ثلاثة مواقف عُظمى في غزوة بدر الكبرى

ثلاثة مواقف عُظمى في غزوة بدر الكبرى

إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد:

رمضان من السنة الثانية للهجرة، وبالتحديد في يوم (17 رمضان)، كانت غزوة بدر الكبرى، ففي السنة الثانية للهجرة وقعت غزوة بدر الكبرى في السابع عشر من رمضان وتم أعظم انتصار للإسلام على الشرك في أول مواجهة عسكرية وكان هذا الانتصار منعطفاً في سير التاريخ إذ مكن للدعوة وفرض سيطرة القلة المؤمنة وأثبتت وجودها بعد أن قمعت أعتى قلاع الشرك وأقواها.

وواقع الأمة في حاضرها وماضيها يشير إلى أنه ما زالت هناك فئات صادقة عالمة وافية وخلصة في جهادها، تجاهد لأجل إعلاء كلمة الله، والذود عن حمى الإسلام وأمة الإسلام، تجاهد عدوا ظاهرا واضحا بيّنا مظهرا للعداء والظلم للأمة ودينها. وأنه في المقابل هناك فئات للأسف مسخت مفهوم الجهاد الحق، وأظهر الغلو والتكفير لبني جلدتها من الأمة المؤمنة، فظاهرت عليها وقاتلت بنيها.

أيها المؤمنون: ومن المواقف في غزوة بدر الرمضانية: "طلب المشركين العدالة الربانية".

من عجيب المواقف للتي حدثت في غزوة بدر أن المشركين طلبوا من الله أن يفصل بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالحق، وأن يهزم الله أكثرهم شرا من الفريقين، وقد ذكر الله لنا هذا الموقف في كتابه العزيز في سورة الأنفال، حيث يقول الله تعالى: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)(الأنفال،19).

قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: "(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ (19) الأنفال) يَقُولُ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا) أَيْ: تَسْتَنْصِرُوا وَتَسْتَقْضُوا اللَّهَ وَتَسْتَحْكِمُوهُ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ أَعْدَائِكُمُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَدْ جَاءَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ، مَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عبد الله بن ثعلبة بن صُغَيْر؛ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: اللَّهُمَّ أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ -وَكَانَ ذَلِكَ اسْتِفْتَاحًا مِنْهُ -فَنَزَلَتْ: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَنَّ أَبَا جَهْلٍ قَالَ حِينَ الْتَقَى الْقَوْمُ: اللَّهُمَّ، أَقْطَعُنَا لِلرَّحِمِ، وَآتَانَا بِمَا لَا نَعْرِفُ، فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ، فَكَانَ الْمُسْتَفْتِحَ. وَقَالَ السُّدِّي: كَانَ الْمُشْرِكُونَ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَدْر، أَخَذُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَاسْتَنْصَرُوا اللَّهَ، وَقَالُوا: اللَّهُمَّ انْصُرْ أَعْلَى الْجُنْدَيْنِ، وَأَكْرَمَ الْفِئَتَيْنِ، وَخَيْرَ الْقَبِيلَتَيْنِ. فَقَالَ اللَّهُ: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) يَقُولُ: قَدْ نَصَرْتُ مَا قُلْتُمْ، وَهُوَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وهذا والله موقف عجب، غاية العجب. يدلنا على ثلاثة أمور:

الأول: أن المشركين كانوا يلجأون إلى الله في وقت الشدائد، وأن كفرهم  بالله كان شركا مع الله. فهم كانوا يعرفون أن الله خالقهم، ولكن كانوا يعبدون معه آلهة أخرى.

والثاني: أن عدم إيمانهم بالله وحده، كان موقف مشينا منهم، فهم يعرفون الله بأنه الخالق، وبأنه سيقضي بالعدل بينهم وبين النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك، ما اقتبروا خطوة صحيحة نحو التوحيد وعبادة الله وحده، رغم قربهم الظاهر منها. وهذا ضلال سببه الكبر والتمسك بالعادات وما عليه الآباء.

الثالث: أن نتيجة دعائهم لله وطلبهم منهم بأن يهزم فئة الشر، قد ظهرت ووقعت، وبان لهم من الطرف الخيّر من الطرف الشرير، فكان العقل يدعوهم للرجوع إلى الإيمان الصادق بالله والالتحاق بالفئة المنصورة، لا البقاء مكابرة مع فئة الكفر.

أيها المؤمنون: ومن المواقف في غزوة بدر الرمضانية: موقف"بين المغرورين والعقلانيين".

ظهر في غزوة بد موقفين للكبار سادات المشركين من قريش، عجيبين متضادين، أحدهما: موقف أظهر الغرور والبطر والكبر. وثانيهما: موقف أدبى التعقل والحكمة والخطاب الواقعي.

أما موقف الغرور، فقد كان لطاغية الجاهلية أبي جهل. فقد أرسل أبو سفيان رسالة إلى جيش المشركين الذي خرج لأجل القافلة، يقول لهم فيها: إنكم إنما خرجتم لتحرزوا عيركم ورجالكم وأموالكم، وقد نجاها الله فارجعوا، ولكن أبو جهل في كبرياء وغطرسة قائلا: "والله لا نرجع حتى نرد بدرا، فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا".

وحينئذ قامت معارضة أخرى ضد أبي جهل- المصمم على المعركة- تدعو إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس، وأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش، وسيدها والمطاع فيها، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر؟ قال: وما ذاك يا حكيم؟ قال: ترجع بالناس.

فقام أبو الوليد(عتبة بن ربيعة) خطيبا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب.

وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل- وهو يهيء درعا له- قال يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، فقال أبو جهل: انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا، والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال، ولكنه رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور، وفيهم ابنه- وهو أبو حذيفة بن عتبة كان قد أسلم قديما وهاجر- فتخوفكم عليه.

