توحيدٌ و وحدةٌ 1445/3/7ه

يوسف العوض
1445/03/06 - 2023/09/21 10:02AM
الخطبة الأولى
 
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: إِنَّ مِنْ أَعْـظَمِ نِعَمِ اللهِ عَلَيْـنَا هَذَا الوَطَنَ الَّذِي نَتَفَيَّأُ ظِلالَهُ، وَنَعِيشُ أَجْوَاءَهُ، وَنَتَنَفَّسُ هَوَاءَهُ، نَجِدُ فِيهِ مَعْـنَى السَّكِينَةِ، وَحَقِيقَةَ الطُّمَأْنِينَةِ، فِيهِ تَتَّصِلُ أَمْجَادُ الأَجْدَادِ بِالأَحْـفَادِ، وَتَتَلاحَمُ قُلُوبُ الجَمَاعَاتِ وَالأَفْرَادِ. لَقَدْ أَكْرَمَنَا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِوَطَنٍ ضَارِبَةٍ جُذُورُ مَجْدِهِ فِي أَرْضِ التَّأْرِيخِ، وَبَاسِقَةٍ غِرَاسُ تَسَامُحِهِ وَسِلْمِهِ فِي سَمَاءِ العِزِّ، قَدْ أَرْخَى اللهُ فِيهِ رِدَاءَ الأَمْنِ، وَقَوَّى بُنْيَانَ وَحْدَتِهِ، وَفَتَحَ عَلَيْـنَا أَبْوَابَ رِزقِهِ، فَلَهُ تَعَالَى الحَمْدُ وَالمِنَّةُ، إِنَّ الوَطَنَ -عِبَادَ اللهِ- إِذَا اجتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ النِّعَمُ فَقَدْ حَازَ أُسَّ الرَّخَاءِ، وَنَالَ قِوَامَ الحَضَارَةِ، أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلَ -عَلَيْهِ السَّلامُ- يَوْمَ أَنْ دَعَا رَبَّهُ لِيُهَـيِّئَ بِمَكَّةَ أَسْبَابَ السَّعَادَةِ قَالَ: ” رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ “، فَوَطَنٌ فِيهِ قُوتٌ وَرِزقٌ، وَتَوْحِيدٌ وَوَحْدَةٌ، وَأَمْـنٌ وَإِيمَانٌ، لَهُوَ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ اللهِ تَسْـتَوْجِبُ الشُّكْرَ، وَمِنَّةٌ تَسْـتَدْعِي الحَمْدَ. إِنَّ وَطَنَنَا المُبَارَكَ هَذَا -عِبَادَ اللهِ- لَيَسْـتَحِقُّ مِنَّا التَّمَسُّـكَ بِهِ، وَالاعتِزَازَ بِالانتِمَاءِ إِلَيْهِ، وَصَوْنَ مُقَوِّمَاتِهِ وَإِنْجَازَاتِهِ، وَالعَمَلَ الدَّؤُوبَ لأَجْـلِ رِفْعَتِهِ وَعِزَّتِهِ؛ وَلْتَعْـلَمُوا أَنَّ مَحَبَّةَ الوَطَنِ وَالحِفَاظَ عَلَى أَمَانَتِهِ لَيْسَتْ شِعَارَاتٍ مُجَرَّدَةً، وَلا عِبَارَاتٍ جَوْفَاءَ، بَلْ لا بُدَّ أَنْ تَتَغَلْغَلَ فِي القَلْبِ إِيمَانًا، وَتَسْـكُنَ فِي النَّفْسِ اقتِنَاعًا، وَتُتَرْجِمَهَا الجَوَارِحُ وَالطَّاقَاتُ سُلُوكًا وَعَمَلاً، وَإِنَّنَا لَنَجِدُ -عِبَادَ اللهِ- فِي سِيرَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَصَحْـبِهِ أَسْمَى الأَمْـثِلَةِ لِحُبِّ الوَطَنِ المُتَعَمِّـقِ فِي القَلْبِ، وَلِتَرْجَمَتِهِ فِي الوَاقِعِ عَمَلاً وَبِنَاءً، فَالمُصْـطَفَى صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أَنْ أَسْـكَنَهُ اللهُ المَدِينَةَ وَرَضِيَهَا لَهُ وَطَنًا، سَكَنَ قَلْبَهُ حُبُّهَا، وَعَظُمَتْ فِي نَفْسِهِ مَكَانَتُهَا، رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَأَبْصَرَ دَرَجَاتِ المَدِينَةِ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ – أَيْ أَسْرَعَ بِهَا- وَإِنْ كَانَتْ دَابَّةً حَرَّكَهَا)، بَلْ إِنَّ ذَلِكَ الحُبَّ تَفَاعَلَ فِي نَفْسِهِ صلى الله عليه وسلم فَأَحَبَّ المَدِينَةَ بِكُلِّ مَا فِيهَا، حَتَّى قَالَ عَنْ أُحُدٍ وَهُوَ جَبَلٌ أَصَمُّ: ((هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ))، وَلَقَد تَرْجَمَ المُصْـطَفَى ذَلِكَ الحُبَّ وَاقِعًا مُعَايَشًا، فَأَقَامَ فِي المَدِينَةِ أَسَاسَ العَدْلِ وَبَنَى فِيهَا دَوْلَةَ الإِسْلامِ، وَكَانَ مِنْ خَلْفِهِ صَحَابَتُهُ الكِرَامُ يُتَرْجِمُونَ حُبَّهُمْ لِهَذَا الوَطَنِ سَعْيًا وَعَمَلاً، وَدِفَاعًا وَحِفْظًا، وَتَكَافُلاً وَتَآلُفًا، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-، وَكُونُوا لِوَطَنِكُمْ هَذَا خَيْرَ بُنَاةٍ، وَلِمُقَوِّمَاتِهِ وَأُسُسِهِ حُمَاةً، رَاعُوا نُظُمَهُ وَقِيَمَهُ، وَأَوْفُوا بِجَمِيعِ حُقُوقِهِ.
 
