جبر الخواطر ومراعاة المشاعر
عبدالله البرح - عضو الفريق العلمي
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
أيها المسلمون: عبادة غائبة وصفة راشدة وسجية رابحة؛ بها تبتهج القلوب وتزول معها الكروب وتصفو بحضورها القلوب، وهي من الأسباب التي تجلب مرضاة علام الغيوب أعرفتموها؟
إليكم الجواب: إنها عبودية جبر الخواطر ومراعاة مشاعر الأحرار والحرائر؛ فما أجملها من خلق، وما أعظمها من سجية؛ ورحم الله سفيان الثوري حيث قال: "ما رأيتُ عبادةً أجل وأعظم من جبر الخواطر".
والمراد بجبر الخواطر -أيها الأحرار والحرائر-؛ مواساة الآخرين في مصائبهم والتلطف معهم ومراعاة مشاعرهم ورفع همتهم؛ وتجبر الخواطر باللين والرفق والابتسامة والاعتذار أو العطاء؛ سواء كان هدية أو صدقة أو غير ذلك من صور الإحسان التي توجب بهجة القلوب وزوال الكروب.
وجبر الخواطر من أوصاف واسع الجبر والألطاف -جل في عليائه-؛ كما أن من أسمائه الجبار، يقول -تعالى-: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الحشر:23]؛ والجبار -جل شأنه- هو الذي يجبر الكسير، ويغني الفقير.
وقد وصف الإمام ابن القيم -رحمه الله- جبر الجبار -سبحانه- فقال:
كذلك الجبار من أوصافه*** والجبر في أوصافه نوعان
جبر الضعيف وكل قلب قد *** غدا ذا كسرة فالجبر منه دان
والثاني جبر القهر بالعز الذي *** لا ينبغي لسواه من إنسان
والمتأمل -أيها المؤمنون- في كتاب الله المجيد يتجلى له جبر الجبار لأنبيائه وأصفيائه، ومن ذلك جبره لنبي الهدى وخاتم الرسل -صلوات الله وسلامه عليه- لما أخرج من مكة المكرمة قهرا وهي مسقط رأسه وبلد نشأته وذكريات طفولته وفيها أرحامه وأحبته؛ لكنه أُرغم على الخروج منها بسبب الدين الذي اعتقنه والحق الذي اتبعه والنور الذي وصله؛ فخرج منها -عليه الصلاة والسلام- حفاظا على دينه وكذا بغية نشره وتبليغه للأنام وسلامة أتباعه؛ قائلا: "يا مكة، ما أطيبَكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ! ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ"(رواه الحاكم في المستدرك).
فجاء الجبر الإلهي لنبيه - صلى الله عليه وسلم- وهو يسير نحو المدينة؛ (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ)[القصص: 85]؛ والمتأمل في هذه الآية الكريمة يجد عظيم المواساة الربانية لخير البرية وسيد البشرية، وفيها تثبيت لفؤاده وبشارة بحسن العاقبة له ولأصحابه.
ومن مظاهر جبر الجبار -سبحانه وتعالى-: جبر خاطر أم موسى -عليه السلام- لما ألقت صغيرها في اليم امتثالا لأمر ربها؛ كما في قوله: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي)[القصص: 7]؛ فجاء الجبر الرباني: (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).
وجبر الجبار سبحانه- يوسف -عليه السلام- حين ألقاه إخوانه في البئر وتركوه؛ حيث جاءه الوحي الإلهي وهو في محنته ومصيبته: (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)[يوسف:١٥]؛ يقول ابن كثير في التفسير: "يقول تعالى ذاكرا لطفه ورحمته وعائدته وإنزاله اليسر في حال العسر: إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق، تطييباً لقلبه، وتثبيتا له: إنك لا تحزن مما أنت فيه؛ فإن لك من ذلك فرجا ومخرجا حسنا، وسينصرك الله عليهم، ويعليك ويرفع درجتك، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا الصنيع".
والجبار -جل وعلا- يجبر المرضى بالشفاء، ويجبر الفقراء بالعطاء، ويجبر السائلين بإجابة الدعاء، ويجبر الغارمين وأصحاب المصائب بالخَلَفِ والأجر والنعماء.
