تنبيه الحر بصيام الحر

خالد علي أبا الخيل
1436/11/28 - 2015/09/12 16:31PM
تنبيه الحر بصيام الحر
وأبواب الحسنات في شهر الخيرات
التاريخ: الجمعة: 2/ 9 /1436 هـ

الحمد لله مضاعف الأجور، وجاعل الأجر على حسب التعبد مبرور.
وأشهد أن لا إله إلا الله مقلب الدهور، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الصائم في شدة الحر طلبًا للأجور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وكل تقي صالح مسرور.
أما بعد،.
أيها الصائمون: (اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة: 119)، في هذه الأيام وافق الصيام شدة الحر وطول الأيام، فقد نصوم ستة عشر ساعة، وهذا مما يؤجر عليه الإنسان، ويُضاعف المولى له الإحسان، ومما يُلفت الانتباه أن الباب الخاص للصائمين في جنات النعيم اسمه: الريان، وفي هذا إشارة إلى أن الصوم يعتريه 1.18 وصوم في الهواجر، فجزاء الصائم الري، وألا يظمأ بعده أبدًا، فالجزاء من جنس العمل.
هذا وقد صام الرسول صلى الله عليه وسلم في الحر الشديد، كما جاء ذلك في الصحيحين عن أبي الدرداء قال: لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، في اليوم الحار الشديد، وأن الرجل ليضع يده على رأسه من شدة الحر، وما في القوم أحد صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة.
أيها المسلمون: العمل المحفوف بشيء من الجهد والتعب طريق إلى الجنة، فالجنة محفوفة بالمكاره، كما في الصحيح، وسبب للغفران: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟)، قلنا: بلى. قال: (إسباغ الوضوء على المكاره، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط، فذلكم الرباط)، وقد قال عليه الصلاة والسلام لعائشة: (أجركِ على قدر نصبك)، فاحتسبوا الأجر من الله، واصبروا وصابروا على طاعة الله، هذا ومن كان يشق عليه الصيام ويزيد في مرضه فله الفطر والقضاء في أيام أخر، لقوله سبحانه: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (البقرة: 184)، ولا بأس بالوقاية من الحر الشديد واستعمال أدوات التبريد والتكييف، ووسائل الراحة والتخفيف، ولا يُنقص الأجر من الكريم اللطيف، وكذا لا بأس بالاغتسال والسباحة حال الصيام تبردًا وإجمامًا إذا كان يغلب عليه ألا يصل الماء إلى جوفه، قال أحمد: لا بأس أن يبل ثيابه يتبرد به ويصب عليه الماء. وقال البخاري: باب اغتسال الصائم.
وعلى المرء الموكَل إليه عمل أو لديه وظيفة ألا يبخس عمله بحجة شدة الحر وصوم النهار، فيتأخر عن دوامه، أو يخرج قبل انتهائه، أو يتقاعس في أداء عمله، ومن كان لديه عمال فليخفف عليهم الأعمال، ويسهل عليهم الأشغال، رجاء ثواب الكبير المتعال، ورحمة بهم من حرارة الشمس، لا سيما عند الزوال، فـ: (الراحمون يرحمهم الرحمن).
ولنأخذ أيها الصائمون درسًا من الحر وحرارة الشمس في وسط النهار ممن دهرهم كله صيف قائظ، فلا مكيفات، ولا أجهزة كهربائية، ولا مساكن كانفة، وآخرون أجهزتهم ضعيفة، أو ليست عاملة، فلنمد يد العون والصدقة والإحسان، ونتفقد المحتاجين إلى أجهزة التكييف والتبريد، فالبرادات، وتفقد أحوالهم وإصلاح أجهزتهم.
ولا ننسى أيها الصائمون أن نحمد الله على نعمة الموارد الباردة في بيوتنا ومساجدنا من تكييف بارد، وماء بارد، فالحمد لله على ذلك، (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ) (إبراهيم: 7).
ولا يعني أيها المسلمون في وقت الحر التخلي عن العبادة وعدم القراءة والتكاسل والتساهل، بل علينا الجد والاجتهاد والصبر والاحتساب.
ومما ينبغي التنبيه عليه: أن بعض الناس ينام بعد الفجر ثم يجمع الظهر مع العصر، وهذا منكر عظيم، وذنب وخيم، بل صل ثم ارجع ونم، واحذر من إخراج الصلاة عن وقتها، (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (مريم: 59).
وعلى الآباء تعويد صبيانهم على الصيام -وإن كان الجو حارًا- إذا أطاقوا ولم يؤثر على صحتهم، بل يجب تشجيعهم وجعل حوافز وجوائز لهم، لينشأوا على الطاعة ويعتادوا العبادة، فرحمتهم بتعليمهم، والشفقة عليهم بتأديبهم، كما قالت الرّبيّع بنت معوّذ: كنا نصوّم صبياننا، فإذا اشتهى أحدهم الطعام أعطيناه اللعبة من العهن يتلهى بها، حتى يأتي وقت الإفطار.
هذا وليس من شرعنا البروز للشمس والوقوف فيها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر إسرائيل لما رآه قائمًا في الشمس، فأمر بالجلوس وأن يستظل، وكان قد نذر أن يقوم في الشمس، فأمره أن يتم صومه.
ومن نصائح الأطباء عندما يُصام شهر رمضان في الجو الحار يُفضل الإكثار من السوائل في الليل لتعويض ما يفقد الجسم عن طريق العرق أثناء النهار.
ومما يُضاعَف ثوابه في شدة الحر من الطاعات: الصيام، لما فيه من ظمأ الهواجر، ولهذا كان معاذ يتأسف عند موته على ما يفوته، وكان أبو بكر يصوم في الصيف ويُفطر في الشتاء، ووصى عمر عند موته ابنه عبد الله فقال له: عليك بخصال سليمان. وسمى أولها: الصوم في شدة الحر في الصيف.
وكانت بعض الصالحات تتوخى أشد الأيام فتصومها، فيقال لها في ذلك، فتقول: إن السعر إذا رخص اشتراه كل أحد. تُشير إلى أنها لا تؤثر إلا العمل الذي لا يقدر عليه إلا قليل من الناس لشدته عليهم.
نزل الحجاج في بعض أسفاره بماء بين مكة والمدينة، فدعا بغدائه، ودعا أعرابيًا إلى الغداء معه، فقال له: دعاني من هو خير منك. فأجبته، قال: ومن هو؟. قال: الله تعالى، دعاني إلى الصيام فصمت. قال: في هذا الحر الشديد؟. قال: نعم، صمت ليوم أشد منه حرًا. قال: فأفطر وصم غدًا. قال: إن ضمنت لي البقاء إلى غد. قال: ليس ذاك إليّ. قال: كيف تسألني عاجل بآجل لا تقدر عليه.
وكان أبو الدرداء يقول: صوموا يومًا شديدًا حره لحر يوم النشور.
والصيام في شدة الحر مذكر بحر جهنم، فإن لها نفسين: نفس في الصيف، وذلك أشد ما تجدون من زمهريها وسمومها، وينبغي لمن اشتد عليه الحر أن يتذكر حر الموقف، فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة، ويزداد حرها، ولمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا لحظة أن يتجنب من الأعمال ما يستوجب صاحبه به دخول النار، فإنه لا طاقة لنا على النار، ولا صبر عليها، نعوذ بك من النار.
قال قتادة وقد ذكر شراب أهل النار، فقال: هل لكم بهذا يدان؟ أم لكم عليه صبر؟ طاعة الله أهون عليكم يا قوم، فأطيعوا الله ورسوله.
نسيت لظى عند ارتكابك للهوى
كأنك لم تدفن حميمًا ولم تكن
***
*** وأن تتوقى حر شمس الهواجر
له في سياق الموت يومًا بحاضر