الخطبة الثانية
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ: إِنَّ مَحَبَّةَ الوطَنِ تَقْتَضِي عَدَمَ الإتْيَانِ بِمَا مِنْ شَأنِهِ المِسَاسُ بِوَحْدَتِهِ وَلُحْمَتِهِ، فَالتَّفْرِقَةُ والتَّشَرْذُمُ -لأَيِّ اعْتِبَارٍ كَانَتْ- وَبَالٌ وَمَهْلَكَةٌ، لأَجْلِ ذَلِكَ حَذَّرَ اللهُ عزَّ وَجَلَّ مِنْهَا كَثيرًا فِي كِتَابِهِ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: ” وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ “، وَقَدْ أَخْبَرَ المُصْطَفَى فِي أَكْثَرِ مِنْ مَوقِفٍ عَلَى أَهَمِّـيَّةِ التَّآلُفِ وَخُطُورَةِ التَّفْرِقَةِ وَالتَّنَازُعِ، مِنْ ذَلِكَ قَولُهُ صلى الله عليه وسلم : ((أَلا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلاةِ وَالصَّدَقَةِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: صَلاحُ ذَاتِ البَيْنِ، فَإِنَّ فَسَادَ ذَاتِ البَيْنِ هِيَ الحَالِقَةُ))، فَكَمْ أُهْـلِكَتْ مِنْ قَبْلِنا أُمَمٌ بِسَبَبِ تَنَازُعِهِا، وَامَّحَتْ حَضَارَاتٌ بِسَبَبِ تَفَرُّقِ أَهْـلِهَا. إِنَّ أَوَّلَ نَوَاةٍ لِبِنَاءِ الوَطَنِ وَقِيَامِ الدَّوْلَةِ وَتَأْسِيسِ الحَضَارَةِ هِيَ الوَحْدَةُ والتَّكَافُلُ والتَّآلُفُ بَيْنَ أَفْرَادِ المُجْـتَمَعِ، وَهَذَا مَا حَرَصَ عَلَيْهِ نَبِيُّنَا الكَرِيمُ صلى الله عليه وسلم وَهُو يَضَعُ أُسُسَ الدَّوْلَةِ المُسْلِمَةِ فِي المَدِينَةِ، فَآخَى بَينَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَوَضَعَ وَثِيقَةَ المَدِينَةِ، وَبَثَّ رُوحَ التَّآلُفِ وَالمَحَبَّةِ ، فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وقِفُوا صَفًّا واحِدًا فِي وَجْهِ كُلِّ مُرْجِفٍ، وَتَنَبَّهُوا لِسَعْيِ كُلِّ مُفْسِدٍ، اغْرِسُوا فِي أَبنَائِكُمْ حُبَّ الوَطَنِ وَالاعتِزَازَ بِإِنْجَازَاتِهِ الحَاضِرَةِ وَمَجْدِهِ التَّلِيدِ، حَتَّى يُحَقِّقُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَعْنَى المُوَاطَنَةِ الصَّالِحَةِ، فَهُمْ أَمَلُ الوَطَنِ وَبُنَاةُ الغَدِ.
المشاهدات 992 | التعليقات 1

مستفادة