حَاجَتُنَا إِلَى الاعْتِدالِ وَالتَّوَازُنِ
عبداللطيف بن عبدالله التويجري
أحمدُ اللهَ تعالى، استسلامًا لعزتِه، وشكرًا على نعمتِه، واستغنامًا لتوفيقِه، واستعصامًا من معصيتِه، واستدرارًا لسوابغِ رحمتِه.
وأُصلي على محمدٍ، عبدِه ورسولِه، وصفوةِ خليقتِه، وعلى آلِه وصحبِه وعِترتِه [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)].
أمَّا بعد:
كان تقيًّا نقيًّا، صوامًا قوامًا، صارتْ تصانيفُه قواعدَ الإسلام، متخيرًا لا مقلدًا، وكان جاريًا في مضمارِ الحفَّاظِ الكبار، ورغمَ هذا التميزِ الأخاذِ إلا أنَّ جدولَه اليوميَّ كان محفوفًا بصنوفٍ وأنواعٍ منَ الطاعاتِ والقربات.
أخبرَ حفيدُه عنْ جدولِه اليوميِّ فقال: (كانَ جدي قدْ قسَّمَ أيامَه على أعمالِ البر: فكانَ إذَا صلَّى الصبحَ قرأَ حزبَه منَ القرآنِ، وكانَ يْختِمُ القرآنَ في كلِّ يومٍ وليلة، ويخرجُ كلَّ ليلةٍ في الثلثِ الأخيرِ إلى مسجدِه، وكانَ يصلي بعدَ حزبِه منَ القرآنِ صلاةً طويلةً جدًا، ثمَّ يتفرغُ لتدريسِ طلابِه العلم، وربمَا خرجَ في بقيةِ النهار، فيقعدُ بينَ القبورِ يبكيْ ويعتبرْ!
وكانَ يحادثُ جيرانَه بما يريدونَ من أمورِ الدنيا والدين، وكان قويًّا على المشيِ في قضاءِ حوائجِ الناس، مشى معَ ضعيفٍ في مظلمةٍ إلى إشبيلية، ومشى معَ آخرَ إلى مدينةٍ أخرى، ومع امرأةٍ ضعيفةٍ إلى مدينةٍ ثالثة).
أيها الفضلاء:
ذلكمْ هوَ تاجُ الأندلس، وفخرُ رجالِها، الإمامُ القدوةُ بَقِيُّ بْنُ مَخْلَد، شيخُ الإسلام، أبو عبدِ الرحمنِ الأندلسي، صاحبُ (التفسير) و (المسند) اللذينِ لَا نظيرَ لهما بحسب قولِ مؤرخِ الإسلامِ الإمامِ الذهبيِّ رحمَه الله.
كَرِّرْ عَلَيَّ حَدِيثَهُمْ يَا حَادِي
فَحَدِيثُهُم يَجْلُو الفُؤَادَ الصَّادِي!
عبادَ الله:
تأملُوا في جدولِه اليوميِّ المزدحم، ومهامِه الجسيمة، التي اختصرَها حفيدُه بقوله: (قسَّم أيامَه على أعمالِ البر) صلاةٌ وتعليمٌ وقرآن، وأداءُ حقوقِ جيران، وسعيٌ في حاجات الضعفاء، فحقُ الربِ مُؤدَّى، وحقُّ العبادِ مُوفَّى، توازنٌ بينَ الدينِ والدنيا، بينَ التزودِ والعطاء، بينَ الخِلطةِ والعُزلة، بينَ الساعةِ والساعة.
إنَّ (التوازنَ) يا عبادَ الله، من لوازمِ هذا الدينِ فلا بدَّ أنْ يكونَ المسلمُ متوازنًا في أمورِه كلِّها، معتدلًا في شؤونِه كلِّها، فلا غلوَّ ولا تقصير، ولا إفراطَ ولا تفريط، ولا مبالغةَ ولا تهاون، وإنما اعتدالٌ وتوسط، وفقَ القاعدةِ النبويةِ العظيمة: (إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ).
إنَّه في عالمٍ تتشعبُ فيه الحقوقُ والواجبات، يصيرُ التوازنُ فرضَ الوقت، وواجبَ الحال، وعينَ الحكمة: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) ذلكَ أنهَا إعطاءُ كلِّ شيءٍ حقّه من غيرِ زيادةٍ ولا نقص، وهذَا لا يتحصلُ إلَّا بعدَ معرفةِ الأشياءِ تمامَ المعرفة، ومعرفةِ حدودِها وغاياتِها ومنافعِها، فكان التوازنُ ثمرةً منْ ثمراتِ العلم، وهو إجابةٌ لنداءِ الروحِ واستجابةٌ لمتطلباتِ الجسد.
