بات ليله قلِقاً مهموما، وقد قال لهم شيخهم في الدرس : أيكم يجمع كتابا مختصرا في سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فوقع ذلك منه كلَّ موقع، وحفَزه لمزيد من الجد والمسارعة، فحينما نتلذذ بالنوم، ونخلد للتكييف، يُهرع هو مسرعا، مستيقظا في الليلة الواحدة قرابة (عشرينَ مرةً)،،،،، يكتب الخاطرة من العلم ويصنف الكتب، حتى أخرج لنا الدر النضيد، والعقد النفيس، حيث لا وسائل مريحة، ولا آلات أنيقة...!
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي.. من وصل غانيةٍ وطيب عناقِ وتمايلي طربا لحل عويصةٍ.. أشهى وأحلى من مُدامة ساقي أأبيتُ سهرانَ الدجى وتبيتُه.. نوماً وتَبغي بعد ذاك لَحاقي..؟!
إنه الإمام الحجة الفذ، محمد بن إسماعيل البخاري رحمه الله(٢٥٦) . وكتابه ( الجامع الصحيح ) والمشهور بصحيح البخاري . من إذا ذُكر كتابه أفاد الصحة والاطمئنان عند جماهير الناس، وذلك فضل كبير...!
إذا قيل أخرجَه البخاري فإنما/ ذكرتَ عظيماً حظّه العلم والصدقُ تحرّى وأزجى للأنام فسِفرهُ/ يشِعُّ بأنوارٍ ومنبعُه الحقُ
قالت فيه مشيخة بغداد، وقد انبهروا بحفظه واستحضاره :
المسلمون بخير ما بقيتَ لهم/ وليس بعدكَ خيرٌ حينَ تُفتقدُ
وهنا بعض المعالم الموضحات، والمقاصد الكاشفات عن كتابه الصحيح : ١/ اسمه:( الجامع المسند الصَّحيح المختصر من أمور رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم وسُنَنه وأيَّامه ). ٢/ أول كتب الصحاح المجردة:قال الإمام النَّووي: ( أوَّل مصنَّفٍ في الصَّحيح المجرَّد: صحيح البخاري ). والمعنى خلوه من الضعاف والمنكرات. ٣/ سبب التأليف :يذكر هنا سببان : الأول:توجيه شيخه المحدث إسحاق الحنظلي، قال حافزا للطلاب: ( لو جمعتُم كتابًا مختصرًا لصحيح سُنَّة رسول الله صلَّى الله عليْه وسلَّم )، قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي، فأخذتُ في جمع الجامع الصَّحيح) . ثانيا:رؤية منامية قال فيها: رأيتُ النَّبيَّ صلَّى الله عليْه وسلَّم في المنام وكأنَّني واقفٌ بين يديْه، وبِيدي مروحةٌ أَذُبُّ بها عنه، فسألتُ بعض المعبِّرين، فقال لي: أنتَ تَذُبُّ عنه الكذِب، فهو الَّذي حَملني على إخراج الجامع الصَّحيح . ٤/ اشتراط الصحة :صرح هو بكلامه قال ( ما أدخلتُ في كتابي "الجامع" إلَّا ما صحَّ، وتركتُ مِن الصَّحيح حتَّى لا يطول ). ٥/ مدة التأليف :نص أنه مكث فيه ست عشرة سنة..! وهو وقت فسيح يدل على التعمق والبحث الدقيق، الخالي من العجلة المؤرقة للكتب ونتائجها وخلاصاتها كما في أزمنتنا المعاصرة...! ٦/ منتقى صحيح :انتقاه وجرده من عدد ضخم فقد قال: ( صنَّفتُ كتابي الصَّحيح، لستَّ عشرة سنة خرَّجتُه من ستِّمائة ألف حديثٍ، وجعلتُه حجَّةً فيما بيني وبين الله تعالى) . ويقصد هنا بالمكرر والأسانيد والموقوفات والفتاوى، فتلقى الحديث الواحد له عشرات الأسانيد، خلافا لما استدركه بعض الجهال، في نقده للبخاري رحمه الله..! ٧/ الاستعداد الروحي :مع التأهل العلمي لم ينسَ التأهل الروحي والإيماني، فقد اشتهر قوله : ( ما أَدخلتُ فيه حديثًا إلَّا بعد ما استخرتُ الله تعالى، وصلَّيتُ ركعَتَين، وتيقَّنتُ صحَّتَهُ)، وقولِه: (ما وضعتُ في كتابي الصَّحيح حديثًا إلَّا اغتسلتُ قبل ذلك، وصلَّيتُ ركعتَين) . ٨/ شرطه في كتابه:قال أبو الفضل محمَّد بن طاهر المقدسي: (اعلم أنَّ البُخاريَّ وغيره لم يُنقَل عن واحدٍ منهم أنَّه قال: شرطتُ أنْ أُخرِجَ في كتابي ما يكون على الشَّرط الفلاني، وإنَّما يُعرف ذلك من سَبْرِ كتُبهم، فيُعلم بذلك شرطُ كلِّ رجلٍ منهم ). ولخص ذلك الحافظ رحمه الله فقال: ( إنَّ شرط الصَّحيح أنْ يكون إسناده متَّصلًا، وأنْ يكون راويه مسلمًا، صادقًا، غير مدلِّسٍ، ولا مختلِطٍ، متَّصفًا بصفات العدالة، ضابطًا، متحفّظًا، سليم الذِّهن، قليل الوهم، سليم الاعتقاد ..). وقد علا شرطه بسبب اشتراطه اللقي بين الشيخ والتلميذ خلافا لتلميذه مسلم رحمه الله اكتفى ( بالمعاصرة ). ٩/ ترتيبه :سمّاه ورتبه على طريقة الجوامع الحاوية لغالب موضوعات الدين، فتحوي الاعتقاد والأحكام، والفضائل والبيوع، وأشباهها ، وقد افتتح الكتاب (بكتاب بدء الوحي ) وصدّره بحديث (الأعمال بالنيات) ، واختتمه بكتاب التوحيد وحديث ( كلمتان خفيفتان على اللسان ) ( باب ونضع الموازين القسط ليوم القيامة،،،). ١٠/ شيوخه :تلقى وكتب عن جمع غفير كما قال هو ( كتبت عن ألف وثمانين نفسا-١٠٨٠- ليس فيهم إلا صاحب حديث ) . ١١/ الثناءات الزاخرة :قال الحافظ رحمه الله ( ولو فتحتُ بابَ ثناء الأئمة عليه، ممَّن تأخَّر عن عصره؛ لفني القِرْطاس، ونفدت الأنفاس؛ فذاك بحرٌ لا ساحل له ). ١٢ / موضع تصنيفه :ابتدأ تصنيفه وترتيبه في المسجد الحرام ، وحوَّل تراجمه في الرَّوضة الشريفة في مسجد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وكان يصلِّي لكلِّ ترجمةٍ ركعتَيْن ..! ١٣/ عرضه على الشيوخ:قال أبو جعفر العُقيلي وحمه الله : ( لما ألف البخاري كتاب الصحيح، عرضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلى بن المديني وغيرهم، فاستحسنوه وشهدوا له بالصحة، إلا في أربعة أحاديث ). قال العقيلي: والقول فيها قول البخاري وهي صحيحة ، كما في مقدمة الفتح . ١٤/ التبحر والتفنن :قال الإسماعيلي في المدخل :( أما بعد فإني نظرت في كتاب (الجامع) الذي ألفه أبو عبد الله البخاري، فرأيته جامعا كما سمي لكثير من السنن الصحيحة، ودالا ً على جمل من المعاني الحسنة المستنبطة التي لا يكمل لمثلها إلا من جمع إلى معرفة الحديث نقلته والعلم بالروايات وعللها، علما بالفقه واللغة وتمكنا منها كلها وتبحرا فيها ، وكان يرحمه الله الرجل الذي قصر زمانه على ذلك ، فبرع وبلغ الغاية فحاز السبق وجمع إلى ذلك حسن النية والقصد للخير فنفعه الله ونفع به ). ١٥/ مذهبه الفقهي:هو على طريقة المحدثين في اقتفاء الدليل، ويمكن أن ينضم إلى مدرسة فقهاء المحدثين التي يمثلها أحمد ومسلم وأبو داود وابن خزيمة وأشباههم . بل تجلت اختياراته وإمامته الفقهية وتعقباته وإشكالاته وتفرداته من خلال تراجم الأبواب البهيجة العجيبة، حتى اشتهر قولهم ( فقه البخاري في تراجمه ). وصنف الناس فيها لأنه حيّرهم وأشغل بالهم . ١٦/ تعداده :قال ابنُ حجر رحمه الله: (فجميع أحاديثِه بالمكرَّر سوى المعلَّقات والمُتَابعات على ما حرَّرته وأتقَنتُه (٧٣٩٧) حديثًا ) والأحاديث الموصولة والمعلقة (٢٧٦١) وبالمكرر والتعليقات والمتابعات (٩٠٨٢) حديثًا . واستغرب عد ابن الصلاح وغيره من الأئمة والتفاوت الكبير، ورده للأسباب التالية: • تفريق العادّ بين مطولاته ومختصراته . • بُعد العهد بالكتاب ، • ليس من أهل الصناعة . ١٧/ منهجه في صحيحه :يكرر الأحاديث ويقطعها، لفائدة إسنادية أو متنية، أو يكون الحديث عن صحابي فيعيده عن صحابي آخر، أو أن يسوقه بالعنعنة، ثم يعيده بالتصريح بالسماع. قال الحافظ ابن حجر في هدي الساري: الفصل الثالث: في بيان تقطيعه للحديث واختصاره وفائدة إعادته له في الأبواب وتكراره.. .. ومن ثم تكررت الأحاديث، واتسعت مداركه الفقهية ، واستخرج منها لطائف الأحكام والاختيارات والأسانيد . ١٨/ طريقته في التراجم:وهي السحر الآخر من الكتاب، والذهب الإبريز الخاطف، حيث تنوعت تراجم البخاري وتزخرفت ، قال صديق حسن خان في (الحِطة في ذكر الصحاح الستة ) : ( وجملة تراجم أبوابه تنقسم أقساماً؛ منها: أنه يترجم بحديث مرفوع ليس على شرطه، ويذكر في الباب حديثاً شاهداً على شرطه، ومنها أنه يترجم بحديث مرفوع ليس على شرطه لمسألة استنبطها من الحديث بنحو من الاستنباط من نصه أو إشارته أو عمومه أو إيمائه أو فحواه، ومنها : أنه يترجم بمذهب ذهب إليه ذاهبٌ قبله، ويذكر في الباب ما يدل عليه بنحو من الدلالة لو يكون له شاهداً في الجملة من غير قطعٍ بترجيح ذلك المذهب فيقول: باب من قال كذا. ومنها: أنه يترجم بمسألة اختلفت فيها الأحاديث، فيأتي بتلك الأحاديث على اختلافها، ليقرب إلى الفقيه من بعده أمرها، مثاله: باب خروج النساء إلى البراز. جمع فيه حديثين مختلفين.. الخ...! وهي قرابة من عشر طرائق صنف الناس فيها كتبا، وحللوها تحليلا، يظهر من خلاله عبقرية هذا الإمام، ولنا بحمد الله منظومة ( الكوكب الساري على تراجم البخاري ) ومنها: وفقهُه في هذه التراجمْ ...كما قضى الأئمةُ الأفاهمْ يُنبيكَ عن فذ متينِ العلمِ...قد بلغ السُّحْبَ ذكي الفهمِ يترجمُ البخاري بالمرفوعِ...من كلِم المشفّع المتبوعِ متابعا لشرطه الذي حوى...ومردفاً بشاهدٍ لما روى كقوله (الأمراء من قريشِ)...فاسمع هداك الله طيبَ العيشِ.....! ١٩/ معلقات الصحيح: المراد بالتعليق : ما حذف من مبتدأ إسناده راو فأكثر، ولو إلى آخر الإسناد..ويورده مرة مجزوما وأخرى بلا جزم كيذكر ويروى . والتعليق من المرفرعات على قسمين: احدهما ما يورده ويصله في موضع اخر من الكتاب . والآخر : ما لا يرى في الكتاب الا معلقا فهذا تارة يجزم به كقال وذكر وهذا صحيح إلى من علقه بعد النظر فيمن أبرز من الشيوخ. والصورة الأخرى : ماكان ممرضا كيروى ويذكر فهذه لا تفيد الصحة، وفيه الصحيح وغيره بعد البحث والتنقيب . وأما الموقوفات المعلقة: فإنه يجزم منها بما صح عنده، ولو لم يكن على شرطه، ولا يجزم بما كان في إسناده ضعف أو انقطاع، إلا حيث يكون منجبرا؛ إما بمجيئه من وجه آخر، وإما بشهرته عمن قاله، وإنما يورد ما يورد من الموقوفات؛ من فتاوى الصحابة والتابعين ومن تفاسيرهم لكثير من الآيات، على طريق الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي فيها الخلاف بين الأئمة... وللحافظ ابن حجر رحمه الله كتاب نفيس ، تتبعها باستيعاب ( تغليق التعليق ) وهو من أنفس كتبه التي توفي وهو راضٍ عنها . ٢٠/ روائعه الطويلة:حديث الصخرة وحديث هرقل، ونزول الوحي، وحديث الثلاثة المبتلَين، وقصة صلح الحديبية، وقصة الإيلاء، وحديث الشفاعة، وقصة الدجال، وحديث الإفك، وحديث الهجرة وقصة سُراقة، وحديث سمرة في الرؤيا، وحديث أم زرع، وكل حديث فيها جدير بمصنف أو دروس متوالية تُستخرج دروسه، وتُستنبط عظاته، ليتعلم الناس، وتزكو نفوسهم . ٢١ / شروحه :شُرح وحُشي وعلق عليه قرابة (١٠٠) شرح، ولكن أنفسها وجوهرها وواسطه عقدها المذهب المزخرف ( فتح الباري ) للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله، فقد جمع وأوعى، وحرّر ودقق، وأملى وتأنى، وقارن ورجح، وأبهر وحقق، وهو ما لا تجده في غيره، وصح فيه قول الشوكاني علامة اليمن رحمه الله، ( لا هجرة بعد * الفتح * )،.. فكم فتحٍ تراه بذي القضايا... وكم تجني به طيبَ الهدايا كتابٌ ماجد درر أصيلٌ...يَعِز شبيهُه في ذي البرايا فرحمه الله وأجزل مثوبته.
المشاهدات 580
| التعليقات 0
تسجيل دخول
إذا لم يكن لديك حساب بالفعل قم بالضغط على إنشاء حساب جديد