جزء عم وآثاره الإيمانية. 16/1/1439هـ

عبد الله بن علي الطريف
1439/01/16 - 2017/10/06 08:26AM

جزء عم وآثاره الإيمانية. 16/1/1439هـ

أما بعد أيها الإخوة: يقول الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا) [الإسراء:82] قال الشيخ السعدي: القرآن مشتملٌ على الشفاءِ والرحمة، وليس ذلك لكل أحد، وإنما ذلك للمؤمنين به، المصدقين بآياته، العاملين به، وأما الظالمون بعدم التصديق به أو عدم العمل به، فلا تزيدهم آياتُه إلا خسارًا، إذ به تقوم عليهم الحجة، فالشفاء الذي تضمنه القرآن عامٌ لشفاءِ القلوب، من الشُبهِ، والجهالةِ، والآراءِ الفاسدة، والانحرافِ السيئ، والقصودِ السيئةِ.. فإنه مشتمل على العلم اليقيني، الذي تزول به كل شبهة وجهالة.. والوعظ والتذكير، الذي يزول به كل شهوة تخالف أمر الله، ولشفاء الأبدان من آلامها وأسقامها.

وأما الرحمة، فإنَّ ما فيه من الأسباب والوسائل التي يحثُّ عليها، متى فعلها العبد فاز بالرحمة والسعادة الأبدية، والثواب العاجل والآجل.أ.هـ

والقرآن سببٌ لكل خير، ومفتاحٌ لكل صلاح وفلاح ورحمة، والتمسك به مانع من الضلال العقدي والسلوكي..  قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ" رواه اللالكائى والدرقطني والبيهقي والبزار وحسنه الألباني عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.    

أيها الأحبة: في كتاب الله تعالى جزء عجيب عددُ آياتِه خمسُمائة وتسعٌ وأربعون آية.. قراءنا سُوره وحفظناها منذ نعومةِ أظفارنا، ونرددها كل اليومٍ في صلواتنا وأورادنا اليومية.. فمن منا لم يقرأ سورة الإخلاصِ في يومه وليلته.. ومن منا لم يقرأ سورة الفلق وسورة الناس..

والقارئ في هذا الجزء العظيم من كتاب الله، يرى أنه يركز على حقائق معينة قليلة العدد عظيمة القدر مهمة.. وبنسق متقارب يلامس شغاف القلب، ويعرض مشاهد معينة في الكون والنفس ومشاهد أخرى من يوم القيامة، ويكررها بتنوع يوحي بأمرٍ مهم وقصدٍ عظيم، ويدعو الإنسان بصريح القول إلى التأمل والنظر في ملكوت الله وعجيب خلقه، بل يدعو الإنسانَ للتأمل في أساس خلقه وأن أساس الخلق يوحي بقدرته تعالى على البعث والنشور..

هكذا يحس القارئ وهو يقرأ: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ* أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا* ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا* فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا* وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا* وَحَدَائِقَ غُلْبًا* وَفَاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس:24-31] (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) [الطارق:5،6] (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ* وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ* وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ* وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية:17-20] كذلك وهو يقرأ: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا* رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا* وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا* وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا* أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا* وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا* مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) [النازعات:27-33] (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا* وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا* وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا* وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا* وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا* وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا* وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا* وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا* وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا* لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا* وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا) [النبأ:6-16]

أما ما يتعلق بالقيامة، وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل، يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار، والأرض والسماء، والأنعام والوحوش، كما يشمل بني الإنسان فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤكداً ذلك: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ؛ فَلْيَقْرَأْ: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ» رواه الترمذي عن بْنِ عُمَرَ وصححه الألباني.  قال الله تعالى: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ* وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ* وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ* وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ* وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ* وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ* وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ* وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ* وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ* وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ* وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ) [التكوير:1-14] (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ* وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ* وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ* وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ* عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار:1-5] (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ* وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ* وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ* وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ) [الانشقاق:1-5] (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا* وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا* وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا* يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) [الزلزلة:1-5]

