جمعة البشائر

عبدالله يعقوب
1432/11/23 - 2011/10/21 12:43PM
جمعة البشائر

الحمد لله المتوحدِ في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المتفردِ بتصريف الأحوال على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المتعالي بعظمته ومجده، الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تفرد بالعز والمُلك والجبروت، وتوحد بالبقاء والدوام والملكوت... أمرُهُ قضاءٌ وحكمة، ورضاه أمانٌ ورحمة، يقضي بعلمه، ويعفو بحلمه، نحمدك اللهم على ما تأخذ وتعطي، وعلى ما تعافي وتبتلي، نحمدك اللهم على آلائك، كما نحمدك على بلائك، ونستغفرك مما أحاط به علمك، وأحصيته في كتابك، علمٌ غيرُ قاصر، وكتابٌ غير مغادر.

وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه وخليله... اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ). أما بعد...

أيها المسلمون.. هذه الجمعةُ المباركة..
هي جمعةُ البشائر..
جمعةُ الأفراح..
جمعةُ الانتصارات..
(قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَ‌ٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا۟ هُوَ خَيْرٌۭمِّمَّا يَجْمَعُونَ)...
أيامٌ خَلَتْ... ذاق فيها المسلمون حلاوةَ الإيمان، مشوبةً بالعز.. عزِ الإسلام.. ورِفعة شأنه.. وعلو مكانته..

فالحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.

فهو الحميدُ فكلُ حمدٍ واقعُ *** أو كان مفروضًا على الأزمانِ

هو أهله سبحانه وبحمده *** كلُّ المحامدِ وصفُ ذي الإحسانِ

فلك المحامدُ والمدائحُ كلها *** بخواطري وجوارحي ولساني

ولك المحامدُ ربنا حمًدا كما *** يُرضيك لا يَفنى على الأزمانِ

ملءَ السماواتِ العُلا والأرضِ *** والموجودِ بعدُ ومُنتهى الإمكانِ

مما تشاءُ وراءَ ذلك كلِّه *** حمدًا بغير نهايةٍ بزمانِ

أيها الناس.. عشنا أياماً ماضية فيها بشائر متعددة ولله الحمد.

ومن ذلك الخبر بشفاء والدنا خادم الحرمين الشريفين متعه الله بالصحة والعافية على طاعته، وألبسه ثياب العافية.

ومن تلك البشائر العظيمة.. خروج أسرانا من سجون الاحتلال الصهيوني. في عملية عظيمة مباركة، أرغمت أنوف الصهاينة وأذلتهم، وأعزت المسلمين، وبينّت الفرق بين من يعملون حقيقة لنصر فلسطين وعودة الأقصى المبارك، وفك أسر المعتقلين، وبين منافقي المفاوضات، الذين خبرناهم خلال خمسين عاماً لم يصنعوا فيها شيئاً ذا بال.

ومن البشائر العظيمة.. هلاك الطاغية القذافي... وصدقَ الله.. (ومن أصدق من الله قيلاً): (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ).

فاللهم لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهك وعظيم سلطانك, رزقت الصابرين نصرك، وأحللت بالظالمين بطشك وعقوبتك. وأريتهم الخزيَ والعذابَ المهين، وشفيتَ صدورَ قومٍ مؤمنين.

أيها الناس.. في نهايات الظالمين عِبر، ونحن نشاهدُ جُثثَ الطغاةِ ملقاةً على الأرض، ونشاهدها وهي تُركل وتُدفع وتُسحب وتُضرب، نتذكر قصورَهم وأموالهم وترفهم ولهوهم.. ثم نوقن أن أيامهم وعزهم ومجدهم وملذاتهم.. قد مضت وانتهت. فسبحان الحي الذي لا يزول ولا يحول.
وصدق الله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ () وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ () وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ () كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ () فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ).

نعم... نتذكر أعواماً وعقوداً مضت..
وفيها ما فيها من البغي والعلوِّ والفسادِ في الأرض...
اثنان وأربعون عاماً من ركسِ الظلم، وإنكارِ السُّنة النبوية، وإصدارِ الكتابِ الأخضر، واعتبارِ الإسلامِ وأهله جرذانٌ زنادقةٌ ؟؟ كلَّ ذلك ذهب اليوم، وأصبحت من الماضي.

هدمَ العقيدُ بكل بغيٍ أرضَها ** عجباً لهدمٍ لقّبوه مُعَمَّرا !!
اليومَ أعظمُ عبرةٍ في موته ** هذا الجزاءُ لمن طغى وتكبَّرا

إن سنةَ اللهِ تعالى في الظالمين.. لا تتخلَّفُ ولا تتبدَّل.. وربُنا حَكَمٌ عَدَل.. يُمهل ولا يُهمل، ويأخذُ الظالمَ ولو بعد حين، والمتأملُ لسيرِ الطغاةِ في القرآنِ الكريم.. يجدُ في مصارعِهم عبرةً وعظة.

(وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ*فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْأَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَلَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوايَتَّقُونَ)

وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنَّ اللهَ ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يُفلته)، ثم قرأ: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) متفق عليه.

فتأمل يا رعاك الله.. كم كان لهذا الطاغوت من الأذى والإفساد.
فلم يسلم منه شعبُه ورعيتُه، ولم تسلم منه الدولُ المجاورةُ له، ولا الدولُ العربيةُ والأفريقية. إلى غيرِ ذلك من المخازي.. التي من أشدها قبحاً تطاوله على العقيدةِ الإسلامية، والسنةِ النبوية، وسخريته من الحج إلى بيتالله الحرام، وسخريته من المسلمين الذين يقفون في عرفات، حتى كفَّره أهلُ العلم، واعتبروه ضالاً مضلاً. والعياذُ بالله.