ولما بلغ قول أبي جهل: "انتفخ والله سحره"، قال عتبة: سيعلم من انتفخ سحره، أنا أم هو؟ وتعجل أبو جهل مخافة أن تقوى هذه المعارضة، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمي- أخي عمرو بن الحضرمي المقتول في سرية عبد الله بن جحش- فقال: هذا حليفك- أي عتبة- يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك، ومقتل أخيك، فقام عامر، فكشف عن أسته، وصرخ: واعمراه، واعمراه فحمي القوم، وحقب أمرهم، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة. وهكذا تغلب الطيش على الحكمة.

هذا الغرور والتيه والعجْب، والكبرياء، لم يكن لصالحه ولا لصالح قومه، فقد قادته هذه الأخلاق الشرهه والعمياء إلى حتفه، ونهايته، وقتله، وتدنيس أنفه بالتراب، وخيبته، وهكذا دائما يصنع الغرور والكبر والخيلاء بصاحبه، مهما عاش لحظات من الوهم الخادع والتعالي الحقير على الآخرين. وكان ينبغي له أن يستمع لصوت رجل قريش وأحد ساداتها عندما نصحه بالعودة، ولكنه عمى البصيرة، ومكر الخالق بالماكرين، فإصراره وعنجهيته أنهت زعامته ووجوده، وخذلته.

وهذه حال، كل من يصغي للمتكبرين، وحمآل كل من يقودهم المتغطرسون، ويسوسونهم، فإنه يجرونهم في نهاية المطاف لما فيه هلاكهم وضياعهم، من أجل أن يشبع هؤلاء المتغطرسون نزواتهم وغرورهم وزهوهم بأنفسهم وذواتهم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد

أيها المؤمنون: ومن المواقف في غزوة بدر الرمضانية: "نهاية رجال أسياد لم يتسفيدوا شئيا".

حينما تكون الخاتمة مدمرة، وحينما لا يجني صاحبها من مسيرته شيئا إلا الخزي والعار والنار، أفلا يكون ذلك مدعاة لنا لنفكر ونعتبر ونقرر، فلا نكرر مسالك هؤلاء.

في كتب السيرة، مما جاء في مواقف غزوة بدر الرهيبة المؤثرة: أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَمَرَ بِبِضْعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَأُلْقُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ(فقذفوا في الْقَلِيبِ). قَالَ: وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، قَالَ: فَلَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ أَقَامَ ثَلَاثَ لَيَالٍ، حَتَّى إِذَا كَانَ الْيَوْمُ  الثَّالِثُ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ، فَشُدَّتْ بِرَحْلِهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، قَالُوا: فَمَا نَرَاهُ يَنْطَلِقُ إِلَّا لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، قَالَ: حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الطَّوِيِّ، قَالَ: فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وَهُوَ يَقُولُ:

يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، يَا عُتْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ وَيَا شَيْبَةُ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيّةُ بْنَ خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، فَعَدّدَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْقَلِيبِ: فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ:

أَسَرَّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللهَ وَرَسُولَهُ؟

هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبّكُمْ حَقّا، فَإِنّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبّي حَقّا ؟

قَالَ عُمَرُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ فِيهَا،( قَالُوا: كَيْفَ تُكَلِّمُ قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا. أَوَ تُنَادِي قَوْمًا قَدْ جَيَّفُوا) قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ"( إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ الْآنَ مَا أَقُولُ لَهُمْ)، وَلَكِنّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أنُ يُجِيبُونِي. قَالَ قَتَادَةُ: " أَحْيَاهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ حَتَّى سَمِعُوا قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنَقِيمَةً"

 قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ يَوْمَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ: (بِئْسَ العَشِيرَةُ كُنْتُمْ لِنَبِيّكُمْ، كَذّبْتُمُونِي وَصَدّقَنِي النّاسُ وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النّاسُ وَقَاتَلْتُمُونِي وَنَصَرَنِي الناس. وخذلتموني ونصرني الناس).

إن هذا الموقف المهيب الرهيب بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين من كانوا يعادونه ويطاردونه ويقاتلونه قبل ساعات وايام وسنوات، فيه عبر وعظات جليلية، منها:

أن الآخرة حق، وأن القبر وعذابه ووعده ووعيده يقين وعقيدة وصدق لا محالة فيه.

وأن الندم ينفع الإنسان في الدنيا، وهو مطلوب ونافع له في الدنيا، ولكنه لا ينفع مطلقا في الآخرة.

وأن اولئك الذين يمضون أعمارهم وأقلامهم وأفكارهم وكتاباتهم وإنجازاتهم في بسل الصد عن سبيل الله، ماذا يستفيدون في تلك اللحظة عندما يتم دفنهم في حفرة تحت الأرض، لا يملكون من أمرهم شيئا. وكم هو الندم والخزي حينما يعلمون هناك في دار الحق واليقين، أنهم كانوا على الضلال، وكان الدعاة على الحق، وأن عداءهم لهم، وللدين، قد أصبح نارا تلظى عليهم.

وقوة يقين الصحابة، وتصديقهم بالغيبيات، حينما كلمّ النبي صلى الله عليه وسلم أولئك الطغاة الذين ماتوا من أيام، وأصبحوا جيفا هامدة، وتصديقهم لقول النبي صلى الله عليه وسلم، حينما قال لهم، بأنه أشد سمعا لما أقول منكم.

حقا، ماذا يستفيد من لا يطيع الله عز وجل.

اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة.

 

المرفقات

1649966407_ثلاثة مواقف عُظمى في غزوة بدر الكبرى.docx

المشاهدات 741 | التعليقات 0