جوانب مشرقة من أزمة كورونا
إبراهيم بن صالح العجلان
جوانبُ مُشْرقةٌ مِنْ أزْمة كُورُونَا 13/10/1441هـ
الخطبة الأولى:
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: فِي دُرُوبِ الْحَيَاةِ مَوَاقِفُ وَعِبَرٌ، وَأَحْدَاثٌ وَغِيَرٌ، يَتَقَلَّبُ فِيهَا الْعِبَادُ بَيْنَ أَقْدَارٍ وَأَقْدَار، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ.
وَالْعَاقِلُ الْمُوَفَّقُ هُوَ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى الْجَانِبِ الْإِيجَابِيِّ، رَغْمَ الْآلَامِ وَالدَّوَاهِي، وَيُبْصِرُ أَيَّ عَطِيَّةٍ، تَحْتَ غِطَاءِ كُلِّ بَلِيَّةٍ.
إِنَّ أَزْمَةَ (كُورُونَا) وَإِنْ تَضَمَّنَتْ خَسَائِرَ لَا تَخْفَى، إِلَّا أَنَّ فِي ثَنَايَاهَا جَوَانِبَ مُشْرِقَةً، نَسْتَذْكِرُ شَيْئًا مِنْهَا لِنُحَافِظَ عَلَى مَكَاسِبِنَا فِي أَزَمَاتِنَا، وَيَكْفِي أَنَّ اسْتِشْعَارَ الْمِنَحِ وَالتَّحَدُّثَ بِهَا هُوَ نَوْعٌ مِنْ شُكْرِ النِّعَمِ (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ).
الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَقَدْ أَيْقَظَتْ هَذِهِ الْأَزْمَةُ قُلُوبَ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، فَرَأَوْا أَنَّ الدُّنْيَا غَدَّارَةٌ دَوَّارَةٌ، وَأَنَّ الرُّكُونَ إِلَيْهَا غُرُورٌ، فَأَعَادَهُمْ إِلَى مُحَاسَبَةِ أَنْفُسِهِمْ، تَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا لِخَالِقِهِمْ.
كَيْفَ لَا، وَالْقُوَى الْأَرْضِيَّةُ، وَالِاكْتِشَافَاتُ الْبَشَرِيَّةُ ضَعُفَتْ وَحَارَتْ أَمَامَ مَخْلُوقٍ لَا تَرَاهُ الْعُيُونُ، فَمَا أَضْعَفَ الْمَخْلُوقَ وَأَعْجَزَهُ، وَمَا أَقْدَرَ اللَّهَ الْخَالِقَ وَأَعْظَمَهُ، وَصَدَقَ اللَّهُ: (فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ* وَمَا لَا تُبْصِرُونَ).
الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَقَدْ حَرَّكَتْ هَذِهِ الْأَزْمَةُ مَعَانِيَ الْخَيْرِيَّةِ الْكَامِنَةَ، فَرَأَيْنَا النُّفُوسَ قَدْ حَزِنَتْ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَحَنَّتْ، وَرَأَيْنَا النَّاسَ قَدِ اسْتَبْشَرَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَتْ، فَمَا هُجِرَتِ الْمَسَاجِدُ بَعْدَهَا، بَلْ كَانَ بَعْضُ رُوَّادِهَا تَفِيضُ مِنْهُمُ الْعُيُونُ فَرَحًا بِنِدَاءِ"حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ".
كَيْفَ لَا يُفْرَحُ بِهَذَا، وَبِالْمَسَاجِدِ تَحْفَظُ الْأُمَّةُ دِينَهَا وَقِيَمَهَا وَهُوِيَّتَهَا.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، رَأَيْنَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَةِ التَّكَاتُفَ وَالتَّعَاوُنَ والسَّخَاء، وَتَدَفَّقَتْ صَدَقَاتُ أَهْلِ الْأَيَادِي الْبَيْضَاءِ، طَلَبًا لِلثَّوَابِ، وَاسْتِدْفَاعًا لِلْعِقَابِ، فِي تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ، وَمُسَاعَدَةِ ذَوِي الْحَاجَاتِ، وَإِخْرَاجِ قَوَافِلَ مِنَ الْمَدْيُونِينَ الْمَسْجُونِينَ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، رَسَّخَ هَذَا الْوَبَاءُ اعْتِزَازَ الْمُسْلِمِينَ بِدِينِهِمْ، الَّذِي جَاءَ بِالتَّنَظُّفِ وَغَسْلِ الْأَعْضَاءِ، وَالنَّهْيِ عَنِ التَّنَفُّسِ فِي الْمَاءِ، وَإِغْلَاقِ الْفَمِ أَثْنَاءَ الْعُطَاسِ.
