ثق بتدبير الله

إبراهيم بن صالح العجلان
1441/10/19 - 2020/06/11 12:53PM

 

ثِقْ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ20/10/1441هـ

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:

بَعْدَ عَنَاءٍ مِنَ السَّفَرِ الطَّوِيلِ، تَرَكَ نَبِيُّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ، زَوْجَتَهُ وَابْنَهُ الرَّضِيعَ إِسْمَاعِيلَ، فِي أَرْضٍ لَا ثَمَرَ فِيهَا وَلَا مَاءَ، فِي بُقْعَةٍ حَارَّةٍ جَرْدَاءَ، لَا حَيَاةَ فِيهَا إِلَّا صَوْتُ حَفِيفِ الْهَوَاءِ، ثُمَّ قَفَلَ رَاجِعًا مُيَمِّمًا نَحْوَ الشَّامِ، فَلَحِقَتْهُ زَوْجَتُهُ هَاجَرُ تَسْأَلُهُ: آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذَنْ لَا يُضَيِّعُنَا اللَّهُ.

مَا أَجْمَلَ الثِّقَةَ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ، وَمَا أَرْوَعَ التَّسْلِيمَ لِمَا قَضَى اللَّهُ، وَمَا أَحْوَجَنَا فِي زَمَنِ الْأَوْبِئَةِ أَنْ نُعَزِّزَ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْإِيمَانِيَّةَ، الَّتِي غَابَتْ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ النُّفُوسِ الْبَشَرِيَّةِ.

فعَقِيدَتُنَا تُعَلِّمُنَا أَنَّ اللَّهَ لَا يَكْتُبُ شَرًّا مَحْضًا، وَيَقِينُنَا بِرَبِّنَا أَنَّ الْخَيْرَ فِيمَا اخْتَارَهُ اللَّهُ، وَنَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد أرْشَدَنا أَنَّ أَمْرَ الْمُؤْمِنِ كُلَّهُ خَيْرٌ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ.

الثِّقَةُ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَزِيدُ النَّفْسَ صَفَاءً، وَالرُّوحَ نَقَاءً، وَالْإِيمَانَ رُسُوخًا وَبَقَاءً.

إِذَا امْتَلَأَ قَلْبُ الْعَبْدِ رِضًا بِتَدْبِيرِ اللَّهِ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سَكِينَةُ الطُّمَأْنِينَةِ، فَهَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَاطْمَأَنَّ فُؤَادُهُ، وَتَيَقَّنَ حِينَهَا وَبَعْدَهَا أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.

إِذَا قَنِعَ الْعَبْدُ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي كَوْنِهِ وَخَلْقِهِ، عَلِمَ أَنَّ حِكَمَ اللَّهِ تَعَالَى تَأْتِي مَعَ الْبَلَاءِ، وَأَنَّ كُلَّ ألم وعَنَاءٍ لَا يَدُومُ وَلَنْ يَكُونَ لَهُ الْبَقَاءُ، فَمَا بَعْدَ الْعُسْرِ إِلَّا التَّيْسِيرُ، وَكُلُّ أَمْرٍ لَهُ وَقْتٌ وَتَدْبِيرٌ.

دَعِ الْمَقَادِيرَ تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا *** وَلَا تَبِيتَنَّ إِلَّا خَالِيَ الْبَالِ

مَا بَيْنَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا *** يُغَيِّرُ اللَّهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ

حَسَدَ إِخْوَةُ يُوسُفَ أَخَاهُمْ وَأَلْقَوْهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ، وَحَرَمُوهُ مِنْ حَنَانِ الْأُمِّ وَالْأَبِ، وَابْتُلِيَ بِالرَّمْيِ فِي الْبِئْرِ، وَابْتُلِيَ بِالْإِغْرَاءِ فِي الْقَصْرِ، ثُمَّ ابْتُلِيَ بِالسَّجْنِ وَالْقَهْرِ، وَبَعْدَ سِنِينَ مِنَ الْآلَامِ قَالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ، فَجَعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ مِصْرَ، وَأَصْبَحَتْ عُيُونُ النَّاسِ تَرْمُقُ يُوسُفَ وَتَطْلُبُ وُدَّهُ.

خَافَتْ أُمُّ مُوسَى عَلَى وَلِيدِهَا مِنْ بَطْشِ الطُّغْيَانِ، الَّذِي يَقْتُلُ الْأَبْنَاءَ وَالصِّبْيَانَ، فَأَلْقَتْهُ فِي الْيَمِّ، فَسَاقَهُ الْيَمُّ إِلَى بَيْتِ مَنْ خَافَتْ مِنْهُ عَلَيْهِ، لِيَكُونَ هَذَا الْوَلِيدُ سَبَبًا لِزَوَالِ فِرْعَوْنَ، وَلِيَرَى هُوَ وَهَامَانُ وَقَارُونُ وَجُنُودُهُمَا مِنْهُ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ.

زَفَرَتْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ كَلِمَاتِهَا وَهِيَ تُعَالِجُ أَلَمَ الْمَخَاضِ: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا، وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، وَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ فِي بَطْنِهَا رَسُولًا نَبِيًّا.

فَقَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّهُ وَزَوْجَهُ فِي عَامٍ، وَرُمِيَ بِسَلَا الْجَزُورِ عَلَى ظَهْرِهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَمَا قَامَ، وَأُخْرِجَ بَعْدَهَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَآوَى إِلَى الْغَارِ، تُلَاحِقُهُ عَدَاوَةُ وَمَطَامِعُ الْمُعْتَدِينَ وَالْكُفَّارِ، لِيَعُودَ إِلَيْهِمْ بَعْدَ سَنَوَاتٍ فَاتِحًا عَزِيزًا، وَمُمْتَنًّا عَلَيْهِمْ وَكَرِيمًا.

ضَاقَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَجعل عُمَرُ يُجَادِلُ وَيُرَاجِعُ: لِمَ نُعْطِ الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟! حَتَّى كَادَ النَّاسُ يَقْتُلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لَمَّا حَلَقُوا رُؤُوسَهُمْ حُزْنًا وَغَمًّا، فَنَزَلَت البِشَارةُ من الرُّوحُ الْأَمِينُ، بِقَوْلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا).

فَثِقْ يَا عَبْدَ اللَّهِ أَنَّ كُلَّ مَا قَدَّرَ اللَّهُ فَهُوَ حَتْمٌ حَاصِلٌ، لَا يَرُدُّهُ قَلَقٌ، وَلَا يَجْلِبُهُ حِرْصٌ، فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ حَسَرَاتٍ عَلَى رِزْقِكَ، وَلَا يَمْتَلِئْ وِجْدَانُكَ كَدَرًا خَوْفًا عَلَى أَجَلِكَ.

ثِقْ أَنَّ الرَّزَايَا وَالْبَلَايَا تَحْمِلُ فِي طَيَّاتِهَا الْعَطَايَا، وَأَنَّ الْأُمْنِيَاتِ تَأْتِي بَعْدَ الْمَشَاقِّ وَالْمَتَاعِبِ، وَإِنْ طَالَ أَمَدُهَا سَتَأْتِي فِي الْوَقْتِ الْمُنَاسِبِ.

ثِقْ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ لَكَ، وَتَيَقَّنْ أَنَّ كُلَّ قَدَرٍ مَكْتُوبٌ، فَهُوَ خَيْرٌ وَإِنْ خَالَفَ مَا هُوَ مَحْبُوبٌ، فَقَدْ يَكُونُ مَوْتُ الصَّدِيقِ أو الْقَرِيبِ، وَاعِظًا لِتَرْجِعَ وتصحح مسارك قبل أن تفارق كل حبيب.

قَدْ يَكُونُ الدَّخْلُ الْقَلِيلُ فِي مَالِكَ، جَامِحًا لِشَهَوَاتِكَ وَأَهْوَائِكَ.

قَدْ يَأْتِي الْمَرَضُ فِي بَدَنِكَ، لِيُبَلِّغَكَ اللَّهُ دَرَجَاتٍ فِي الْجَنَّةِ لَا يَبْلُغُهَا عَمَلُكَ.

وَقَدْ يَكُونُ الْمَنْعُ خَيْرًا لَكَ مِنَ الْعَطَاءِ، (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ).

فَلَا تَعْترضْ شَيْئًا مِنْ قَدَرٍ اللهِ، وَوَطِّنْ نَفْسَكَ، وَرَطِّبْ لِسَانَكَ بِالشُّكْرِ وَالتَّحْمِيدِ عَلَى كُلِّ أَمْرٍ مُؤْلِمٍ وَشَدِيدٍ.

فَلَوْلَا الشَّدَائِدُ لَمَا عَرَفَ النَّاسُ قِيمَةَ الرَّخَاءِ.

وَلَوْلَا الْجَدْبُ لَمَا اسْتَبْشَرَ الْبَشَرُ بِالْمَاءِ.

وَلَوْلَا الظَّلَامُ مَا فَرِحَ النَّاسُ بِالضِّيَاءِ.

وَلَوْلَا الْمَخَاوِفُ لَمَا عُرِفَتْ لَذَّةُ الْأَمَانِ.

وَلَوْلَا الْمصائِبُ لَوَرَدَ النَّاسُ لِرَبِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَفَالِيسَ.

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ...

 

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعْدُ فيا أيها الكرام: كُلُّ مَخْلُوقٍ مُعَرَّضٌ لِلْمُكَدِّرَاتِ وَالْمُنَغِّصَاتِ، وَلَنْ تَسْلَمَ نَفْسٌ مِنَ الْفِتْنَةِ وَالِابْتِلَاءَاتِ، قَلَّ ذَلِكَ، أَمْ كَثُرَ، صَغُرَ أَمْ كَبُرَ، وَبِحَسْبِ مَا فِي الْقُلُوبِ وَالْجَنَانِ، يَكُونُ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ، وَإِذَا سَلِمَ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ، فَكُلُّ مَفْقُودٍ قَدْ صَغُرَ وَهَانَ.

فَيَا عَبْدَ اللَّهِ مِنْ أَجْلِ نَفْسِكَ، مِنْ أَجْلِ رَاحَتِكَ، مِنْ أَجَلْ سَعَادَتِكَ فِي مُسْتَقْبَلِكَ ثِقْ بِتَدْبِيرِ اللَّهِ، وَكُنْ مَعَ اللَّهِ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، حَتَّى وَإِنْ ضَاعَتْ مِنْكَ الدُّنْيَا كُلُّهَا وَأَنْتَ تَتَلَمَّسُ رِضَا اللَّهِ فَمَا ضِعْتَ، وَإِنْ حُزْتَ الدُّنْيَا بِزُخْرُفِهَا وَأَنْتَ تَتَلَمَّسُ سُخْطَ اللَّهِ فَقَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ وَمَا رَبِحْتَ.

وَإِذَا أُصِبْتَ بِأَيِّ بَلِيَّةٍ أَوْ لَفَّكَ الْهَمُّ قَلَقًا مِنْ حُصُولِهَا، فَهَوِّنْهَا بِثَلَاثٍ: أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي دِينِكَ، وَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ أَعْظَمَ مِمَّا كَانَتْ، وَأَنَّ اللَّهَ يَجْزِي عَلَيْهَا الْجَزَاءَ الْكَبِيرَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ عَنَاءَكَ وَدَعَوَاتِكَ، وَنَصَبَكَ وَأَزَمَاتِكَ لَنْ تَضِيعَ، وَإِنَّمَا سَتَأْتِي فِي الْيَوْمِ الْجَمِيلِ، أَوْ سَيَدَّخِرُهَا لَكَ رَبُّكَ بَعْدَ يَوْمِ الرَّحِيلِ (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).

لِلَّهِ فِي الْخَلْقِ مَا اخْتَارَتْ مَشِيئَتُهُ *** مَا الْخَيْرُ إِلَّا الَّذِي اخْتَارَهُ اللَّهُ

إِذَا قَضَى اللَّهُ فَاسْتَسْلِمْ لِقُدْرَتِهِ *** مَا لِامْرِئٍ حِيلَةٌ فِيمَا قَضَى اللَّهُ

تَجْرِي الْأُمُورُ بِأَسْبَابٍ لَهَا عِلَلٌ  *** تَجْرِي الْأُمُورُ عَلَى مَا قَدَّرَ اللَّهُ

إِنَّ الْأُمُورَ وَإِنْ ضَاقَتْ لَهَا فَرَجٌ *** كَمْ مِنْ أُمُورٍ شِدَادٍ فَرَّجَ اللَّهُ

إِذَا ابْتُلِيتَ فَثِقْ بِاللَّهِ وَارْضَ بِهِ *** إِنَّ الَّذِي يَكْشِفُ الْبَلْوَى هُوَ اللَّهُ

صَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ....

المرفقات

ثق-بتدبير-الله-مشكولة

ثق-بتدبير-الله-مشكولة

المشاهدات 4167 | التعليقات 2

بارك الله فيك ياشيخنا على هذه الخطبة التي يحتاجها الناس في هذالوقت نفع الله بها وكتب لك الأجر


مرحبا شيخ إبراهيم ، ونفع الله بكم ,, تحياتي لكم