جناح الذُّل .. نافذة على معنى بر الوالدين

عبدالمحسن بن محمد العامر
1442/04/11 - 2020/11/26 21:30PM

الحمد لله الذي بسطَ على خلقِه رحمتَه، وجعلَ الوالدين أوسطَ أبواب ِ جنَّتِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فازَ من العِبَادِ من حقّقَ طاعتَه وعبادتَه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه وعَمِلَ بسنّته؛ إلى يوم القيامةِ الذي أظهرَ اللهُ علامتَه وأَمارتَه.. أما بعد:

فيا عباد الله :  أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ففي التقوى عصمةٌ من الزللِ، وحمايةٌ من الخلَلِ، ونجاةٌ، من العذابِ والظُّلَلَ  (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفرْ عنكم سيئاتِكم ويغفرْ لكم واللهُ ذو الفضلِ العظيم)

معاشرَ المؤمنين: برُّ الوالدين من أعظمِ القُربَاتِ، وأجلِّ العباداتِ، وقد أمرَ الله به وألزمَ، و وصَّى وأكَّدَ؛ فقال جلّ شأنه (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا*واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً)

وهذا الأمرُ الإلهيُّ والتأكيدُ الربانيُّ؛ منه ما هو حِسِّيٌّ و معنويٌ، أما الحِسِّيُّ فظاهرٌ وملموسٌ، وغالباً لا يغيبُ عن الأذهانِ، ولا يتركه إلا مكابرٌ عاقٌّ.

وَلكِنَّ البرَّ المعنويَّ الذي هو الأهمُّ و الألزمُ؛ البرُّ المعنويُّ الذي تفوقُ قيمتُهُ قيمةَ البرِّ الماديِّ، البرُّ المعنويُّ الذي يغيبُ عن كثيرٍ من الأذهانِ أمْرُه، ويَنْتشِرُ بينَ الناسِ عدمُ فعله.

نعم ــ عباد الله ــ البرُّ المعنويُّ الذي أمرَ اللهُ به في قولِه جلَّ شأنه (واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) فخفضُ الجناحِ هو إلَانَةُ الجانبِ مع الخضوعِ و الانكسارِ ، والشفقةِ والرحمةِ، ومع الاحترامِ والتقديرِ  في كلِّ الأحوالِ والظروفِ، وهذا الذُّلُّ ليس ذلّاً يخفضُ المرءَ ويَعِيْبُه، بل ذلٌّ يرفعُه ويعلي قدرَه وشأنَه.

فقد جاءتْ قراءةٌ قُرآنيةٌ أخرى لِلَفظة (الذُّلِّ)  بكسرِ الذال؛ فتُقرأ (واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذِّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) قال القرطبيُّ: وقرأ سعيدُ بنُ جبيرٍ وابنُ عباسٍ وعروةُ بنُ الزبيرِ "الذِّلِّ" بكسرِ الذّال، ورويتْ عن عاصمٍ، من قولِهم : دابةٌ ذلولٌ: بيِّنةُ الذِّل . والذِّل في الدوابِّ: المنقادُ السهلُ دونَ الصَّعبِ، فينبغي بحكمِ هذه الآية: أنْ يجعلَ الإنسانُ نفسَه مع أبويِه في خيرِ ذِلَّةٍ؛ في أقوالِه وسكناتِه ونظرِه. انتهى كلامه رحمه الله.

فانظر ــ يا رعاك الله ــ في هذه القراءةِ الأخرى التي بالكسرِ كيفَ أرادَ اللهُ فيها أنْ نكونَ في التذللِ للوالدين كما تكونُ الدابةُ ذليلةً منقادةً مستكينةً مطاوعةً لراعيها.

وخفضُ الجناحِ للوالدين شيئٌ، والذِّلةُ لهما شيئٌ آخر، فحينَ خاطبَ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بقوله( واخفضْ جناحكَ لمن اتبعكَ من المؤمنين) لم يذكر الذّلة، وفي شأنِ برِّ الوالدين ذكرها، قال القرطبي رحمه الله: ولم يذكرِ الذُّلَ في قوله - تعالى : (واخفضْ جناحَكَ لمن اتبعكَ من المؤمنين) وذكره هنا بِحَسَبِ عِظَمِ الحقِّ وتأكيدِه.