وإِذَا كَانَتْ مُنَظَّمَاتُ الصِّحَّةِ الْعَالَمِيَّةُ تَتَوَاصَى بِالْحَجْرِ الصِّحِّيِّ، وَأَنَّهُ هُوَ الْخِيَارُ الْأَمْثَلُ لِلنَّجَاةِ مِنْ هَذَا الْوَبَاءِ، فَإِنَّ هَذَا التَّوَقِّيَ قَدْ قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ سَنَةٍ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، رَأَيْنَا تَفْهُّمَ النَّاسِ فِي اسْتِقْبَالِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الصِّحِّيَّةِ، الَّتِي فِيهِ مَصْلَحَتُهُمْ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَدْخُلُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: إِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ سَلْبِ الْحُرِّيَّاتِ وَالتَّدَخُّلِ فِي الْخُصُوصِيَّاتِ، فَلِمَاذَا يُسْمَعُ مِثْلُ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ، فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالْمُحَرَّمَاتِ؟ مَعَ أَنَّ حِفْظَ الْأَدْيَانِ أَعْظَمُ وَأَوْلَى مِنْ حِفْظِ الْأَبْدَانِ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، عَلَّمَتْنَا هَذِهِ الْأَزْمَةُ أَنَّ إِغْلَاقَ الْمَحَلَّاتِ سَاعَاتٍ طَوِيلَةً أَمْرٌ مُتَعَيِّنٌ، لِسَلَامَةِ الْأَرْوَاحِ، ولم يَعْتَرضْ أَحَدٌ احْتِرَاماً للنِّظَامِ، وَأَمْرُ الصَّلَوَاتِ الَّتِي فُرِضَتْ مِنْ فَوْقِ السَّمَوَاتِ أَعْلَى وَأَجَلُّ أَنْ تُغْلَقَ لِمِثْلِهَا الْمَحَلَّاتُ، دَقَائِقَ مَعْدُودَاتٍ.
الْحَمْدُ لِلَّهِ، فِي هَذِهِ الْأَزْمَةِ عَادَ لِلْبَيْتِ حَلَاوَتُهُ وَجَمَالُهُ، وَأَصْبَحَ هُوَ الْمَلَاذَ وَالْأَمَانَ، وَالرَّاحَةَ وَالِاطْمِئْنَانَ، وَتَعَمَّقَتِ الصِّلَاتُ دَاخِلَ الْأُسْرَةِ، وَظَهَرَ حَنَانُ الْآبَاءِ، وَبِرُّ الْأَبْنَاءِ، وَبَنَتْ فِي النُّفُوسِ الشَّيْءَ الْكَثِيرَ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ عَالِيَةٌ، غَابَتْ مَعَ مَشَاغِلِ الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ.
وَمِنْ إِيجَابِيَّاتِ الْأَزْمَةِ عَالَمِيًّا: أَنَّهَا جَفَّفَتْ مَنَابِعَ الْفَسَادِ، وَتَطَهَّرَتِ الْأَرْضُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ صُوَرِ الْفَسَادِ فِيهَا، فَجفَّتْ الْجَرَائِمُ وَالسَّرِقَاتُ، وَخَفَّ التَّرْوِيجُ لِلْمُخَدِّرَاتِ، وَتَعَطَّلَتِ الْحَفْلَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ، وَتَرَاجَعَتْ حَوَادِثُ الْعُنْفِ فِي الْعَالَمِ، وَغَابَتْ كَثِيرٌ مِنْ خَطَايَا الْقُلُوبِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ، وَالْغِلِّ وَالْبَغْضَاءِ.
وَمِنَ الْجَوَانِبِ الْمُشْرِقَةِ فِي الْأَزْمَةِ: الِاهْتِمَامُ بِالْمَجَالِ الطِّبِّيِّ وَدَعْمُهُ، وَظُهُورُ الْوَعْيِ الصِّحِّيِّ، وَاهْتِمَامُ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ بِصِحَّتِهِمْ، وَنَظَافَتِهِمْ، وَمَأْكَلِهِمْ، وَمَلْبَسِهِمْ، وَغِيَابُ كَثِيرٍ مِنَ الْعَادَاتِ السَّيِّئَةِ، وَمِنْهَا إِدْمَانُ الْأَكْلِ خَارِجَ الْمَنْزِلِ.
وَمِنْ عَوَائِدِ الْأَزْمَةِ: أَنَّ الْأُسَرَ وَالْأَفْرَادَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَعِيشَ فِي خَيْرٍ وَفَلَاحٍ، وَأَنْ تَصْنَعَ تَرْفِيهَهَا الْمُبَاحَ، بِلَا مُنْكَرٍ أَوْ صَخَبٍ وَصِيَاحٍ.
وَمِنْ إِيجَابِيَّاتِ الْأَزْمَةِ: ظُهُورُ ثَقَافَةِ الْإِنْجَازِ عَنْ بُعْدٍ، وَاقْتِنَاعُ الْأَفْرَادِ فِي الدَّوَائِرِ الْحُكُومِيَّةِ بِإِنْجَازِ الْمُعَامَلَاتِ وَإِنْهَاءِ مَصَالِحِ الْآخَرِينَ وَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ، وَالتَّعْلِيمُ عَنْ بُعْدٍ قَدْ سَجَّلَ نَجَاحًا مَقْبُولًا فِي ظِلِّ هَذِهِ الْأَزْمَةِ الْخَانِقَةِ الْمُفَاجِئَةِ.
