جحر الضب
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الذي أعزَّنا بالإسلامِ، وأكرمنا بالإيمانِ، ورحمنا بنبيِّه عليه أَفضلُ الصلاةِ وأَزكى السَّلامِ، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، جَعلَ السعادةَ في خشيتِه وتَقواه، وجَعلَ العزةَ والكرامةَ لمن خَافَه واتَّقاه، وأشهدُ أن سيدَنا وحبيبَ قلوبِنا محمدًا رسولُ اللهِ، وحبيبُه من خَلقِه ومُصطفاه، فَازَ وربحَ من اتبعَ سنتَه وهُداه، وخَابَ وخَسرَ من خَالفَه وعَصاه، اللهمَّ صلِّ عليه وعلى آلِه وصَحابتِه، صَلاةً تَزيدُ في رِفعتِه، وتَرفعُ في دَرجتِه، وتُظلُّنا تحت لوائه وفي زُمرتِه، وتَجعلُنا من رُوادِ حَوضِه وأَهلِ شَفاعتِه، أَما بَعدُ:
آفةٌ .. إذا تغَلغَلتْ في أَوساطِ أفرادِ المُجتمعاتِ وخاصةً عِندَ شبابِها، فينبغي الاستنفارُ العامُ في تشخيصِ حالِها ومعالجةِ أسبابِها، حتى لا تنشغلَ الأجيالُ بالتَّفاهاتِ عن التَّخطيطِ للتَّقدُّمِ والبِناءِ، ولا تكونَ فريسةً سهلةً يصطادُها ويفرحُ بها الأعداءُ، هي علامةُ وَهنِ الأمَّمِ وضَعفِ شَخصيَّتِها، وهي أَمارةٌ على هزيمتِها وفُقدانِ هويَّتِها .. إنَّها آفةُ التَّبعيةِ المذمومةِ وتَقليدِ السَّفهاءِ، والاقتداءِ بالسَّاقطينَ من الرِّجالِ أو النِّساءِ.
فماهو تفسيرُ هذه الملابسِ العَجيبةِ؟، وما هو تحليلُ هذه القصَّاتِ الغَريبةِ؟، وما معنى هذه التَّصرفاتُ المُريبةُ؟، أوقاتٌ ضائعةٌ، وحركاتٌ مائعةٌ، نتكلمُ بينَنا بلغةِ غيرِنا، ونأكلُ طعامَنا بعاداتِ غيرِنا، لماذا نبحثُ دائماً عن الجديدِ ولو كانَ تافهاً ضارَّاً، ونتركُ القديمَ ولو كانَ نافعاً بارَّاً، ألم يقلِ اللهُ تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، فاللهُ تعالى كما فَطَرَ الإنسانَ على الاتِّباعِ، فقد جعلَ الاتِّباعَ الكاملَ لرسولِه عليهِ الصَّلاةُ والسلامُ ولما جاءَ به، ومن فرَّطَ في هذا الاتِّباعِ فإنَّه ولا بُدَّ أن يعوضَ هذا النَّقصَ في اتِّباعِ غيرِه، فَقِفْ وانظرْ حولَك مدَّ البَصرِ، أين نحنُ من سُنَّةِ خيرِ البَشرِ:
قِفْ بالمُطِيِّ فَنادِ في صَحرائهم *** فعَسَى يُجيبُ الحيُّ من أبنائهمْ
أما الخِيامُ فإنَّها كخيامِهم *** وأَرَى نساءَ الحيِّ غيرَ نسائهمْ
واسمعوا معي إلى هذا المِثالِ النَّبويِّ الدَّقيقِ: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَتَتّبِعُنَّ سَنَنَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، شِبْراً بِشِبْرٍ، وَذِرَاعاً بِذِرَاعٍ، حَتّىَ لَوْ دَخَلُوا فِي جُحْرِ ضَبٍّ لاَتّبَعْتُمُوهُمْ)، وتأملوا في جُحرِ الضَّبِّ لتعرفوا مدى أثرِ التَّقليدِ السيئِ على أصحابِه:
فجُحرِ الضَّبِّ لا زالَ عندَ العربِ من سنينَ، ولم يُفكِّرْ أحدٌ يوماً أن يدخلَه، بل يُعتبرُ التَّفكيرُ في ذلكَ نوعٌ من الجنونِ، فلماذا إذا دخلَه غيرُنا أصبحَ دخولُه فنَّاً من الفنونِ؟، ومن ذلكَ اللِّحيةُ التي هي سُنَّةٌ وزينةٌ للرِّجالِ، عندما جاءتْ تقليداً للاعبٍ أو مُمثِّلٍ، أصبحتْ موضةً جميلةُ المَظهرِ والشَّكلِ.
ثُمَّ ما هي الفائدةُ من دُخولِ جُحرِ الضَّبِّ؟، لماذا لم يكنْ التَّقليدُ في التَّقنيةِ والاختراعاتِ؟، أو في ما ينفعُ من العلومِ والصِّناعاتِ؟، هل يمكنُ أن يَصلَ بنا التَّقليدُ إلى هذا الحدِّ من الجَهالةِ والتَّفاهاتِ؟.
ثُمَّ أتعلمونَ أنَّ جُحرَ الضَّبِّ ليسَ له إلا فتحةٌ واحدةٌ، فهو قليلُ التَّهويةِ كثيرُ الأخطارِ، فالولوجُ والزِّحامُ فيه نوعٌ من الهلاكِ والانتحارِ، فانتبهوا من متابعةِ أهلِ الفسادِ، (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).
وكما أنَّ جُحرَ الضَّبِّ متَّعرِّجٌ مُظلمٌ، فهكذا هي سُبلُ المُجرمينَ مُخيفةٌ مُرعبةٌ، تُبعدُكَ عن صراطِ اللهِ المُستقيمِ، (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).
وكذلكَ فإنَّ جُحرَ الضَّبِّ ضيِّقٌ غيرُ نظيفٍ، فيا عجباً للتَّقليدِ كيفَ يقودُ صاحبَه إلى القَذارةِ والحَرجِ، ويتركُ طريقَ النَّظافةِ والفَرجِ، كما قالَ ربعيُّ بن عامرٍ رضيَ اللهُ عنه لرُستم قائدِ الفُرسِ: (نحنُ قومٌ ابتعثنا اللهُ لنخرجَ العبادَ من عِبادةِ العبادِ إلى عِبادةِ اللهِ ربِّ العبادِ، ومن ضِيقِ الدُّنيا إلى سَعةِ الدُّنيا والآخرةِ).
أَقولُ قَولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وسَائرِ المسلمينَ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الحكيمِ في شَرعِه، العَليمِ بمصالحِ عِبادِه، وأَشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأَشهدُ أن محمداً عَبدُه ورسولُه، لا يَكملُ الإيمانُ إلا باتِّباعِ هَديه، اللهمَّ صَلِّ وسلمْ عليهِ وعلى أَتباعِه، أما بعدُ:
هل سمعتُم كيفَ يكونُ أثرُ التَّقليدِ الأَعمى على أهلِه؟، وما هو الطَّريقُ الذي قد يسلكُه بأتباعِه؟، فلماذا نتركُ اتِّباعَ من في سيرتِه مجامعُ الخيرِ والرَّشادِ، ونتَّبعُ طريقةَ أهلِ الزَّيغِ والفسادِ، (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)، فواللهِ ثمَّ واللهِ أنَّ سُنتَه تَملأُ قلبَك وروحَكَ وبدَنكَ بالجمالِ والجلالِ، وتكفيكَ عن كثرةِ التَّحوُّلِ والانتقالِ.
فيا إعلامَ وقنواتِ المُسلمينَ، ماذا تَعرضُون لشبابِنا وفتياتِنا من القُدواتِ؟، وماذا تنتقونَ لهم من سيرةِ الأحياءِ والأمواتِ؟، هل انتقيتُم من في سيرتِهم العلمُ والصَّلاحُ؟، أم تنبشونَ قبورَ الفتنةِ والفُرقةِ والسِّلاحِ؟، فاتَّقوا اللهَ في مجتمعاتِكم ولا تُشغلوها عن التَّقدُّمِ والفلاحِ، لا تَعرضوا لنا من يحاربُ دينَنا وتقاليدَنا الجميلةَ، ولا نريدُ من يُفرِّقَ صفَّنا ووحدتَنا الأصيلةَ، ولا نُريدُ من يُضيعُ أوقاتِنا الثمينةَ الجليلةَ.
وأنتم يا شبابَ المُسلمينَ، اعلموا أنَّكم عبيدُ ربِّ الأرضِ والسَّماءِ، وأتباعُ سيِّدِ وخيرِ الأنبياءِ، ودينُكم أعظمُ الأديانِ، وكتابُكم هو القرآنِ، فَحُقَّ لشبابِ الأمَّمِ الأخرى أن يقتدوا بكم كما اقتدوا بأسلافِكم.
اللهمَّ أصلِح أَحوالَ المسلمينَ في كلِّ مَكانٍ، اللهمَّ رُدَّنا إلى دينِنا ردًّا جميلاً، اللهمَّ من أَرادَنا وأَرادَ دينَنا، أو أرادَ شبابَنا، أو أَرادَ نساءَنا بسوءٍ فاخزِه في هذه الدنيا قبلَ الآخرةِ، اللهمَّ اجعل عَملَه في بَوارٍ، اللهمَّ أَرِنا فيه عجائبَ قُدرتِك، اللهمَّ من أَرادَ ثوابتَ دينِنا بسوءٍ فأشغله في نفسِه، واجعله عبرةً للمُعتبِرين، ورُدَّ كيدَه في نَحرِه، اللهمَّ أصلح ولاةَ أُمورِنا وارزقهم البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تَدلُهم عل الخيرِ وتعينُهم عليه يا ربَّ العالمينَ، اللهم وفق ولاةَ أَمرِنا بتوفيقكَ، وكن لهم مُعيناً على الخيرِ والهُدى والرَّشادِ يا ذا الجَلالِ والإكرامِ، (رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإَيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ).
المرفقات
1628667948_جحر الضب.docx
1628667961_جحر الضب.pdf