جق الجار

عباد الله ، ما منا من أحد إلا ويعيش بين الناس ويخالطهم ، ولا غنى لأحد منا عن الناس ممن حوله ، وكلما قرب الإنسان من الناس نسبا وصهرا ومجاورة ومرافقة عظمت الحقوق , وحديث اليوم عن حق طالما غفل عنه الناس اليوم ، وتساهلوا في واجباته وما دلت النصوص الشرعية في أدائه ومراعاته والوصية به ، إنه حق الجار :
اُطْلُبْ لِنَفْسِكَ جِيرَانًا تُجَاوِرُهُمْ *** لَا تَصْلُحُ الدَّارُ حَتَّى يَصْلُحَ الْجَارُ
بالجار تغلُو المنازلُ وتَرخُصُ :
يَلُومُونَنِي إذْ بِعْت بِالرُّخْصِ مَنْزِلًا *** وَلَمْ يَعْرِفُوا جَارًا هُنَاكَ يُنَغِّصُ
فَقُلْت لَهُمْ كُفُّوا الْمَلَامَ فَإِنَّهَا *** بِجِيرَانِهَا تَغْلُو الدِّيَارُ وَتَرْخُصُ
حق الجار على جاره مؤكد بالآيات والأحاديث ، قال تعالى : (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي القُرْبَى وَالجَارِ الجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) [النساء36] ، وعن ابن عمر ، وعائشة ، رضي الله عنهما ، قالا : قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «مَا زَالَ جِبْريلُ يُوصِيني بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُورِّثُهُ» . مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وعن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بالله وَاليَومِ الآخرِ، فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَسْكُتْ». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وعن أَبي شُرَيْح الخُزَاعيِّ - رضي الله عنه: أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ ، فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ » الحديث . رواه مسلم . عن عبدِ الله بن عمر ، رضي الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ الله تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِصَاحِبِهِ ، وَخَيرُ الجِيرَانِ عِنْدَ الله تَعَالَى خَيْرُهُمْ لِجَارِهِ ». رواه الترمذي ، وَقالَ: «حديث حسن».
واسم الجار يشملُ المسلمَ والكافرَ، والعابدَ والفاسقَ ، والصَّديقَ والعدوّ ، ، والقريبَ والأجنبيّ ، والأقربَ دارا والأبعد ، وله مراتب بعضها أعلى من بعض . وحدّ الجوار ما جاء عن عليّ رضي الله عنه- «من سمع النّداء فهو جار» ، وقيل «من صلّى معك صلاة الصّبح في المسجد فهو جار» ، وعن عائشة- رضي الله عنها- «حدّ الجوار أربعون دارا من كلّ جانب» ، وعن الأوزاعيّ مثله ، وأخرج البخاريّ في (الأدب المفرد) مثله عن الحسن .
والجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلَاثُ حُقُوقٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقَّانِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلَاثُ حُقُوقٍ فَالْجَارُ الْمُسْلِمُ الْقَرِيبُ ، لَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ القَرَابَةِ ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقَّانِ فَالْجَارُ الْمُسْلِمُ ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ فَالْجَارُ الْكَافِرُ ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ .
ولا يسيءُ الجوارَ ويؤذي الجارَ إلا من قلَّ دينُهُ وَضَعُفَ إيمانُهُ ، عَارٌ عليك أيها المسلمُ أن تبيتَ شبعانًا، وجارُك جائع ، وعارٌ عليك أن تلبسَ الجديدَ ، وجارُك عُريان ، وعارٌ عليك أن تبيت في بيتٍ في بيتِك مرتاحَ البال ، وجارٌك لا يبيتُ من أذاكَ وغوائلِك وشرورِك وسوءِ جوارك ، لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ دُونَ جَارِهِ مَخَافَةً عَلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ ، وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ مَنْ لَمْ يَأْمَنْ جَارُهُ بَوَائِقَهُ . عن أَبي هريرة - رضي الله عنه : أن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «واللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ ، وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ!» قِيلَ: مَنْ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ!». مُتَّفَقٌ عَلَيهِ . وفي رواية لمسلم : «لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ مَنْ لاَ يَأمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» . «البَوَائِقُ»: الغَوَائِلُ والشُّرُورُ .
حسن الجوار سبب في حسن خاتمة العبد ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الحَمِقِ الْخُزَاعِيِّ ، رضي الله عنه ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم : " إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ ، قِيلَ : وَمَا عَسَلَهُ ؟ قَالَ : يُحَبِّبُهُ إِلَى جِيرَانِهِ " . صحيح ، رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق ، وعَسَلَهُ : أي طيب ثناه فيهم : وجاء في رواية الإمام أحمد ، وابن حبان : " إذا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ " ، قِيلَ : وَمَا عَسْلُهُ ؟ قَالَ : "يُفتح لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ بَيْنَ يَدَيْ مَوْتِهِ حَتَّى يَرْضَى عَنْهُ " .
حسنُ الجوار سببٌ في الخيريةِ والمنزلةِ والتفاضلِ عند الله ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، : «خيرُ الأصحابِ عند الله : خيرُهم لصاحبه ، وخيرُ الجيران عند الله : خيرهم لجارِهِ » رواه الترمذي وإسناده صحيح.
الإحسان إلى الجار والقيام بحقه سبب لمغفرة الذنوب، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم - يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، قَالَ : ((مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَمُوتُ يَشْهَدُ لَهُ ثَلاثَةُ أَبْيَاتٍ مِنْ جِيرَانِهِ الأَدْنَيْنَ بِخَيْرٍ إِلاّ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : قَدْ قَبِلْتُ شَهَادَةَ عِبَادِي عَلَى مَا عَلِمُوا وَغَفَرْتُ لَهُ مَا أَعْلَمُ )) حديث حسن رواه أحمد في مسنده .
أذى الجار سبب في لعنة الله والناس ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَشْكُو جَارَهُ ، فَقَالَ : «اذْهَبْ فَاصْبِرْ» فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ، فَقَالَ : «اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِي الطَّرِيقِ» فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِي الطَّرِيقِ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ : فَعَلَ اللَّهُ بِهِ ، وَفَعَلَ ، وَفَعَلَ ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ ، فَقَالَ لَهُ : ارْجِعْ لَا تَرَى مِنِّي شَيْئًا تَكْرَهُهُ . حديث صحيح ، رواه أبو داود في سننه .
وعَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ ، رضي الله عنه ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَشْكُو جَارَهُ ، فَقَالَ : اطْرَحْ مَتَاعَكَ عَلَى الطَّرِيقِ ، فَطَرَحَهُ ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَيَلْعَنُونَهُ ، فَجَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، مَا لَقِيتُ مِنَ النَّاسِ ، قَالَ : «وَمَا لَقِيتَ مِنْهُمْ؟» قَالَ : يَلْعَنُونِي ، قَالَ: «قَدْ لَعَنَكَ اللهُ قَبْلَ النَّاسِ» ، قَالَ : فَإِنِّي لَا أَعُودُ فَجَاءَ الَّذِي شَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ : «ارْفَعْ مَتَاعَكَ فَقَدْ كُفِيتَ» رواه الطبراني والبزار بإسناد حسن بنحوه ، إلا أنه قال : "ضع متاعك على الطريق" أو "على ظهر الطريق" فوضعه ، فكان كلُّ من مَرَّ به ، قال : ما شأنك ؟ قال : جاري يؤذيني ، قال : فيدعو عليه ، فجاء جارُهُ ، فقال : رُدَّ متاعَك فإني لا أوذيك أبدًا .
إساءةُ الجوارِ من عاداتِ الجاهليةِ التي بعث اللهُ نبيَّه صلى الله عليه وسلم لتغييرِها ، يتضحُ هذا من جوابِ جعفر بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه للنجاشي حين سأَلَهُ عن هذا الدين الجديد ، فقال له جعفر : أَيُّهَا الْمَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّة ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا ، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ ؛ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالكَفِّ عَنِ المَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنِ الفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ المُحْصَنَةِ ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَام ـ فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلام ـ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا ، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا ، وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا. رواه أحمد في مسنده بإسناد حسن .
حقُّ الجارِ عظيم ، ومما يدلُ على أهميةِ حقِّ الجارِ أن اللهَ عظَّمَ الخطيئةَ في حقِّ الجار فعن المِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ ، رضي الله عنه ، قال : قَالَ رَسُولُ اللهِ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِأَصْحَابِهِ: " مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا ؟ " قَالُوا : حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ ، فَهُوَ حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِأَصْحَابِهِ : " لَأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ " ، قَالَ : فَقَالَ : " مَا تَقُولُونَ فِي السَّرِقَةِ ؟ " قَالُوا : حَرَّمَهَا اللهُ وَرَسُولُهُ فَهِيَ حَرَامٌ ، قَالَ : " لَأَنْ يَسْرِقَ الرَّجُلُ مِنْ عَشْرَةِ أَبْيَاتٍ ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ جَارِهِ " رواه أحمد ورواته ثقات .
عباد الله ، إنَّ اللهَ جَعَلَ للجارِ حُقوقًا شرعيةً على جيرانِهِ ، فإذا قامَ بها المسلمون بينهم سادتَ روحُ الألفةِ والمحبةِ و التعاونِ والتسامح بينهم ، فمن حقوقِ الجار:
كفِّ الأذى عنه ، وهذا الحقُّ واجبٌ على المسلمين ، فلا يجوزُ لهم بحالٍ من الأحوالِ إيذاءُ أحدٍ من الناسِ ما دامَ مسالما ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه - عَنِ النَّبِيِّ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ : ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلا يُؤْذِي جَارَهُ)) رواه البخاري ، وعَنْه – رضي الله عنه – قَالَ : قَالَ رَجُلٌ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ كَثْرَةِ صَلاتِهَا وَصِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : ((هِيَ فِي النَّارِ)) ، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَإِنَّ فُلانَةَ يُذْكَرُ مِنْ قِلَّةِ صِيَامِهَا وَصَدَقَتِهَا وَصَلاتِهَا وَإِنَّهَا تَصَدَّقُ بِالأَثْوَارِ مِنَ الأَقِطِ وَلا تُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا ، قَالَ : ((هِيَ فِي الْجَنَّةِ)) . صحيح أخرجه أحمد قي مسنده .
