ -رضي الله عنها-

وأمَّا عائشة -رضي الله عنها- فإنَّها لَمَّا قَدِمَتِ المدينةَ اشتكت من مرض ألَمَّ بها، فمَكَثَتْ في بيتها قريبًا من شهرٍ، وهي لا تعلم شيئًا عمَّا يُقال عنها من قبل المنافقين ومن تأثر بقولهم ، غيرَ أنَّها فَقَدَتْ لُطْفَ النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- بها إذا مَرِضَتْ، قالت: "وَيَرِيبُنِي في وَجَعِي، أَنِّي لَا أَرَى مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَمْرَضُ، إِنَّمَا يَدْخُلُ فَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقُولُ -أي: لمَنْ عندها-: كَيْفَ تِيكُمْ؟ -أي: كيف هذه-"، ثم أَخْبَرَتْها أمُّ مِسْطَحٍ -رضي الله عنها- بقول أَهْلِ الإِفْكِ، قالت -رضي الله عنها-: "فَازْدَدْتُ مَرَضًا إِلَى مَرَضِي"، فلمَّا دَخَلَ عليها رسولُ اللَّه -صلى الله عليه وسلم- قالت له: "أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيَّ؟ -قَالَتْ: وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقَّنَ الخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا-، فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهْ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ فأَخْبَرَتْهَا بحديثِ النَّاسِ، فاشتدَّ البلاءُ على عائشة بطَعْنِها في عفافها؛ إذ أغلى ما تملكه المرأةُ -بعدَ دِينِها- عِرْضُها، فهو شَرَفُها وجَمالُها، قالت: "فَبَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا، حَتَّى أَصْبَحْتُ لَا يَرْقَأُ -أي: لا ينقطع- لِي دَمْعٌ، وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ، وَأَبَوَايَ يَظُنَّانِ أَنَّ البُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي ".

وأمَّا نبيُّنا محمَّدٌ -صلى الله عليه وسلم- فقد اشتد عليه الهم والكربُ وزاد ذلك أن الوحي قد انقطع عَنْه شَهْرًا، لَا يُوحَى إِلَيْهِ في ذَلِكَ شَيْءٌ

ثم دَخَلَ ﷺ على عائشة وعندَها والداها، فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، "فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حينَ جَلَسَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ، فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ، ثُمَّ تَابَ؛ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَقَالَتَهُ

لَجَأَتْ لِأَبِيها ليَنْصُرَها، فقالت له: "أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-"، ثم قالت لأمِّها: "أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فيمَا قَالَ: قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-"، فلَجَأَتْ إلى مَنْ في السَّماء، وفَوَضَّتْ أمرَها إليه، وقالت لهم: "إِنِّي -وَاللَّهِ- لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ في نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ: إِنِّي بَرِيئَةٌ -وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ- لَا تُصَدِّقُونِي  وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ -وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ- لَتُصَدِّقُونَنِي، وَإِنِّي -وَاللَّهِ- مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: (فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) ، ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي".

ولَمَّا كانت رضي الله عنها حافظةً لدِينِها، حارسةً لعفافِها، كانت موقنة بمدافَعة اللَّهِ عنها لأن الله يقول ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا )، فقَالَتْ: "وَأَنَا -وَاللَّهِ- حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ مُبَرِّئِي بِبَرَاءَتِي"، فكان اللَّهُ عندَ ظنِّها، قَالَتْ: "فَوَاللهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَجْلِسَهُ، وَلَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ -عز وجل- عَلَى نَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-، ثم سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وهو يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بها أَنْ قَالَ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ"،

قالت عائشةُ -رضي الله عنها-: "وَاللَّهِ مَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنْ يُنْزَلَ في شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ أَحْقَرَ في نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ -عز وجل- فِيَّ بِأَمْرٍ يُتْلَى"

رضي الله عنها وأرضاها ، أقول قولي هذا ..

