(تَنصَّرتِ الأشرافُ من عَارِ لَطْمةٍ) الجمعة الرابعة شهر ذي القعدة 1441/11/26هـ

يوسف العوض
1441/11/21 - 2020/07/12 14:53PM

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَهُوَ بِالْحَمْدِ جَدِيرٌ ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشكُرُهْ أَعْطَى الْجَزِيلَ ومنحَ الوفيرَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَنَزَّهَ عَنْ الشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا محمدًا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ ، الْبَشِيرُ النَّذِيرُ ، وَالسِّرَاجُ الْمُنِيرُ ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ ومَنْ تَبِعَهُم بِإِحْسَانٍ ، ومَنْ عَلَى نَهْجِ الْحَقِّ يَسِير ، وَسَلَّم التَّسْلِيم الْكَثِيرَ ، أَمَّا بَعْدُ :

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : الكِبْرُ من أوَّل الذنوبِ التي عُصي اللهٌ تبارك وتعالى بِها ، قال اللهُ تعالى مبيِّنًا سببَ امتناعِ إبليسَ عن السجودِ لآدمَ : ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ))  وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رضي الله عنه -: عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  قَالَ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ، قَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً؟ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ)) رواه مسلم.
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : ( فَسَّرَ النَّبيُّ الكِبْرَ بِضِدِّه فَقَال : الكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاس ، فَبَطَرُ الْحَقِّ : رَدَّه وَجَحَدَه ، وَالدَّفْعُ فِي صَدْرِهِ ، كَدَفْعِ الصَّائِلِ ، وَغَمْطُ النَّاسِ : احْتِقَارُهُم ، وَازْدِرَاؤُهُم ، وَمَتَى احتقرَهم وازدراهم : دَفَعَ حُقُوقَهَم وَجَحَدَهَا وَاسْتَهَان بها ) .
وَهاهُنَا قِصَّةٌ تُبَيَّنُ لَنَا كَيْفَ يَرْدُّ الْإِنْسَانُ الْحَقِّ وَيَحْتَقِرُ النَّاسَ ويَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْه بِسَبَبِ الْكِبْرِ !! وَهِيَ قِصَّةُ جَبَلَةَ بْنِ الْأَيْهَمِ ! فَمَنْ يَكُون جَبَلَةُ ؟؟ وماهي قِصَّتُه ؟؟ .أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : جَبَلةُ بنُ الأيهَمِ بن جَبَلةِ بن الحارثِ بن أبي شَمَّر، وأُمُّهُ هي مارِيَّه ذاتُ القِرطَين ، كانَ من أشرافِ العربِ وأكثرهِم عطاءً ، وكان من ملوكِ آل جَفنَة إحدى قبائلِ العرب النّصارى ، كانَ آخِرَ ملوكِ الغَسَاسِنة ، حكَمَ ستّ سنوات ، وكان يحكم نصارى العَرَب الذينَ كانوا مُتَحالفين مع الرّومِ قبل الإسلام.
ومِمَّا يُروى عن قِصَّتهِ أنَّ جبلةَ بنَ الأيهمِ بن أبي شمر الغساني لما أرادَ أنْ يُسْلِم، كتبَ إلى عمر بن الخطاب من الشام يُعلِمَه بذلك، ويَستأذِنَهُ في القدومِ عليه؛ فَفرِحَ بذلك عمرُ رضي الله عنه والمسلمون ، فكتب إليه الفاروق:” أنْ أقْدُم لكَ ما لنا، وعليك ما علينا”.فيخرجُ جبلة من بلاده في أرضِ الشّامِ في خَمسِمائة فارس من قبيلتي( عَكّ وجَفنة) ، فلمّا دنا واقتربَ من المدينةِ المنورة ألبَسَهُم الثّيابَ المُوشّاةَ والمنسوجةَ بالذَّهبِ والفِضّة ، ولِبسَ جَبَلةُ تَاجَهُ وفيه قِرطُ أمّهِ ماريّةَ ويدخل المدينةَ المنورةَ فلم يَبقَ بها أحدٌ ، إلا خرج ينظرُ إليه حتى النّساءُ والصِّبيانُ ، فلمّا وصلَ إلى عمرَ بنِ الخطّابِ رَحَّبَ به وأدْنَى مَجلِسَه منه ، ثمَّ أرادَ عمرُ الحجَّ فخرجَ معه جَبَلةُ إلى مكةَ.