ونحنُ يا كرامُ لا محيدَ لنَا منَ التوازنِ في شؤونِ الحياةِ كلِّها: فعندَ الأكلِ والشربِ (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وفي الإنفاقِ (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا).
(إِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا) يقتضي منَّا أنَّ نعطيَ البدنَ حقَّه منَ العناية، والمظهرَ نصيبَه منَ الرعاية، دونَ أنْ نتلهَى بالمظهرِ عنْ المخبر.
وأمسُّ مَا تكونُ الحاجةُ إلى التوازنِ هوَ في مشاعرِ القلب، ولهذَا كانَ الأمرُ بالتوازنِ فيه من أعجبِ كمالاتِ الشريعةِ الغراء: (أَحْبِبْ حَبِيبَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ بَغِيضَكَ يَوْمًا مَا، وَأَبْغِضْ بَغِيضَكَ هَوْنًا مَا، عَسَى أَنْ يَكُونَ حَبِيبَكَ يَوْمًا مَا) [أخرجه الترمذيُّ وقال: حديثٌ غريبٌ، والصحيح أنه موقوفٌ على علي وحسَّنه الألباني].
أخي المبارك!
صحيحٌ أنَّ الوصولَ إلى التوازنِ في حياتِنا عسير، ولكنَّه ممكن، شاقٌ، ولكنه مقدورٌ عليه، مجهدٌ، ولكنه مستطاعٌ، وراحلتكُ في بلوغِ التوازن: أداءُ الحقوق وتوزيعُ المهام، وتبقى الهمةُ العاليةُ تاج القادرين:
وَلم أرَ في عُيُوبِ النّاسِ شَيْئاً
كَنَقصِ القادِرِينَ على التّمَامِ
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
أما بعد: عبادَ الله! إنَّ الوصيةَ العظمى لنَا جميعًا هيَ (حفظُ الوقت)، إنَّه الركنُ الأصيلُ لتحقيقِ التوازنِ في الحياة، وجُلْ في رحابِ العظماءِ تجدْ أنَّ السرَّ هوَ حفظُ الوقت.
وإنَّمَا تفاوتَ الناسُ في إنجازِهم، بحفظِهِم لوقتِهم من عدمِه، وليتَ شعري هلْ هناكَ أعظمُ منْ مهامِ النبوةِ أوِ الخلافةِ وما كانَ في أيامِه صلى الله عليه وسلم ولَا في أيامِهم رضيَ اللهِ عنهم ترقيعٌ للمهامِ ولا خرقٌ للواجبات.
ومركبُ التوازنِ مجدافُه التنظيمُ والترتيب، فالعشوائيةُ والارتجالُ لنْ تحقِّقَ لكَ توازنًا، ولنْ تبلِّغَك مراتبَ العظماء، وممَّا أعاقَ كثيرًا منَ المسلمينَ عنْ تحقيقِ التوازنِ في حياتِهم هوَ الخلطُ بينَ الأمنياتِ والإمكانيات، حتَّى نسُوا أنَّهم واقفونَ على الأرض، فلهثوا وراءَ خيالٍ كاذب، أو حلمٍ فارغ، أو أمنيةٍ موهومة، فسبحُوا بغيرِ ماء، وطارُوا بغيرِ جناح.
والمرادُ منَ المسلمِ كيْ يحقِّقَ التوازنَ في حياتِه ألا يغرقَ في بحرِ الأمنيات، نعمْ يكونُ كبيرَ الآمال ولكنَّه واقعيُّ التفكير، يرنُو إلى الشاطئِ ولكنَّه يتوقعُ هياجَ البحر، ومفاجآتِ الأعاصير، فالواقعيةُ هي بابُ التوازنِ وسبيلُها الأقوم.
وبعدُ عبادَ اللهِ فالتوازنُ يوجبُ منَّا فقهًا في الدين، وتمييزًا للأولويات، واستنارةً بالخبرات، وفهمًا لحقيقةِ الدينِ والدنيا.
جاءَ في الحديثِ الذي أخرجَه البخاريُّ عنْ أنسٍ -رضي الله عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ المَسْجِد، فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتِين، فَقَال: "مَا هَذَا"؟ قَالُوا: حَبْلٌ لِزَيْنَب، فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ بِه. فَقَال: "لَا، حُلُّوه، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَه، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَقْعُدْ".
الَّلهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ حُسْنَ القَوْل، وَحُسْنَ العَمَل، وَحُسْنَ الفَهْم، وَنَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِك، وَحُسْنَ عِبَادَتِك يَا رَبَّ العَالمِين.
المرفقات
في-حياة-المسلم-4
في-حياة-المسلم-4
في-حياة-المسلم-5
في-حياة-المسلم-5