فالحمد لله الذي أراح منه العباد، وطهر من رجسه البلاد.

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الأَنْصَارِيِّ، أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ : (مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ)، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: (الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) متفق عليه.

(فقُطِعَ دابرُ القومِ الذينَ ظلَمُوا والحمدُ لله ربِ العالَمِين).

أيها الناس.. لقد كان ثمن هذا الانتصار ثميناً غالياً، لكن سنة الله باقية في أن رفع الظلم لا بدله من تضحيات وبذل للمهج والنفوس وبخاصة إذا كان لإزالة طاغوت متجبر.

وهذه النهاية المفرحة.. رسالةٌ لكل ظالمٍ باغٍ، ولكل طاغوتٍ لا يطبق شرع الله، رسالةٌ لكل ذي ولايةٍ صغُرت أم كبُرت، تقول لهُم أجمعينَ: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ).

هذه النهاية المفرحة تزيدنا يقيناً وتفاؤلاً بنصر اللهمهما طال الزمن، ومهما عظمت المصائب وتكالبت المحن، (فاصبر أن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون).

وهي رسالة للمتشائمين واليائسين، فأين الظالمون الذينكانوا قبل عدة أشهر يسومون شعوبهم سوء العذاب.. (هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا) !.

على أن الفرحَ المشروع بموت الطاغية.. لا يجوز أبداً أن يُلهينا عن بيان واجب أهلنا في ليبيا في هذه المرحلة. ألا وهو الأخذُ بمنهج النبي صلى الله عليه وسلم في الانتصار عندما دخل مكة فاتحاً... من التواضعِ، وحقنِ الدماء، وإشاعةِ العفو، وجمعِ الكلمة، وتأمينِ الناس، وتطبيقِ شرع الله، والحذرِ من اختطاف النصر من قِبل أعداءِ الله كما حدث قديماً وحديثاً في أماكن أخرى من العالم الإسلامي.

فهذا النصر تحقق بفضل الله تعالى على أيدي المجاهدين، أصحابِ الأيدي المتوضئة، والقلوبِ الصادقة، والنفوسِ الطاهرة، وصدق الله: (إن الأرضَ للهِ يورثُها من يشاء من عباده والعاقبةُللمتقين).

أيها الناس.. لما كانت عاقبة الظلم وخيمة.. وعاقبة الظالم أليمة.. وأيامه معدودة، وأنفاسه محدودة.. فإن ثقتنا في الله، ويقيننا بما عنده سبحانه، يجعلنا نتطلع إلى اليوم.. الذي نرى فيه عدوَ الإسلام في الشام.. وقد دكت عروشَه الأبطالُ، وجعلوه كأمس الذاهب.. أثراً بعد عين. وإن غداً لناظره قريب. وما ذلك على الله بعزيز.

قَتْلُ العقيدِ معمرَ القذافي ** خبرٌ ألذُ مِن النميرِ الصافي
يا رب ألحقْ بالظلومِ عصابةً ** بالشام واشفِ صدورَنا يا شافي

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. ونفعنا بهدي سيد المرسلين..

أقول ما تسمعون.. وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فتوبوا إليه واستغفروه.. إنه هو الغفور الرحيم.





الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه.

وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه.
صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.. وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد.. فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى.

أيها الناس.. هذه وقفات سريعة مع مقتل القذافي.

أولاً: الفرحُ بمصارع المجرمين والطغاة، ليس من الشماتة في شيء، بل هو فرح بنصر الله، أما الحكم على أعيانهم بالنار، فإلى الملك العلام.

ثانياً: جثث الموتى تعامل بالاحترام في دين الإسلام، والميت له حرمته، فلا يجوز أن نعبث به أو نحرقه أو نمثل به، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التمثيل بالجثث، حتى جثث المشركين.

ثالثاً: مات القذافي.. وأصبح بين يدي خالقه.. فانظروا داخلكم وابحثوا قبل فوات الأوان عن قذافي آخر يسكنكم: كم خادمٍ أهنتم؟ كم امرأة جرحتم؟ وكم غريب أو مسكين ظلمتم؟

رابعاً: كفوا ألسنتكم عن الموتى.. فإنهم قد صاروا إلى ما قدموا، وأصلِحوا ما بينكم وبين الله تعالى. وما بينكم وبين الناس، واحذروا الظلم. فكما أن الله انتقم لكم من القذافي، فسوف ينتقم للقذافي ممن ظلمه وتكلم فيه بغير حق.

خامساً: الفضلُ في مثل هذه الأحوال التي يؤخُذ فيها الظالمون.. لله تعالى وحدهُ، فهُـوالمنتقمُ من كلِّ مجرمٍ, ولهذا مدح نفسَه بقوله: (فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا)، ومدح نفسه بكل نقمة لاحقةٍ إلى قيام الساعة فقال: (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ). وما هؤلاء الثوار والثورات ونحوها إلا أسباب جعلها الله تعالى.

سادساً: رقص الناسُ فرحاً وسروراً لموت القذافي... فيجب على كلِّ صاحب منصبٍ أن يحذر من أن يختم اللهُ له بخاتمةٍ.. يرقصُ معها.. مَن سامهم سوءَ العذابِ والتضييقِ والخيانةِ والإجحافِ. وحينئذٍ يقال له: (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).

اللهم صل على محمد وآل محمد...
المشاهدات 2453 | التعليقات 1

خطبة جميلة جدا وكنت أتمنى لو إطلعت عليها قبل يوم الجمعة لكن الحمد لله على كل حال