ثلاثون طريقة لصناعة أفكار كتابيّة! الشيخ أحمد بن عبد المحسن العساف

الفريق العلمي
1440/08/27 - 2019/05/02 10:36AM

أكثر شيء يُجهد الكاتب -أو هكذا يفترض- هو الحصول على فكرة كتابيّة، وكلّما كانت الفكرة أكثر إبداعًا وإلهامًا استطاعت التّأثير، ونالت الخلود، ومع أهميّة البيان ركن الكتابة الثّاني بعد الفكرة إلّا أنّه تابع لها تبعيّة الّلفظ للمعنى، ولن يجدي البيان شيئًا مالم يجلّي فكرة آسرة؛ فهو بدونها فقّاعة ستنطفئ، أو تطير كالهباء المنثور.

 

لذا شاركت آنفًا في تقديم برنامج تدريبي ضمن مبادرة حرف لتأهيل خمسين كاتبًا وكاتبة، ووعدت بعضهم بإعادة كتابة المادة التّدريبيّة عن صناعة الفكرة على هيئة مقال تعليمي يسهل الاحتفاظ به، والرّجوع إليه، ونشره، فمضمونه لا يقتصر على الكاتب، بل يشمل الخطيب، والمسوّق، وصانع المحتوى، وغيرهم.

 

فلصناعة الفكرة خمسة أبواب كبرى، تنفذ منها جميع طرق الصّناعة، وهي أبواب متاحة لكلّ أحد، ومشرعة لأي والج يملك أداة أو أكثر، وهذه الأبواب باختصار هي:

أوّلًا: الذّاكرة:

منجم لا ينضب، ومُنجد يطرد الجفاف الكتابي، ومن الطّبيعي أنّ الذكريات تُعرض كاملة، أو جزئيّة، على حسب المقام ومقتضى الحال.

 

ثانيًا: الإنصات:

لا يخلو المرء من مجلس أو اجتماع أو فرصة سماع، وكم في أحاديث النّاس وحواراتهم من مداخل للفكرة، فإلى الاستماع تُعزى طلاقة الجاحظ في معرفة أجناس مجتمعه وطبقاته.

 

ثالثًا: المشاهدة:

نرى كثيرًا من الصّور والمشاهد بيد أنّ الغفلة عن توظيفها، أو الاعتياد عليها، يحول دون الإفادة منها واستنطاقها.

 

رابعًا: القراءة:

أحد أعظم الأبواب، وكلّ قراءة عميقة أو مختلفة سيكون لها من الثّمار فوق ما يتصوّره الكاتب، والمهم ألّا نسلّم لغير الوحي، وأن نحمي خياراتنا من كتب لا تلهم، أو لا تثير ساكنًا، أو لا تفيد علمًا أو لغة، أو أسلوبًا أو طريقة معالجة.

 

خامسًا: التّفكير:

باب عظيم بكثرة أنواعه، وأثره على ما سبق من أبواب، وكم نحتاج إلى استثمار عقولنا في هذا الباب حتى لا يكون العقل معيشيًا أو تابعًا أو ساكنًا.

 

وبعد هذه الأبواب سأذكر طرق صناعة الفكرة بإيجاز، وبعضها ينتمي إلى باب أو أكثر، وربّما تبدو للقارئ علاقة تداخل بين طريقة وأخرى؛ وإفرادها للأهميّة فيما أرى، وها هي الطّرق:

 

1- المواقف الحياتيّة:

مثل أوّل يوم في المدرسة، أصعب مقابلة شخصيّة، أطول امتحان في الجامعة، أيّام الخطوبة، ... وعلى الكاتب أن يعيش ذكرياته بوعي، ويقيّدها إذا أمكن؛ حتى يحسن نقل المشاعر حين يكتب.

 

2- التّخصّص:

يهب التّخصص الدّراسي أو المهني مددًا كبيرًا لأفكار الكاتب، فمن العمليّات الحسابيّة، والمعادلات الفيزيائيّة، والأحكام الفقهيّة، والقواعد النّحويّة، والأسس القانونيّة، والتّطبيقات الصّحيّة أو الهندسيّة، يمكن صناعة ما لا يحصى من الأفكار.

 

3- خبرات الحياة والعمل:

فالأب والأم لهما تجربة في تربية الأطفال، والممرّض له علاقة وثيقة بالمرضى، والمعلّم يقابل سنويًا أصنافًا جديدة من الطّلاب، فالخبرات تحمل في طيّاتها كمًا كبيرًا من الأفكار لا يستعصي على من اجتهد لاستخلاصها.

 

4- استطلاع الآراء:

لهذه الطّريقة مراكز ضخمة على مستوى العالم، ويعيبها أحيانًا محدوديّة العينة المختارة، ويمكن للكاتب إذا كانت علاقاته واسعة أن يقوم بهذا الدّور على نطاقه ومستواه، وسيكون مبدعًا حين يعطي لكلّ رأي قدره.

 

5- الحوار والنّقاش:

مجتمع الكاتب متنوّع، ومن ضمنه فئة نخبويّة من المثقفين والخبراء، وفي مباحثتهم وتداول الآراء معهم مكسب كبير للكاتب.

 

6- وجهة النّظر الأخرى:

يعرض الكاتب وجهة نظره فماذا لو انتقل للضّفة المقابلة وكتب بلسان الآخرين؟

 

7- إبراز حاجات المجتمع والنّاس:

وهي ضرورات وحاجات وكماليّات لا تنتهي، وإنّما الشّأن في فهمها، وترتيبها، وجودة عرضها.

 

8- التّعليق على الصّور:

حضور الصّورة في حياتنا يزداد، وفي تأمّلها فوائد كثيرة للكاتب، فمنظر طلبة المدارس يجيء بفكرة وأكثر، ولقطات مصانع كوريا الجنوبيّة تعطي معاني تنمويّة، ونظافة بيئة سنغافورة تفتح أبوابًا للمحاكاة، ومشاهد راوندا بين زمنين تمنح الأمل.

 

9- الملاحظة:

تعتمد على اقتناص لقطة خاطفة سريعة كما لو كنت عابرًا في طريق، أو جالسًا في قاعة انتظار، أو واقفًا عند بائع، وتنميّة حسّ الملاحظة مهم جدًا للكاتب.

 

10- التّأمّل:

وهو نوع من التّفكر العميق فيما يراه المرء أو يسمعه أو يقرأه، وقد يكون معتادًا مثل كلمات الآذان، أو شروق الشّمس وغروبها، وقد لا يكون معتادًا، وتحتاج هذه الطّريقة إلى أناة وعمق.

 

11- التّاريخ:

من لا يعي أهميّة التّاريخ فهو جدير بالتّوبيخ، وفي قديمه وحديثه منابع لا تنضب للكتابة، وقد يكون فيها مندوحة ومخرج آمن من سوء الظّنون وما أكثرها تجاه الكتّاب المساكين، ومعنى التّاريخ واسع إذ يتداخل مع كلّ فنّ وعلم تقريبًا.

 

12- القصص الشّعبيّة والأساطير:

تحمل دلائل وافرة، وفيها أكثر من إشارة تغني عن كثير العبارة، والقارئ يحبها، والكاتب الحاذق يهتم بقارئه دون أن ينقاد له.

 

13- الأحداث السّاخنة:

يصبح المرء ويمسي على أحداث متلاحقة، وتختلف الأحداث من طبيعيّة إلى سياسيّة فعسكريّة أو اجتماعيّة وتقنيّة، كما تفترق الكتابة حولها ما بين تحليل أو استدعاء تاريخها، أو وصفها أو دراسة احتمالات المستقبل.

 

14- اكتشاف العلاقات وصنعها:

سمة ضروريّة لأيّ كاتب يتحرّى الإبداع، فهو مكتشف كبير للعلاقات أو صانع خطير لها؛ لأنّه يشاهد بأكثر من عينين ويسمع بأذنيه ووعيه، ويتأمّل ويفكر، فمثلًا ما هي العلاقة بين تصرّف قائدي السيّارات عند نظام المخالفات المروريّة المصوّرة وبين النّفاق؟ وما هي العلاقة بين أوّل يوم عمل في الأسبوع مع الجمل؟

 

15- تحديد النّطاق:

لها فائدة الحصر كما أنّ الحصر هذا يعدّ سلبيّة أحيانًا، ولو قال الكاتب: سأكتب عن حقبة ما، أو بلدة معينة، أو في مجال محدّد، فحينها سيكون تضييق الدّائرة سببًا للتّركيز وتتابع الأفكار عليه.

 

16- كسر القاعدة:

إحدى طرق الإبداع، فالأب في زمن مضى يعلّم أولاده بينما في عصر ذكاء الأجهزة أصبح المعلّم متعلّمًا عند تلميذه! والمرأة في عصر اندفاعها نحو العمل قد تضطر للمشاركة في مصروف البيت، ومن يدري فربّما يأتي وقت-إن لم يكن قد أتى-تدفع المهر وتخطب الرّجل!

 

17- دحرجة كرة الثّلج:

لابأس أن تبدأ الفكرة بعشوائيّة أو تعاني من غبش أو سوء تغذية، فمع تقليب أوجه النّظر ستزهر وتغدو صالحة للعرض، فلو بحثنا مثلًا عن علاج لحل مشكلة استخدام السّائق جهاز الهاتف أثناء القيادة، واقترحنا مصادرة جهاز الأعزب، وتسليم المرأة جهاز زوجها مفتوحًا، ونصنع من هذه المقترحات الصّعبة كرة ثلج تؤول بنا إلى إيجاد دواء مناسب لهذا البلاء المنتشر.

 

18- طرح الأسئلة:

السّؤال سبب للجواب بعد بحث، والشّك المنهجي أساسي في الوصول إلى كثير من الحقائق، وأسئلة الاستفهام تفتح دائرة واسعة، وتهب للموضوع حياة ولو كان مستهلكًا، فمن قواعد الكتابة إمطار الموضوعات الرّتيبة بوابل من الأسئلة لتنشيطها وجذب القارئ إليها، ويحتاج الكاتب إلى الفضول بإثارة أسئلة غير معهودة، والله يجعلها بردًا وسلامًا على كاتبنا العزيز!

 

19- النّظر من زاوية مختلفة:

يتشابه جلّ النّاس في تناولهم لموضوع ما، وتبقى زاوية مهجورة لم يلتفت إليها أحد، مثل أن يُطلب من متاجر الحلوى المشاركة في التّوعية بصّحة الفم والأسنان، وإشهار الزّواج بإعلان عبر الواتساب مع وليمة مختصرة، وإمكانيّة رعاية المناسبات عن بُعد باستخدام التّقنيات المتطورة دون حضور يتطلّب إجراءات مضنية أو مكلفة.

 

20- نبش المسكوت عنه:

وما أكثر المسكوت عنه، وهو روض كثير المرابع والأشواك.

 

21- القبعات السّت:

من تقنيات حل المشكلات واتّخاذ القرارات، وإعمالها على كثير من الأفكار والموضوعات يعطي الكاتب وسيلة رائعة لخدمة مادته.

 

22- استشراف المستقبل:

مساحة رحبة للكتابة بعلم وفهم، وهو فنٌّ مهمل في عالمنا مع وجود محاولات للنّهوض به، وما أجدر بلاد العرب والمسلمين باحتضان مراكز للمستقبل استشرافًا وصناعة، وتأهيل علماء فيه يقولون ما يعتقدونه وما قادتهم إليه تقنيات الاستشراف وليس ما يرضي المسؤول؛ ففي بلد عربي برز عالم مستشرف؛ وحين سألوه أخبرهم بما يعتقد بلا مواربة، وكانت النّتيجة من قسمين: الأوّل هجروه وأبعدوه، والثّاني: حدث جميع ما توقعه أو غالبه!

 

23- الخيال:

محيط لا يغرق من سبح فيه، وفضاء فسيح للتّحليق مع أمن من السّقوط، وافتراض الممنوع جائز شرعًا وعقلًا، ولو افترض الكاتب ما يعينه على صناعة الفكرة فسيجد أنّ مرونته الذّهنيّة في ازدياد، ولياقته العقليّة إلى تحسّن، فماذا لو صار أحدنًا مخلوقًا خفيًا لمدة يوم؟ وماذا لو صنع قرص صغير يغني عن الغذاء والدّواء؟ وكيف يكون موقف الفاروق لو عاد إلينا؟

 

24- الّلغة:

علاقة الكاتب بالّلغة تؤثر طرديًا في ثرائه الفكري، وكما يتميّز اللاعب بطريقة تعامله مع الكرة، فكذلك الكاتب مع حروف الهجاء، وبناء الكلمات، وصناعة التّراكيب، وصكّ المصطلحات، والأخيرة منزلة رفيعة لا تُبلغ إلّا بشقّ الأنفس.

 

25- عالم المخلوقات الأخرى:

فعالم الحيوان والحشرات والنبات والجن والشّياطين فيه من الملامح ما يخدم القارئ كثيرًا، وفي القديم والحديث ارتكن كتّاب كبار إلى الحيوانات وانطلقوا منها، وفي المكتبة مؤلّفات كثيرة عنها، ونظرة الكاتب فيها بين فينة وأخرى تفتح له نوافذ كتابية مأمونة أحيانًا.

 

26- قراءة في كتاب:

مراجعة الكتب من أسمى الأعمال، فهي للكاتب قراءة وكتابة، وللمؤلّف إيناس وتشجيع، وللقارئ تعريف وتبصير، وما أرقى الحياة التي تبدأ من كتاب وتعود إليه.

 

27- الرّدود والتّعليقات:

سبيل كتابي على ألّا يحصر الكاتب قلمه فيها، ومن الضّرورة بمكان أن يكون الرّد علميًا مؤدبًا، والاعتراض موضوعيًا.

 

28- الاختصار والتّلخيص:

قد يقرأ الكاتب بحثًا طويلًا أو يستمع إلى ندوة أو حوار، فيكون من المناسب تلخيص أهم ما ورد فيها بلغة الكاتب مع إضافة رأيه، والتّلخيص المتقن مهارة.

 

29- عقد المقارنات:

وليس بصعب عقد المقارنة بين زمان وزمان، أو مكان ومكان، أو حدث وآخر، أو كيان وشبيهه، أو إنسان ومثيله، والمهم جمع المعلومة الصّحيحة، والانصاف، وابتغاء المصلحة، والتّحليل المنطقي.

 

30- دلالة الإحصاءات:

الإحصاء علم يتقاطع مع غيره، وكم في الإحصاء والأرقام من دلالات ذات معنى، وبالمقابل فقد تخفي حقائق، أو تلّبس على المتابع إذا أجريت بطريقة انتقائيّة أو فئويّة.

وباستخدام هذه الطّرق وغيرها، ينعم عقل الكاتب بحركيّة لا تعرف الهدوء، ومن الجميل أن يخدم الكاتب أفكاره وتقنياته، فأمّا خدمة الفكرة فيكون بالقراءة والبحث، والسّؤال، والتّفكير، والسّفر، والمشي، وتجربة الجديد، وأمّا خدمة التّقنيات فبديمومة الاستعمال، والتّطوير المستمر لها، وتعليمها للآخرين.

 

فيا كاتبتنا الملهمة، ويا كاتبنا البارع، استرجع ملكة الإبداع الفطري لديك، وحفّز نفسك بنفسك، وحافظ على قدراتك بدفق يومي من الأفكار، واحمل معك شبكة لصيد الأفكار وتقييدها، وليس بالضّرورة أن تكون أفكارك رائعة كلّها، أو سليمة من الغرابة؛ فهي في النّهاية لك وسوف تحفظها في مستودعك الورقي أو الإليكتروني، وليست للنّشر المباشر إلّا بعد أن تدخلها في معملك، وتجري عليها ما شئت؛ فتضيف أو تحذف أو تدمج؛ ليغدو منتجك الظّاهر لمجتمعك وأناسك طيبًا باهرًا يليق بك في دنياك، ويرضي عنك مولاك وإنّك لملاقيه.

 

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

@ahmalassaf

الأربعاء 05 من شهرِ شعبان عام 1440

10 من شهر أبريل عام 2019م

المشاهدات 609 | التعليقات 0