 

 

 

أيها المسلمون: كان أول ما أنزل الله في حادثة الإفك : ((إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ))

نعم هو خير لكم ، فكل بلاء إلى زوال ، وكل شِّدَّة إلى انفراج ، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ، ولا ينال المؤمن بالبلاء إلا رفعة وخيرا ؛ وكذا كانت عاقبةُ عائشةَ -رضي الله عنها-، فقد أنزَل اللَّهُ فيها آياتٍ تُتْلَى إلى يوم القيامة، فسَمَتْ على النِّساءِ بِفَضَائِلِها؛ قال النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ" مُتفَق عليه

ومن الخير العظيم في حادثة الإفك أن تزكية الله لها وثناءه عليها منح الأمة قبولا لأحاديثها التي روتها عن النبي ﷺ فقد منَحَها اللَّهُ ذَكَاءً مُتَدَفِّقًا وحِفْظًا ثَاقِبًا، وعِلْمًا واسعًا، حتى أنها روت عن النَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم- رُبعَ أحاديثِ الشَّريعةِ، فنقلت للأمة خيرا كثيرا .. قال ابنُ كثيرٍ -رحمه الله-: "لَمْ يَكُنْ في الأُمَمِ مِثْلُ عَائِشَةَ في حِفْظِهَا وعِلْمِهَا، وَفَصَاحَتِهَا وَعَقْلِهَا، رُزِقَتْ في الفِقْهِ فَهْمًا، وَفِي الشِّعْرِ حِفْظًا، وَكَانَتْ لِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ وِعَاءً".

أيها المسلمون: ومن الخير العظيم في حادثة الإفك تلك القواعد الأخلاقية العظيمة التي قررها الله في صيانة الأعراض، حيث قال سبحانه: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) فلا يُظن بأهل الخير والطهر والعفاف إلا خيرًا

فإذا سمعت مقالة السوء عن أحد من المسلمين فلا تتلقفها ثم تذيعها بل أنكر على من تكلم بها ، ولا تظن بصاحبها إلا خيرا ، وإن علق بالنفس شيء من الظنون الفاسدة فاحذر أن تتكلم به، فإن الله سبحانه يقول: (وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا)

ولما سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- زينبَ بنتِ جحش -رضي الله عنها- عن عائشة -رضي الله عنها- وقد كانت ضرتها ، فقالت: "يا رسول الله، أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عليها إلا خيرًا"

فاحمِ أيها المسلم سمعك ولسانك عن أعراض المسلمين فإن الله سبحانه يقول: (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) وإن جرم اللسان عظيم وهو أكثر ما يدخل الناس النار كما ثبت ذلك في الخبر عن سيد البشر ﷺ

وإن كنت ممن يتساهل بالكلام في أعراض المسلمين فتب إلى الله تعالى ، واثني عليهم خيرا في المجالس التي ذممتهم فيها ، واعقد العزم أن لا تعود إلى ذلك أبدا ، فإن الله يقول: (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)

وفي حادثة الإفك بيان لخطورة أثر المنافقين في السعي لتشويه صور المؤمنين والمصلحين ، وأن بعض المسلمين للأسف قد يستمع لهم ويتأثر بمقالتهم .. فقد قال سبحانه ( وفيكم سماعون لهم) وقال ﷺ «أخوف ما أخاف عليكم منافق عليم اللسان».

فاحذروا يا مسلمون مقالة المنافقين ، وتشويههم لصورة المصلحين ، وإفسادهم للأخلاق والدين ، وسعيهم الحثيث لإشاعة الفواحش والمنكرات بين المؤمنين

فإن الله سبحانه يقول في آخر آيات حادثة الإفك : ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ))

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه ، فقال في محكم التنزيل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِكْ على نبينا محمد، وارض اللهمَّ عن خلفائه الراشدين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعنا معهم بجودك وكرمك يا أكرم الأكرمين.

 
 
 
المشاهدات 433 | التعليقات 0