ثمرات القناعة وسبل تحصيلها

الشيخ نواف بن معيض الحارثي
1445/07/06 - 2024/01/18 08:47AM

ثمرات القناعة

الخطبة الأولى:

الحمدُ للـهِ جعل الحمدَ مفتاحًا لذكرِه، وجعلَ الشكرَ سببًا للمزيدِ من فضلِه، نحمدُه على إعطائِه ومنعِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللـهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنَّ محمدًا عبد اللـهِ ورسولُه سيدُ البشرِ أجمعينَ، ورسولُ ربِّ العالمينَ، فصلواتُ اللـهِ وسلامُه عليه، وعلى آلِه الطيبينَ الطاهرينَ، وعلى أصحابِه والتابعينَ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِّ. أما بعد: فأوصيكم ...

عن أبي هريرة t أنَّ النَّبيَّ rكانَ يَوْمًا يُحَدِّثُ -وعِنْدَهُ رَجُلٌ مِن أهْلِ البَادِيَةِ-: أنَّ رَجُلًا مِن أهْلِ الجَنَّةِ اسْتَأْذَنَ رَبَّهُ في الزَّرْعِ، فَقَالَ له: ألَسْتَ فِيما شِئْتَ؟ قَالَ: بَلَى، ولَكِنِّي أُحِبُّ أنْ أزْرَعَ، قَالَ: فَبَذَرَ، فَبَادَرَ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ واسْتِوَاؤُهُ واسْتِحْصَادُهُ ، فَكانَ أمْثَالَ الجِبَالِ، فيَقولُ اللَّـهُ: دُونَكَ يا ابْنَ آدَمَ؛ فإنَّه لا يُشْبِعُكَ شَيءٌ. فَقَالَ الأعْرَابِيُّ: واللَّـهِ لا تَجِدُهُ إلَّا قُرَشِيًّا أوْ أنْصَارِيًّا؛ فإنَّهُمْ أصْحَابُ زَرْعٍ، وأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بأَصْحَابِ زَرْعٍ. فَضَحِكَ النَّبيُّ r . خ. عباد الله: تحدثنَا في الأسبوع الماضي عن القناعةِ ، فالقناعةُ هي الرضا بما قسمَ اللـهُ من أسبابِ العيشِ، والأخذُ بما تيسرَ من أمورِ المعاشِ، في مأكلٍ ومشربٍ ومسكنٍ وملبسٍ، لا يرى أحداً أفضلَ منه في ذلكَ. وللقناعة فوائِدُ كثيرةٌ،

تعودُ على المسلمِ بالسعادةِ والراحةِ، والأمْنِ والطمأنينةِ في الدُّنيا والآخرةِ؛ فمن أهمِّ فوائِدِها:

تقويةُ الإيمانِ بامتلاءِ القلبِ بالإيمانِ والثقةِ باللـهِ، والرضا بما قَدَّرَ وقَسَمَ، فمَنْ قَنِعَ برزقِه فإنمَّا هو مؤمنٌ قنوعٌ، مُتَيَقِّنٌ بأنَّ اللـهَ تعالى ضَمِنَ أرزاقَ العبادِ، وقَسَمَها بينهم على مقتضى حكمتِه الكاملةِ، حتى ولو كانَ ذلك القانعُ لا يملكُ شيئاً. قال الإمام أحمدُ: (أَسَرُّ أَيَّامِي إِلَيَّ يَوْمٌ أُصْبِحُ وَلَيْسَ عِنْدِي شَيْءٌ).

وقال الحسنُ (إِنَّ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِكَ أَنْ تَكُونَ بِمَا فِي يَدِكَ أَوْثَقَ مِنْكَ بِمَا فِي يَدِ اللَّـهِ عَزَّ وَجَلَّ).

ومن أهمِّ فوائِدِها: الحياةُ الطَّيِّبةُ (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) . قال ابن عباسٍ : الحياةُ الطيبةُ هي القناعةُ) . وقال ابنُ الجوزيِّ :(مَنْ قَنِعَ طَاب عَيْشُه، وَمَنْ طَمِعَ طَالَ طَيْشُه).

ومن فوائدِ القناعةِ: شُكْرُ المُنْعِمِ؛ فمَنْ قَنِعَ برزقِه شَكَرَ اللـهَ عليهِ، ومَنْ تقالَّهُ قَصَّرَ في الشُّكرِ، وربما جَزِعَ وتَسَخَّطَ؛ ولذا قال r (وَكُنْ قَنِعًا تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ» ابن ماجه.

ومن فوائدِها: الفلاحُ والبُشرى لِمَنْ قَنِع: قال r: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللَّـهُ بِمَا آتَاهُ» م. وقال r: «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إِلَى الإِسْلاَمِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وَقَنِعَ»  الترمذي.

ومن فوائدِها: الوِقايةُ من الذُّنوبِ التي تَفْتِكُ بالقلبِ، وتُذهِبُ الحَسَناتِ: كالحسَدِ، والغِيبةِ، والكَذِبِ وغيرِها من الخصالِ الذميمةِ، والآثامِ العظيمةِ؛ لأنَّ الحاملَ على الوقوعِ في كثيرٍ من الذنوبِ هو التنافسُ على الدُّنيا، فمَنْ قَنِعَ برزقِه فقد حَفِظَ حسناتِه، وابتعدَ عن الآثامِ والموبقاتِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ t: «الْيَقِينُ: أَنْ لَا تُرْضِيَ النَّاسَ بِسَخَطِ اللَّـهِ، وَلَا تَحْمَدَ أَحَدًا عَلَى رِزْقِ اللَّـهِ، وَلَا تَلُمْ أَحَدًا عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِكَ اللَّـهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّ الرِّزْقَ لَا يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلَا يَرُدُّهُ كَرَاهِيَةُ كَارِهٍ، فَإِنَّ اللَّـهَ تَعَالَى بِقِسْطِهِ وَعِلْمِهِ وَحِلْمِهِ جَعَلَ الرَّوْحَ وَالْفَرَجَ فِي الْيَقِينِ وَالرِّضَا، وَجَعَلَ الْـهَمَّ وَالْـحَزَنَ فِي الشَّكِّ وَالسُّخْطِ».

ومن أهمِّ فوائدِ القناعةِ: أنَّها تُورِثُ الغِنَى: وحقيقتُةُ غِنَى القلبِ؛ فعَنْ أَبِي ذَرٍّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّـهِ r «يَا أَبَا ذَرٍّ! أَتَرَى كَثْرَةَ الْـمَالِ هُوَ الْغِنَى؟» قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّـهِ، قَالَ: «فَتَرَى قِلَّةَ الْـمَالِ هُوَ الْفَقْرُ؟» قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّـهِ، قَالَ: «إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى الْقَلْبِ، وَالْفَقْرُ فَقْرُ الْقَلْبِ» ابنُ حبانَ وغيرُه

وتلكَ حقيقةٌ لا مِرْيةَ فيها؛ فكم مِنْ غَنِيٍّ عندَه من المالِ ما يكفيْهِ وولدَهُ – ولو عُمِّرَ ألفَ سنةٍ – يُخاطِرُ بدِّيِنِه وصحتِه، ويُضحِّي بوقتِه يُريدُ المزيدَ! وكم من فقيرٍ يرى أنَّه أغنى الناسِ؛ وهو لا يجد قُوتَ غَدِه! فالعِلَّةُ في القلوب: رِضًا وجَزَعاً، واتِّساعاً وضِيقَاً، وليست في الفقرِ والغنى.

ومن أعظم فوائدِها: أنَّ العزَّ في القناعةِ، والذُّلَّ في الطَّمَعِ: فالقانِعُ لا يحتاجُ إلى الناسِ، فلا يزالُ عزيزاً بينهم، والطَّمَّاعُ يُذِلُّ نفسَه من أجلِ المزيدِ؛ قال r «شَرَفُ الْـمُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» الحاكم وغيره. وكانَ محمدُ بنُ واسِعٍ يَبلُّ الخُبزَ اليابِسَ بالماءِ ويأَكُلُه، ويقولُ: (مَنْ قَنِعَ بهذا، لم يحتجْ إلى أحدٍ).

عباد الله: لعلَ سائلاً يسألُ: ما السَّبِيلُ إلى تحصيلِ القناعةِ؟ فيُقالُ: إنَّ من أهمِ سُبُلِ تحصيلِ القناعةِ: تقويةَ الإيمانِ باللـهِ سبحانَه: وترويضَ القلبِ على القناعةِ والغِنى؛ فمَنْ كانَ غَنِيَّ القلبِ نَعِمَ بالسعادةِ، وتحلَّى بالرضَّا، وإنْ كان لا يَجِدُ قُوتَ يومِه، ومَن كان فقيرَ القلبِ؛ فإنَّه لو مَلَكَ الأرضَ ومَنْ عليها - إلاَّ درهماً واحداً، لرأى غِناهُ في ذلك الدِّرهَمِ؛ فلا يزالُ فقيراً حتى ينَالَـهُ.

ومن سُبِلِ تحصيلِ القناعةِ: اليقينُ بأنَّ الرِّزْقَ مكتوبٌ: فقد كُتِبَ رِزُقُكَ وأنتَ في رَحِمِ أُمِّكَ؛ كما في الحديثِ عنه r :«ثُمَّ يُرْسَلُ الْـمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ» م. فالعبدُ مأمورٌ بالسَّعي والاكتسابِ، مع اليقينِ بأنَّ اللـهَ هو الرَّزاقُ.

ومن سبلِ تحصيلِها: تدبُّرُ آياتِ القرآنِ: ولا سيما الآياتِ التي تتحدَّثُ عن الرِّزقِ والاكتسابِ (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّـهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ). وقولُه سبحانَه( وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )

ومن سبلِ تحصيلِ القناعةِ: معرفةُ حِكْمَةِ اللـهِ في تفاوتِ الأرزاقِ بينَ  العبادِ، فقد خَلَقَ اللـهُ الناسَ مُتَفاوِتِينَ في الأرزاقِ والمراتبِ حتى تَحصُلَ عِمَارَةُ الأرضِ، ويتبادلَ الناسُ المنافِعَ والتجاراتِ، ويخدِمَ بعضُهُم بعضاً: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )

 

 

ألا فاتقوا الله عباد الله وتأملْوا فيما بين أَيديِكُم من النِّعَمِ، وليقنعِ العبدُ بما آتاه اللـهُ، وليحذرْ من تجاوز الحلالِ للحرامِ، وعليكَ بالإياسِ مِمَّا في أيدي النَّاسِ ، وإيَّاكَ والطَّمَعَ فإنَّهُ الفقرُ الحاضرُ ( ومن يوقَ شحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون) .  بارك الله لي ...

 

 

 

 

الخطبة الثانية

الحمد لله... فيا عباد الله:

عباد الله: من أيْسَرِ سبلِ تحصيلِ القناعةِ: النَّظَرُ في التفاوت اليَسِيرِ بين الغَنِيِّ والفقيرِ: فهذا التفاوتُ، وإنْ كان شاسعاً بمقاييسِ المادةِ، فهو على سبيلِ الحقيقةِ تفاوُتٌ يسيرٌ؛ لأنَّ الغَنِيَّ لا ينتفعُ إلاَّ بالقليلِ من مالِه أكْلاً ولِبْساً ومَسْكَناً، وما فَضُلَ عن ذلك فليسَ له؛ فعن عبد اللـهِ بن الشِّخِّيرِ t قال: أَتَيْتُ النَّبِيَّ r وَهُوَ يَقْرَأُ: (أَلْـهَاكُمُ التَّكَاثُرُ)، قَالَ:«يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي مَالِي! وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» م.

ومن أعظمِ سبلِ تحصيلِ القناعةِ: الإكثارُ من سُؤالِ اللـهِ القناعةَ: فعن ابنِ عباسٍ قال: كان النَّبيُّ r يَدْعو يقولُ: اللَّهُمَّ قنِّعْني بما رَزَقْتني، وبارِكْ لي فيه، واخلُفْ على كُلِّ غائبةٍ لي بخيرٍ) الحاكم . وكَانَ ابنُ عَبَّاسٍ لَا يَدَعُ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمـَقَامِ، أَنْ يَقُولَ هذا الدعاءَ السابقَ.

ومِنْ أقوى سُبلِ تحصيلِ القناعةِ: قِراءةُ سِيَرِ السَّلفِ الصالحِ وأحوالِهم مع الدُّنيا، والزهدِ فيها، والقناعةِ بالقليلِ منها، فقد أدركوا الكثيرَ منها فرفضُوه؛ إيثاراً للباقيةِ على العاجلةِ .

 

ولقد تشعبتِ القناعةُ في أمورِ النبيِّ r وحياتِه كلِّها فتجدُه r قنوعٌ في أكلِه وشربِه: فعَنْ عَائِشَةَ t أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ ، ابْنَ أُخْتِي إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلاَلِ ثُمَّ الْهِلاَلِ ثَلاَثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّـه r نَارٌ ، فَقُلْتُ يَا خَالَةُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ . قَالَتِ: الأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْـمَاءُ، إِلاَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللـهِ r جِيرَانٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَتْ لَـهُمْ مَنَائِحُ وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللـهِ r مِنْ أَلْبَانِهِمْ فَيَسْقِينَا ) خ.م

وعَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَخَبَّازُهُ قَائِمٌ، قَالَ :كُلُوا،  فَمَا أَعْلَمُ النَّبِيَّ r رَأَى رَغِيفًا مُرَقَّقًا حَتَّى لَحِقَ بِاللَّـهِ، وَلاَ رَأَى شَاةً سَمِيطًا بِعَيْنِهِ قَطُّ) خ. 

وعن أبي هُرَيْرَةَ قال: رَأَيْتُ سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ إِمَّا إِزَارٌ وَإِمَّا كِسَاءٌ قَدْ رَبَطُوا فِي أَعْنَاقِهِمْ فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْنِ، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الْكَعْبَيْنِ فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَرَاهِيَةَ أَنْ تُرَى عَوْرَتُهُ .

 ثم صلوا ..

 

 

المرفقات

1705556826_خطبة ثمرات القناعة وسبل تحصيلها-.docx

1705556826_خطبة ثمرات القناعة وسبل تحصيلها-.pdf

المشاهدات 584 | التعليقات 0