توجيهات من الفاتحة . أ.أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف

الفريق العلمي
1442/02/25 - 2020/10/12 08:47AM

افتتح الله -سبحانه وتعالى- كتابه المهيمن المحفوظ بسورة الفاتحة، وهي سبع آيات خصّها بالذكر والمنّة دون غيرها من سور القرآن العزيز ووصفها بالسبع المثاني، وفي هذا الاختصاص دلالات وإشارات، منها أن الفاتحة شملت كلّ موضوعات القرآن، وأنه من الحكمة أن تكون مقدمة أيّ أمر عظيم قصيرة جامعة لأعظم المسائل خلافًا لما يفعله بعض من يكتب مقدمة أو يلقيها.

 

كما أن لهذه السورة العظيمة المختصرة إشراقات وتوجيهات في جميع آياتها، ولأن المقام مقام اختصار فسوف أشير لأهم ما يتبادر لذهن القارئ حين يتلو تلكم الآيات البينات العظيمات، إذ تبدأ بتوضيح أهمية ذكر الله والتسمية به عند ابتداء أيّ أمر ليس حرامًا ولا مكروهًا، وللبسملة أحكام تختلف حسب كلّ عمل من الوجوب إلى الإباحة، والسعيد من وفق لجعل كلمة "بسم الله" على لسانه دومًا يستجلب بها البركة، ويدفع بقوتها الشياطين.

 

ثمّ يلي البسملة التنبيه إلى فضيلة حمد الله وشكره على جميع الأحوال، وفي الحمد استكانة للربّ الجليل مع الرضى بالقضاء أيًا كان وتلك من أعظم مقامات عبودية القلب وأسناها، ومن اللطائف أن الحمد يجتمع مع البسملة في مواضع متكررة من الأعمال الدورية مثل قراءة كتاب، أو كتابة بحث، أو إجراء عملية، أو إصلاح جهاز، أو اختبار تجربة، أو تدريب على جديد، أو تناول اللذائذ، ولذا قال بعض أهل الحكمة بأن الطعام يكمل إذا جمع أربعًا أولها التسمية وآخرها الحمد وبينهما كثرة الأيدي على المأكول الحلال، وهي مقولة يمكن أن تشمل غير الأكل والشرب.

 

كذلك تدلنا هذه الآيات الشريفة إلى سعة رحمة الله الرحمن الرحيم، ومن أدرك هذه السعة والشمولية فأنى لليأس والقنوط من طريق إلى قلبه وعقله؟! وهي رحمة عريضة مستمرة في الدنيا والبرزخ واليوم الآخر الذي ليس لأحد فيه من ملك أو أمر أو سلطة، فربنا ومولانا بدلالة هذه السورة الفاتحة هو فقط مالك يوم الدين، وهو يوم عدل وقصاص وفضل ومكرمات وغفران، والله يعيذنا فيه من العقاب والعذاب، وجدير بمن يؤمن بهذا اليوم أن يستعد له بصواب الاعتقاد، وحسن العمل، وسلامة القصد.

 

وحتى يصلح شأن الإنسان في دنياه وآخرته، فإن سر تحقيق ذلك يكمن في عبادة الله في كلّ عمل يؤديه المرء ولو كان من لوازم معيشته ودنياه وشهواته المباحة، ثمّ يستعين بالقوي القادر على ذلك وعلى نيل جميع محبوباته والظفر بإنجاز أهدافه، ومن كان الله في عونه فلن يحاصره الخذلان، ولن تقوى عليه الإنس والجن ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، ولما في هذه الآية من حكم باهرة جعلها الإمام ابن القيم أساس كتابه العظيم "مدارج السالكين" الذي حظي بعناية الأمة قراءة وتحقيقًا وتهذيبًا وتقريبًا.

 

بعد هذه الاعترافات والابتهالات والثناء والتمجيد للحكيم العليم، وإعلان الضعف بين يدي الله الكبير المتعال، يدلف العبد إلى ساحة سؤال الكريم الوهاب الرؤوف، فيطلب منه أعظم ما يشغل بال المؤمن بالبعث والنشور، وهو أن يهديه الله في الدنيا إلى الطريق الواضح الذي يحبه خالقه ويرضاه، كي يعبر على الصراط المستقيم الحاد المحاط بلهب النار وكلاليب جهنم في يوم عصيب عبوس شديد؛ فاللهم سلّم سلّم.

 

ثمّ يؤكد العبد المشفق سؤاله بأنه طريق سار عليه قوم جدير بأن يُقتدى بهم، وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وليس والله من رفقة أعظم من مصاحبة هؤلاء، والعياذ بالله من حال الذين غضب الله عليهم من اليهود ومن شابههم ممن زاغ عن علم، أو حال الضالين من النصارى ومن ماثلهم ممن غوى وإن ترهبن، وفي هذا الاهتداء براءة من التشبه بالعصاة والكافرين، ويكفي للنفور منهم حيدتهم عن طاعة الله سبحانه، وما دمغتهم به هذه السورة من غضب وضلالة.

 

إن هذه السورة منهاج حياة، ومنجاة في الدنيا والآخرة، وفي اتباعها بعد العلم بها تحصيل للسعادة والأنس، فاللهم اجعلنا ممن علم حكمها ومعانيها، وسار على مراد الله فيها وفي بقية الكتاب العزيز، حتى نُقبِل على ملاقاة ربنا وهو راضٍ عنّا غير غضبان، فيعفو ويغفر ويتقبل ويضاعف بفضل منه وإحسان، فاللهم استجب لنا ولعبادك قرّاء الفاتحة في صلواتهم المفروضة والراتبة والنافلة.

ahmalassaf@

السبت 03 من شهرِ محرم عام 1442

22 من شهر أغسطس عام 2020م

المشاهدات 501 | التعليقات 0