عباد الله: هذه قطرة من بحر جبر الجبار -سبحانه- لعباده؛ فجبره لعباده لا ينقطع؛ وتعالوا لنقف مع بعض موقف يتجلى فيه جبر النبي الكريم -عليه الصلاة وأطيب التسليم- لصحابته وأمته وأتباعه، ألا وهو جبره -صلى الله عليه وسلم- للفقراء ومواساته للمحرومين والبؤساء ونجد ذلك لما جاءه فقراء المهاجرين يشتكون عجزهم عن منافسة أهل الدثور ويخبرونه بأنهم تأخروا عن اللحاق بهم بسبب فقرهم وعدم قدرتهم على بذل الصدقة؛ حيث أتوا إلى النبي الكريم كما في صحيح مسلم؛ وقالوا يا رسول الله: "ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بالأُجُورِ؛ يُصَلُّونَ كما نُصَلِّي، وَيَصُومُونَ كما نَصُومُ، وَيَتَصَدَّقُونَ بفُضُولِ أَمْوالِهِمْ"؛ فجاءهم الجبر النبوي: "أَوَليسَ قدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ ما تَصَّدَّقُونَ؟ إنَّ بكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةً، وَأَمْرٌ بالمَعروفِ صَدَقَةٌ، وَنَهْيٌ عن مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ، وفي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، قالوا: يا رَسولَ اللهِ، أَيَأتي أَحَدُنا شَهْوَتَهُ وَيَكونُ له فِيها أَجْرٌ؟ قالَ: أَرَأَيْتُمْ لو وَضَعَها في حَرامٍ، أَكانَ عليه فِيها وِزْرٌ؟ فَكَذلكَ إذا وَضَعَها في الحَلالِ كانَ له أَجْرٌ"؛ فرجعوا راضين مطمئنين بذلك الجبر الكريم.
وكان -عليه الصلاة والسلام- يمسح برأس اليتيم ويعين ذا الحاجة ويغيث الملهوف، ويبشر أصحابه وأمته بجميل العاقبة في الدنيا والآخرة ويبعث في نفوسهم التفاؤل وانتظار الفرج.
أيها المسلمون: اجبروا الخواطر بالعطاء وشحذ الهمم والعزائم وبالمواساة واللطف واللين وطيب الكلام؛ فبذلكم تنالون المحبة في القلوب وتفريج الكروب والرفعة عند علام الغيوب، ولله در الشاعر القائل في أرباب جبر الخواطر:
جبر الخواطر ذلك دأب أولي النهي *** وترى الجهول بكسرها يتمتع
فاجعل لسانك بلسما فيه الشفا *** لا مشرطا يدمي القلوب ويوجع
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
عباد الله: إذا أردنا أن تطيب لنا الحياة وتصفوا لنا قلوب العباد فلنجبر الخواطر؛ فنمسح رأس اليتيم ونداوي السقيم، ونساعد الفقراء ونواسي من حل بدارهم البلاء؛ كما يجب أن نحذر من كسر قلوب الأحرار والحرائر، وليعلم القاصي والداني أن عاقبة جبر الخواطر ثواب الكريم الفاطر ومرضاة الرحيم الغافر؛ وجبر الخواطر يجلب عون الله لصاحبه؛ كما في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم رحمه الله- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "واللَّهُ في عونِ العَبدِ ما دامَ العبدُ في عونِ أخيهِ".
ختاما أيها المسلمون: تحلوا بهذا الخلق الكريم تنالون جبر الجبار -عز وجل- وكما قيل: من سار بين الناس جابرا للخواطر أدركه الله في جوف المخاطر؛ ولا غرابة فجبر الخواطر من صنائع المعروف التي لا يقع صاحبها؛ كما في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: "صاحب المعروف لا يقع؛ فإن وقع وجد متّكًا"؛ فعناية الله تحرس جابر الخواطر وتحميه من الشرور والمخاطر.
اللهم اجبر خواطرنا برحمتك وفضلك، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين واخذل أعداءك أعداء الدين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم واجمع على الحق كلمتهم.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا ووالدينا عذاب القبر والنار.
وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير؛ حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب: 56].
المرفقات
1696321257_جبر الخواطر ومراعاة المشاعر.doc
1696321279_جبر الخواطر ومراعاة المشاعر.doc