أيها الإخوة: وفي هذا الجزء أيضاً يقرأ إشارات سريعة وتلميحات خاطفة عن السبحات الكونية في عدد من السور في صدرها أو في ثناياها: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوَارِ الْكُنَّسِ* وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ* وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ) [التكوير:15-18] (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ* وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ* وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) [الانشقاق:16-18] (وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ* وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ* وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) [الفجر:1-4] (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا* وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا* وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا* وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا* وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا* وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا* وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس:1-8] (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى* وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى* وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى) [الليل:1-3] (وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) [الضحى:1،2]

وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان، والأَحيَاءَ الأُخْرى في هذه الأرض من نباتٍ وحيوانٍ..

وفي الجزء كله كذلك تركيز على مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح.. وعلى مشاهد القيامة العنيفة فيسميها بأسماءٍ تخلع القلوب وتهزها.. الطامة.. الصاخة القارعة.. الغاشية..

كذلك يبن الله تعالى في هذا الجزاء مشاهدَ الحساب من نعيم وعذاب بألفاظ محدودة تقرع وتذهل وتزلزل القلوب كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها..

ثم يأخذ هذه السياقات وما فيها من تخويف وتحذير ويجعلها دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة. وأحياناً تصاحبها إشارات عابرة لمصارع الغابرين من المكذبين..

كذلك نجد في هذا الجزء جزء عم، تنبيهات قوية لإطلاع الله تعالى على العبد وعلمه به وإن أخفى عمله وأنه يجزيه عليه مهما قل أو كثر مثل: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ* أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ* يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا* أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) [البلد:4-7] وقوله: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى* عَبْدًا إِذَا صَلَّى* أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى* أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى* أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى* أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) [العلق:9-14] (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:6-8] أسأل الله تعالى أن يجعلنا من التالين لكتابه بوعي وينفعنا بما نتلو...

الثانية

 وبعد أيها الإخوة: وبهذا الجزء سورتين من السور التي شيبت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهما سورة عم يتساءلون, سورة التكوير. عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ.! قَالَ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَالْوَاقِعَةُ وَالْمُرْسَلَاتُ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» رواه الترمذى وصححه الألباني. لما فيها من ذكر الأمم وما حل بهم من عاجل بأس الله فأهل اليقين إذا تلوها انكشفت لهم من ملكه وسلطانه وبطشه وقهره ما تذهل منه النفوس وتشيب منه الرؤوس فلو ماتوا فزعا لحق لهم.. لكن الله لطف بهم لإقامة الدين.

وبهذا الجزء معظم السور التي كان يصلي بها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصلوات: مثل سورة الاعلي والغاشية في صلاة الجمعة، وصلاة العيدين، والاعلي والكافرون والاخلاص في الوتر.. وقرأ الزلزلة في صلاة الفجر بالركعتين. وكان يقرأ سورتي الكافرون والاخلاص في السنة الراتبة في الصبح، والسنة التي قبل المغرب وركعتي الطواف.

وحفظ هذا الجزء يمنح المسلم الفرصة لقراءة أعداد كبيرة من الآيات في صلاة الليل ليحوز منازل الصالحين من القانتين والمقنطرين ويخرجه من عداد الغافلين.. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطِرِينَ»  رواه أبو داود وابن حبان وصححه الألباني.

وبعد أيها الأحبة: هذا الجزء حري بالتأمل والحفظ، وأدعوكم لقراءته في صلاتكم المفروضة والنافلة مرتباً حتى تتموه ثم تعودون وهكذا، وأدعوكم للإطلاع على معانيه وأسراره ومواعظه، وقراءته في قيام الليل والوتر بتأمل، كما أدعو الأئمة لذلك وعدم هذه هذا الشعر بل قراءته قراءة واعية متأنية متمثلة لمعانيه ومواعظه..

جعلنا الله من الذين يتلون كتاب الله أناء الليل والنهار ومن القائمين بحقه إنه جواد كريم.. وصلوا...  

المشاهدات 1279 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا