توفيق وخذلان 1

أيها الناس: إذا تأملنا اختلافَ أفهامِ الناس،وتفاوتَ مداركِهم، وتوزعَهم ما بين ذَكِي فَطِنٍ فَهِمٍ زَكِنٍ نَدُسٍ،ومن تضعف فيهم هذه الصفات إلى أن تصل إلى بَلِيد فَدْمٍ غَبِي أَبْلَه غَافِل،ثم نظرنا إلى تفاوت هؤلاء وهؤلاء في الاستقامة على الشرع ولزوم الطاعة، ووجدنا أن أذكياء الناس فيهم التقيُّ والفاجر الشقي، وكذلك السُذَّجُ الأغبياء فيهم البر والفاجر،وكذا حالُ مَنْ بين الاثنين-دَلَّك هذا على أن هداية التوفيق بيد الله وحده، يَمُنُّ بها على من يشاء،والله أعلم حيث يجعل فضله،﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾. ويتساءل المرءُ بعد ذلك:ما بالُ هذا التنوع في دنيا الناس وما مَنْشَؤه؟!أليس لكلِّ منهم قلبٌ وعقْل وفَهْم؟!أليسوا يسمعون ويبصرون؟!وحينئذ يأتيك الجوابُ من طرفٍ خَفِيٍّ: بلَى،إنهم لكذلك،وقد يملك بعضُهم من القدرات ما يعجز عنه الآلاف من الناس،ولكنَّه التوفيق والخذلان،نعم،إنه توفيق الله لمن عَلِمَ فيه الخير،وخذلانه لمن عَلِمَ أنه دون ذلك. التوفيق نِشدة الحصيف وغاية طلبه؛حين تسدد خطاه،ويُهدى إلى سبيل قويم يصيب القصد بأقرب طريق وأيسرِه. إنه مطلب المؤمنين،ورجاء العابدين،وحِلية العارفين؛ يقول الله تعالى:﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾
قال الإمام ابن القَيِّم رحمه الله:"وقد أجمعَ العارفون بالله أن التوفيق:هو ألا يَكِلَك الله إلى نفسك،وأنَّ الخذلان هو أن يخلي بينك وبين نفسك،فالعبيد متقلِّبون بين توفيقه وخذلانه،بل العبد في الساعة الواحدة ينالُ نصيبه من هذا وهذا،فيطيعه ويرضيه،ويذكره ويشكره بتوفيقه له،ثم يعصيه ويخالفه، ويسخطه ويغفْل عنه بخذلانه له،فهو دائرٌ بين توفيقه وخذلانه ،فإنْ وَفَّقه فبفضله ورحمته،وإنْ خَذَلَه فبِعَدْله وحِكْمته،وهو المحمود على هذا،وهذا له أتمُّ حمد وأكْملُه،ولم يمنعِ العبد شيئًا هو له،وإنما منعَه ما هو مجرَّد فضله وعطائه،وهو أعلمُ حيث يضعه وأين يجعلُه. ومعنى التوفيق:إصابة الحق،ونيل المُبتَغى،والوصول إلى رضا الله تعالى؛حيث تصير حياة المؤمن سعادة ورضا وأمنًا وخيرًا كلُّها؛لا تُغيِّرها الفتن،ولا تَعصِف بها وساوسُ شياطين الإنس والجن،فيَثبُت المؤمن على عقيدته،ويرضى بقضائه، ويحمد ربَّه في سرَّائِه وضرَّائِه. ومن أظهر صور التوفيق توفيق الله لأخص خلقه وأعظمهم وأشرفهم صلى الله عليه وسلم ومن ذلك توفيقه لاختيار الفطرة عندما عُرض عليه ثلاثة أقداح اللبن والعسل والخمر، فاختار نبيُّنا المختار صلى الله عليه وسلم اللبنَ،عن قتادة عن أنس قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(رُفعت لي السدرة،فإذا أربعة أنهار؛نهران ظاهران،ونهران باطنان؛فأما الظاهران،فالنيل والفرات،وأما الباطنان،فنهران في الجنة، وأُتيت بثلاثة أقداح:قدح فيه لبن،وقدح فيه عسل،وقدح فيه خمر،فأخذت الذي فيه اللبن،فقيل لي:أصبت الفطرة)رواه البخاري. قال النووي:"ألهمه الله تعالى اختيار اللبن؛لما أراده سبحانه وتعالى من توفيق هذه الأمة واللطف بها".اهـ
ومن صور التوفيق توفيق الله لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي صور لا يمكن حصرها ولا عدها في مثل هذا المقام ولكن حسبنا أن نشير إلى موقف أو موقفين،إذ الصحابة كلهم موفقون،لكنهم في التوفيق متفاوتون،فليس توفيق الله لأبي بكر الصديق كتوفيق عمر رضي الله عنه ،فضلاً عن غيره من الصحابة،قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدق وواساني بنفسه وماله فهل أنتم تاركوا لي صاحبي"رواه البخاري فانظر كيف وفق الله أبا بكر الصديق رضي الله عنه لتصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أول من أسلم معه، وواساه بنفسه وماله،"ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا". أما عمر رضي الله عنه وتوفيق الله له فالحديث عنه حديث ذو شجون،عمر العبقري الفذ أوتي ذكاءً مبدعاً متوقداً،وفقه له ربه فكانت الحكمة تخرج من نواحيه،ولن يأتي أحد بعده مثله،من توفيق الله لعمر رضي الله عنه موافقته للقرآن في مواضع أخرج الشيخان عن عمر قال:"وافقت ربي في ثلاث،قلت:يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت: "وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى"وقلت:يا رسول الله يدخل على نسائك البر والفاجر فلو أمرتهن يحتجبن فنزلت آية الحجاب،واجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة فقلت"عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن" فنزلت كذلك.
فاسأل نفسك عبدالله:هل لك نصيب من توفيق الله؟
بارك الله ولكم،،،
الخطبة الثانية: صور توفيق الله لعباده في زماننا هذا كثيرة جداً ولله الحمد،فمن ذلك توفيق الله لعمار المساجد المشيدين لها الباحثين عن احتياجاتها،في زمان أمسك فيه كثير من التجار والأغنياء عن الإنفاق.
ومنها:توفيق الله للمحسنين الباذلين أموالهم للضعفاء والمحتاجين والأرامل والمساكين في زمان تظاهر فيه كثير ممن يملكون ويكنزون بأنهم لا يجدون ما ينفقون!
ومنها:توفيق الله للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر يوم خذل عنه كثير من الخلق . أما عن الأسباب الجالبة لتوفيق الله،إن أردت أن تكون من الموفَّقين،فعليك بما يلي:
أولًا:الإخلاص وصدق النية وصلاحها:قال تعالى في من يصلح بين الزوجين (إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما)فعندما أصلحا النية وأخلصا في الصلح وفق الله . قال بعضُ السلف: فواتحُ التقوى حُسْن النيَّة،وخواتيمها التوفيق،والعبد فيما بين ذلك بين هَلَكات وشُبُهات،ونفْس تحطب على شلوها،وعدو كائد غير غافلٍ ولا عاجز،ثم قرأ:﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾
ثانياً:التوكل على الله والإنابة إليه:قال الله تعالى عن شعيب عليه الصلاة والسلام :﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾فإذا وفَّق الله العبد،اجتباه ويسَّر له أبواب الخير يضرب بسهم في كل باب توَّاقًا منهومًا،مستسهلًا للصعاب، طارحًا للعقبات. ثالثاً:عليك بالصدق«إن الصدق يهدي إلى البر،وإن البر يهدي إلى الجنة»رواه البخاري ومسلم. قال ابن القيم:"ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة؛فيصدقه في عزمه وفي فعله،قال تعالى:﴿فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ﴾فمن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره،وأصدق الناس من صح إخلاصه وتوكله ". وفي قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة قالوا كما روى البخاري في صحيحه"إنه-يا هؤلاء-لا ينجيكم إلا الصدق؛فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه!"رزقني الله وإياكم التوفيق في القول والعمل. ثم صلوا وسلموا،،،
المشاهدات 989 | التعليقات 0