ومن صورِ إيذاءِ الجارِ حسَدُهُ وتمني زوالَ النعمةِ عنه ، أو السخريةُ به واحتقارُهُ ، أو إشاعةُ أخبارِهِ وأسرارِهِ بين الناس ، أو الكذبُ عليه وتنفيرُ الناس منه ، أو تتبّعُ عثراتِه والفرحُ بزلاته ، أو مضايقتُهُ في المسكنِ و موقفِ سيارتِهِ ، أو إلقاءُ الأذى عند بابه ، أو التطلّعُ إلى عوراتِهِ ومحارمِهِ ، أو إزعاجُهُ بالصُّراخِ والأصواتِ المنكرة ، أو إيذائُهُ في أبنائه .
وأما من ابتلي بجارٍ يؤذيه فعليه بالصبرِ والاحتسابِ ، فاللهُ جاعلٌ له من ذلك مخرجا .
بارك الله .......
الخطبة الثانية :
أما بعد : فإن من حقوق الجار الإهداءُ إليه وبذلُ المعروف ، فكم من هدية أوقعت في قلب المهدى إليه أثرا عظيما، فهي تقرب النفوس وتزيل الأحقاد وتبرهن على صدق المودة وعظيم المحبة، فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ قَالَ: سَمِعَتْ أُذُنَايَ وَأَبْصَرَتْ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ : ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ)) رواه البخاري ، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ– صلى الله عليه وسلم - : ((يَا أَبَا ذَرٍّ، إِذَا طَبَخْتَ مَرَقَةً فَأَكْثِرْ مَاءَهَا وَتَعَاهَدْ جِيرَانَكَ)) رواه مسلم . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه قال : «ذُبِحتْ شاةً لعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو في أهله ، فقال : أهديتم لجارنا اليهوديّ؟ قالوا: لا، قال: ابعثوا إليه منها، فإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: ما زال جبريل يوصيني بالجار، حتى ظننت أنه سيورِّثه» . أخرجه أبو داود، والترمذي بإسناد صحيح .
ولقد ضرب أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في التعاون والمساعدة فيما بينهم، حتى استحقوا إطراء النبي – صلى الله عليه وسلم - لهم وثناءه عليهم ، فقَالَ عليه الصلاة والسلام في الأشعريين : ((إِنَّ الأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ)) متفق عليه.
فالجارُ أحقُّ بمعروفِ جارِهِ بعد الأهلِ والقرابةِ والأرحامِ ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما – قَالَ : لَقَدْ أَتى عَلَيْنَا زَمَانٌ أَوْ قَالَ حِينٌ وَمَا أَحَدٌ أَحَقُّ بِدِينَارِهِ وَدِرْهَمِهِ مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، ثُمَّ الْآنَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ أَحَبُّ إِلَى أَحَدِنَا مِنْ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ : (كَمْ مِن جارٍ مُتعلقٌ بِجَارِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، يَقُولُ : يَا رَبِّ هَذَا أَغْلَقَ بابهُ دُوني فَمَنع مَعْرُوفَهُ) حسن لغيره ، رواه البخاري في الأدب المفرد .
عباد الله ، هذه بعضُ حُقوقِ الجارِ التي شَرَعَها اللهُ للمسلمين واعظمْ بها من حقوق ، ولكنْ المتأملُ في حالٍ كثيرٍ من الناسِ اليوم قد تناسوا هذه الحقوقَ الواجبةَ عليهم تجاه جيرانهم ، وأعرضوا عنها وأهملوها ، فلا تكادُ ترى مظهرًا من مظاهرِ الصِّلةِ المستمرةِ والعلاقةِ الوطيدةِ بين الجيران ، وتَعْجَبُ كثيرًا حين تعلمَ أن شخصين في حي واحد ، بل في بنايةٍ واحدةٍ يتجاوران سنواتٍ عدة ، لا يدخلُ أحدُهم منزلَ جارِهِ ، ولا يلقي السلامَ عليه ، ولا يتفقّدُ أحوالَه ، وقد يسافرُ الجارُ أو يمرضُ أو يحزنُ أو يفرحُ وجارُهُ لم يشعرْ بذلك ، ولم يشاركْهُ في أفراحِهِ وأتراحِهِ ، بل قد ترى الشقاقَ والنزاعَ محتدمًا بين الجيران ، والعداءَ ظاهرًا بينهم بالقول أو الفعل ، وذلك كله مخالف لهدي الإسلام وتعاليمه ، منهي عنه ، سببٌ الحرمانِ من الخيرِ وقلةِ الإيمان والدين ، فلا بد من وقفةٍ نراجع فيها أنفسَنا، ونصححَ فيها أحوالنا، ونعملَ على تطبيقِ التوجيهاتِ الشرعيةِ الواردةِ في القيامِ بحقوقِ الجيرانِ والوفاءِ بواجباتِهم والإحسانِ إليهم .

المشاهدات 2620 | التعليقات 0