عباد الله: من الأوهامِ المنتشرةِ اليومَ؛ توهُّمُ أنَّ برَّ الوالدين مربوطٌ بكميَّةِ الخدماتِ الحسيَّةِ الماديَّةِ، وهذا الوَهْمُ مِنْ تأثيراتِ عصرِ المادياتِ الذي صارتْ مُعظمُ التصوراتِ فيه ماديَّةً بحتَةً.

لقد كان السلفُ الصالحُ مِنْ الصحابةِ والتابعينَ رضي الله عنهم؛ يدركون جيّداً معنى خفضِ الجناحِ من الذّل، فكانت أحوالُهم مع والِدِيْهم متَّسمَةً بهذا المفهومِ والمدلولِ، ونُقِلَتْ لنا صورٌ من برِّهمِ المعنويِّ؛ تُبَرْهِنُ بجلاءٍ على فَضْلِهِم، وتؤكّد على خَيْرِيَّتِهم وسابقتهم.

فرفعُ الصوتِ على الوالدين الذي صارَ مِنْ أهونِ الأمورِ  عند كثيرٍ من الناسِ، كان السلفُ يحذرونه حذراً كبيراً، و يعدّونَه من العقوقِ الموجبِ للعقوبَةِ، فهذا التابعيُّ الجليلُ عبدُ الله بنُ عَوْنٍ؛ نادته أمُّه فأجابها، فعلا صوتُه صوتَها؛ فأعتقَ رقبتين. علا صوتُه صوتَها في إجابةِ ندائها له، فكيفَ بحالِ من يعلو صوتُه صوتَ والديه في النقاشِ؟ وفي الجدالِ؟ وكيفَ بحالِ من يصرخُ بأعلى صوتِه في وجه والديه لأيِّ سببٍ كان؟ ألا يخشى من العقوبةِ العاجلةِ؟ والنقمةِ الآخذة؟

وأما التابعيُّ الجليلُ محمدُ بنُ سيرين رحمه الله (فكان إذا كلّمَ أمّه كلّمَها كالمصغي إليها بالشيء، وذا كان عند أمِّه، ورآهُ رجلٌ لا يعرفُه، ظنَّ أنَّ به مرضاً من خفضِه كلامه عندها)

وفي خضوعِ العينينِ وذلّتِهما للوالدين جاء تفسير اثنين من أئمةِ السلفِ في التفسيرِ، وهما عطاء وعروة لقوله تعالى ( واخفضْ لهما جناحَ الذّلِّ من الرحمة) بأنْ قالا في معناها: (ولا تحدّ بصرَكَ إليهما، إجلالاً وتعظيما) وجاء في الأثر: (ما برَّ أباه من حدَّ إليه الطّرْفَ)

فأينَ من يغضبُ وتَتْقِدُ عيناه شزراً، ويصوِّب عينيه نحو والِدَيْه وكأنه ينظر إلى ألدِّ أعدائه؟

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)

باركَ الله لي ولكم بالكتابِ والسنةِ، ونفعنا بما صرَّفَ فيهما من الآياتِ والحكمة.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:
الحمد لله الواحدِ الأحدِ، وأشهدُ أن لا إله إلا الله الفردُ الصمدُ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، مَنْ تَبِعَهُ رَشَدَ وسَعُدَ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى اليوم الأشدّ.            أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله ( واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله ثمّ توفّى كلُّ نفسٍ ما كسبتْ وهم لا يظلمون)

معاشر المؤمنين: لقد تأكدَ البرُّ المعنويُّ في السنَّة تأكُّداً واضحاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم (لا يَجزِي ولدٌ والِدَه، إلا أن يجدَه مملوكًا فيشتريه فيعتِقَه) رواه أبو داود عن أبي هريرةَ رضي الله عنه، وصححه الألباني، فقيمةُ العتقِ المعنويةُ تفوقُ قيمتَهُ الماديةَ بمراحلَ كثيرةٍ، ومما يدلُّ أيضاً على قيمة البرِّ المعنويِّ حديثُ أبي هريرة رضي الله عنه قال: (جَاءَ رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، فَقالَ: مَن أَحَقُّ النَّاسِ بحُسْنِ صَحَابَتِي وفي روايةٍ "بحسنِ صحبتي"؟ قالَ: أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قالَ: ثُمَّ أَبُوكَ) رواه البخاري و مسلم، فالصحبةُ ذاتُ معنىً معنويٍّ، وإنْ كانت تتضمّنُ معنىً ماديّاً، إلاّ أنَّ معناها المعنويُّ أقوى وأشدُّ قوّةً وأثراً،  فالوالدان أحقُّ الناس بمجالسَتِكَ، ووفائِكَ، ومحبَّتِكَ، وإحسانِكَ، وخِدْمَتِكَ، وملاطفَتِكَ، وعطائِكَ، وكرمِكَ، وهديّتك، وحسنِ خُلقِكَ، ولطيفِ صحبتِكَ، وجميلِ عشرتِكَ.

ومما جاءتْ به السنّة أيضاً أنَّ البرَّ المعنويَّ مقدَّمٌ على نوافلِ العباداتِ، قصّةُ جريجٍ العابد الذي نادته أمُّه وهو يصلّي نافلةً ، فاحتار وقال ( أمي وصلاتي) فأقبل على صلاته، ولم يُجِبْ أمَّه، فَدَعَتْ عليه؛ فاستُجِبتْ دَعْوَتُها، ومِنْ قصص التابعين في فقهِ البرِّ المعنويِّ قصّةُ الإمامِ التابعيِّ الجليلِ محمدِ بنِ المنكدرِ، الذي اشتُهِرَ بالعلمِ والروايةِ، حيثُ كان له شقيقٌ اسمهُ عمر، عُرفَ بالعبادةِ والتنسُّكِ، قالَ محمّدٌ: (باتَ عمرُ يصلي، وبتُّ أغْمِزُ رِجْلَيْ أمّي، وما أحبُّ أنَّ ليلتي بليلته) فقد بقي الإمامُ ابنُ المنكدرِ عامةَ ليلِه يدلّك رِجْلَيْ أمِّه، ويخفّفُ إعياءَها، ويُطيِّبُ خاطرَها، ويؤانسُ وحدَتها، ويتقرّبُ إلى الله بذلك، وأخوه عمرُ صافٌّ قدَميْه بينَ يديْ الله يصلي الليلَ، ومع ذلك ما تركَ محمدُ ابنُ المنكدرِ رِجْلَيْ أمّه؛ بل صرَّح أنَّه يعتقدُ أنَّ برَّ الوالدينِ أجلُّ في ميزانِ اللهِ من التهجُّدِ.

وبعدُ عباد الله: فمعنى البرِّ المعنويِّ واسعٌ وكبيرٌ، وشاملٌ لجوانبَ مختلفةٍ، فمن البرِّ المعنويِّ: مُجالسةُ الوالدينِ، وملاطفتُهما، ومحادثتُهما، والإصغاءُ إليهما، والإقبالُ
 عليهما أثناءَ المجالسةِ، وعدمُ الانشغالِ عنهما لا بقراءَةٍ من صحيفةٍ، أو كتابٍ، أو جوّالٍ، ولا في محادثةٍ جانبيةٍ مع غيرِهما.

ومن البرِّ المعنويِّ: صحبتُهما إذا كانا يرغبانِ في مراجعتِهما للمستشفياتِ، وعندَ ذهابِهما للأسواقِ لقضاءِ الحاجيّاتِ، وكذلك صحبتُهما لصلاةِ الجمعةِ والأعيادِ، وفي المناسباتِ، وغيرُ ذلك من معاني البرِّ المعنويِّ الكثيرةِ التي يحتاجُها الوالدان حاجةً معنويةً أكثرَ منها حسيَّةً، ويجمعُ ذلك كلّه (حُسنُ الصحبةِ)

هذا وصلوا وسلموا على من أمركم بالصلاة والسلام عليه الله حيث يقول:  (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمً)

...............

المشاهدات 1386 | التعليقات 0