وَمِنْ جَمَالِيَّاتِ هَذِهِ الْأَزْمَةِ: أَنَّ جَمَالَ الْحَيَاةِ يَكُونُ بِلَا تَكَلُّفٍ وَإِسْرَافٍ، وَأَنَّ السَّعَادَةَ لَذَّةٌ شُعُورِيَّةٌ يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَهَا الْمَرْءُ بِلَا مُنَافَسَةٍ فِي مَظَاهِرَ فَارِغَةٍ، أَوْ مُجَارَاةٍ فِي شَكْلِيَّاتٍ.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ:(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌلِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ...
الحطبة الثانية
أَمَّا بَعْدُ: وَمِنْ إِيجَابِيَّاتِ الْأَزْمَةِ: أَنَّ الْمُجْتَمِعَ يَرْجِعُ فِي أَزَمَاتِهِ وَشَدَائِدِهِ إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ وَالطِّبِّ وَالْخِبْرَةِ، مِمَّنْ يُضَحُّونَ وَيَبْذُلُونَ لِنَفْعِ الْغَيْرِ، فَحَقُّهُمُ الدُّعَاءُ، وَالشُّكْرُ وَالثَّنَاءُ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الصُّفُوفُ الْأَمَامِيَّةُ لِلْمُجْتَمَعِ، فَلْنُعِدْ تَرْتِيبَ الْأَوْلَوِيَّاتِ فِي الِاهْتِمَامِ وَالْمُتَابَعَةِ، وَلْنُنْزِلِ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، فِي زَمَنٍ اخْتَلَّتْ فِيهِ الْأَوْلَوِيَّاتُ، فِي إِعْطَاءِ الصَّدَارَةِ وَاتِّخَاذِ الْقُدْوَاتِ.
وَمِنَ الْجَوَانِبِ الْمُشْرِقَةِ: اسْتِشْعَارُ النَّاسِ أَهَمِّيَّةَ الِاسْتِجَابَةِ لِلنِّظَامِ الَّذِي فِيهِ مُصْلِحَةٌ لَهُمْ، وَهَذَا أَمْرٌ شَرْعِيٌّ مَأْجُورٌ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ عَمَلًا تَنْظِيمِيًّا إلزاميَّاً؛ وَلِذَا جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بِمَبْدَأِ السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلْحَاكِمِ بِالْمَعْرُوفِ، فَكَيْفَ إِذَا تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً عَامَّةً ظَاهِرَةً؟!
وَبَعْدُ عِبَادَ اللَّهِ: فَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَعِيشَ الْمَرْءُ إِيجَابِيًّا فِي حَيَاتِهِ، فَالْبُؤْسُ وَالْقَلَقُ، وَالْحَيْرَةُ وَالضِّيقُ، لَنْ تَصْنَعَ مُسْتَقْبَلًا، وَلَنْ تُنْجِرَ عَمَلًا.
فَهَذِهِ الْأَيَّامُ الَّتِي نَعِيشُ تَوَفَّرَ فِيهَا مِنَ الْوَقْتِ وَالْفَرَاغِ مَا لَمْ يَتَوَفَّرْ فِي غَيْرِهَا، فَاجْعَلْهَا مَحَطَّةً لِبِنَاءِ ذَاتِكَ وَتَطْوِيرِ قُدُرَاتِكَ، وَأَعِدْ تَرْتِيبَ أَوْلَوِيَّاتِكَ.
كَمْ حَدَّثْتَ نَفْسَكَ أَنْ تَحْفَظَ الْقُرْآنَ وَتَقْرَأَ تَفْسِيرَهُ، وَكَمْ جَمَعْتَ وَجَمَعْتَ مِنَ الْكُتُبِ أَوِ الْمَوَادِّ السَّمْعِيَّةِ، فَلَمْ تَقْرَأْ وَلَمْ تَسْمَعْ سَاعةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وتعذَّرْتَ بِضِيقِ الْوَقْتِ حَتَّى عَلَاهَا الْغُبَارُ... فَاجْعَلْ مِنْ هَذَا التَّفَرُّغِ مَحَطَّةً لِلْإِنْجَازِ فِي أَمْرِ دِينِكَ أَوْ دُنْيَاكَ، وقديماً قال الفقيه يحيى بن هبيرة:
والوقتُ أَنْفَسُ مَا عُنِيْتَ بِحِفْظِهِ *** وَأَرَاهُ أَسْهَلُ مَا عَلَيْكَ يَضِيْعُ
صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ وإمامكم وقدوتكم، كما أمركم ربكم وخالقكم...
المرفقات
جوانب-مشرقة-من-أزمة-كورونا
جوانب-مشرقة-من-أزمة-كورونا