فبينما هو يطوفُ حولَ الكعبةِ ، إذ وَطِئَ على إزَارهِ ؛ أيْ على ثِيابهِ ، رجلٌ فقيرٌ من بني فُزَارة إحدى قبائلِ العربِ كان يطوفُ حولَ الكعبة هو أيضاً ، فَسقطَ الإزارُ عن جسَده ، فالتفتَ إليه جَبلة مُغاضِباً ومُوبِّخاً ، ثمَّ لَطَمهُ فَهشَّمَ أنفَه ، فقام الفُزارِيّ يشكوه إلى عمرَ بنِ الخطاب  فيبعثُ الفاروقُ إليه في الحالِ يأتوا به على عُجالةٍ ، فيقول: ما دَعَاكَ يا جَبَلةُ أنْ تلطمَ أخاكَ الفُزاريّ فَهشّمتَ أنفَه ! فقال: إنَّه وَطِيء إزاري فَحَلَّهُ وسقطَت عباءتي، ولولا حُرمةُ البيت الحرام لضربتُ الذي فيهِ عَيناه ، أي رأسَه فقال له عمر : أمّا فقَدْ أقْرَرتَ ، فإمّا أنْ تُرضِيه وإلا أقْدّتُهُ منك،  أي جعلتُهُ يأخذُ حقّهُ منك ؛ فقال: أيستَقِدُّ مني وأنا مَلِكٌ وهو سُوقةُ ، أي عبدٌ من العبيد ! فقال عمر لجَبَلةَ : إنّه قدْ جَمَعكَ وإيّاهُ الإسلامُ ، فمَا تَفْضلُهُ بشيءٍ إلا بالتّقوى والعافيةِ ، يا ابنَ  الأيهمِ نزواتُ العَنجهيّة ، ورياحُ الجاهليّة قد دَفنَّاهَا ، وأقَمْنَا فوقها صَرحَاً جديداً وتساوى النَّاسُ أحراراً لدينا وعبيداً ؛ أرضِ الفتى لا بدَّ من إرضائه.
قال جَبلةُ: واللهِ لقدْ رَجَوتُ أنْ أكونَ في الإسلام أعزَّ مِنّي في الجاهليّة ، فقال عمر : دَعْ عنكَ هذا فإنّك إنْ لَمْ تُرضِ الرجلَ جعلتُهُ يستقِدُّ منك ، قال جَبلةُ : أتَنصَّرُ ، أي أعودُ للنّصرانيّة ، قال : إن تنصَّرتَ ضربتُ عُنُقَك، واجتمع قومُ جَبلةَ وبنو فُزَارةَ فكادت تكون فتنةً ، فقال جبلة : ارْخِني وأجِّلنِي إلى غَدٍ يا أميرَ المؤمنين ، قال: ذلك لك .
ولمّا هبطَ اللّيلُ ، خرج جَبلةُ وأنصارُه من مكَّةَ وسارَ حتى دخلَ القُسطنطينيّةَ على هرقل فَتنصَّرَ !وأقامَ عندَه وأعْظَمَ هِرقلُ قُدومَ جبلةَ  وسُرَّ بذلك وأقْطَعهُ الأموالَ والبساتينَ والمَزارعَ.
فلمّا بعث عمرُ بنُ الخطاب رسولاً إلى هرقلَ يدعوه إلى الإسلامِ ، وأجابَهُ إلى المُصالَحةِ على غيرِ الإسلام وأنْ يَدفَعَ الجِزْيَةَ ، ثُمَّ أراد أنْ يكتبَ جواباً لعمر على كِتابهِ الذي بعثهُ له ، وقال للرسول : ألَقِيتَ ابن عمِّك هذا الذي بِبَلدنَا ، يعني جَبَلة ؛ الذي أتَانا راغباً في دِيننَا ، قال: ما لَقيتُهُ ، قال: إذن إليه، ثمَّ عُدْ إليَّ أعطِكَ جوابَ كتابِك .
ثمّ أمَرَ أنْ يُقَدّمَ الطعامُ ، فَجِيءَ بهِ بأوانٍ من ذهبٍ وفِضَّة ؛ فلمّا رأيتُ ذلك ، قُلتُ: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكلِ في آنِيةِ الذَّهب ، فقال: نعَم ولكن نَقِّ قلبَكَ من الدَّنَس ، ولا تُبَالي على ما جلست ، ثمّ قلتُ له ويحَكَ ، يا جَبلةُ ألا تُسلِمُ وقد عرَفْتَ الإسلامَ وفضلَهُ قال: أبَعدَ ما كان منّي؟ قال: ذَرنِي من هذا ، إنْ كُنتَ تَضمنُ لي أنْ يُزوجَني عمرُ ابنتَهُ، ويولِّني الإمِرَةَ من بعدهِ رجعتُ إلى الإسلام قال : ضَمنتُ لك التَّزويج ، ولم أضمنْ لك الإمرةَ ، فقال: إذاً لنْ أعودَ للإسلامِ.
ويَصِلُ رسولُ عمرَ إلى المدينةِ المنورةِ دارِ الخلافة، ويروي لعمرَ ما حدث ، ويقولُ له:إنّي ضَمنتُ له التّزويجَ ولم أضمَن له الإِمْرَةَ ، فقال عمر: هَلّا ضمنتَ له الإمرةَ ، فإذا أفاءَ اللهُ به إلى الإسلام ، قَضى عليه بحُكمهِ عز وجل، قال : ثمَّ جَهَّزَنِي عمرُ إلى هرقلَ ، وأمَرني أنْ أضمنَ لجَبَلةَ ما اشترطَ به ، فلمّا قَدِمتُ القُسطنطينيةَ وجَدّتُ الناسَ مُنصَرفينَ من جِنازتِه، فعلمتُ أنَّ الشَّقاءَ غَلبَ عليه في أمِّ الكتاب. !!
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تسليماً كثيراً أَمَّا بَعْدُ : .
فقد رَوَى مُسْلِمٌ فِي (صحيحه) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((إن الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ عَمَلُهُ بِعَمَلٍ أَهْلِ النَّارِ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ الزَّمَنَ الطَّوِيلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ ، ثُمَّ يُخْتَمُ لَهُ بِعَمَلِ أَهْلِ الجنة)) .
ويُذكَرُ أنَّ جَبلةَ بنَ الأيهمِ هذا ، قد قال أبياتاً من الشّعرِ ، أصبحتْ فيما بعدُ مثَلاً دَارِجاً على ألسِنَةِ النَّاسِ ؛ ومِمَّ قال:
تَنصَّرتِ الأشرافُ من عَارِ لَطْمةٍ …… وَمَا كانَ فِيها، لو صَبرتُ لها ضَرر.
فَيَــا ليتَ أمّي لمْ تَلدنِي، وَليتَنِي …… رَجعتُ إلى القَولِ الذي قالهُ عُمر.
ويــا ليتَنِي أرْعَى المَخاضَ بقَفرةٍ …… وكنتُ أسيراً في ربيعةَ أو مُضَر.
ويا ليتَ لي بالشَّامِ أدنى مَعيشةٍ……أُجَالِسُ قَومي ذَاهبَ السَّمعِ والبَصَر.
أدِيـــــــنُ بما دَانوا به من شَــــــريعةٍ ……وَقدْ يَصبِرُ العُودُ الكبيرُ على الدَّبَر.
نَعُوذُ باللّهِ مِن الْخِذْلَان فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فقد جاءَ فِي الحَديثِ المَروي عن عَمْرو بْن شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمْ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ، تَعْلُوهُمْ نَارُ الْأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةِ الْخَبَالِ)) رواه الترمذي وأحمد وهو في صحيح الأدب المفرد. 
نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا التَّوَاضُعَ ، ويُجنبَنا الْكِبْرَ وَالْغُرُورَ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وصُحْبِه وَسَلَّم تسليماً كثيراً . .
المشاهدات 2016 | التعليقات 0