ولما رأى عمر بن عبد العزيز قومًا في جنازة وقد هربوا من الشمس إلى الظل، وتوقوا الغبار، بكى وأنشد قائلًا:
من كان حين تصيب الشمس جبهته
ويألف الظل كي تبقى بشاشته
في ظل مقفرة غبراء مظلمة
تجهزي بجهاز تبلغين به
***
***
***
*** أو الغبار يخاف الشين والشعثا
فسوف يسكن يومًا راغمًا جدثا
يطيل تحت الثرى في غمها اللَبثا
يا نفس قبل الردى لم تُخلقي عبثا

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على هديه القويم، وخيره العميم، وصراطه المستقيم.
أيها المسلمون: ونحن في شهر المزايا وأيام العطايا، وقد خصه بارئ البرايا بالحسنات والخيرات ورفعة الدرجات، فخذوا من باب التذكير أبواب الحسنات في شهر الخيرات، مما يستدعي الانتباه والتخصيص لما خصه الإله، فدونكم أبواب الحسنات، لتقتطفوا الزهور والمسرات مما هو منصوص عليه فعله في هذه اللحظات، والحصيف يراعي فقه باب الأولويات:
فمن ذلك: الصيام احتسابًا للأجر وإيمانًا به ودفعًا للوزر. فمن صامه وقامه إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه، فعلى المرء أن يُخلص في صيامه لربه، فلا بد من إشعار النفس بالتعبد المحض لله بالصيام، وأن هذا الصيام أمر من الملك العلام، لا لأجل علاج وحِمية، أو دورة سنوية، أو رياء وسمعة.
ومن أبواب الحسنات في شهر الخيرات: صلاة القيام. لقوله عليه الصلاة والسلام: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه)، أخرجه الشيخان.
والقيام يصدق على كل من قام في ليالي رمضان، قلّ ذلك أو كثر، ويشمل ذلك صلاة التراويح في المساجد، وصلاة المرأة والمنفرد في البيت، فعليه: من فاتته مع الإمام يصليها في بيته، والمرأة تصلي ما شاءت، ولها الخروج لها بالحشمة والعفة والستر والحياء وترك الزينة.
وثمة تنبيه لبعض الناس: حيث يحافظ ويحرص على صلاة التراويح على حساب التساهل في صلاة العشاء وفوت بعض ركعاتها، ووالله ثم والله ثم والله المحافظة على صلاة العشاء أعظم وأجل من الحرص على التراويح فقط، ولهذا يجدر التنبيه أن بعض الناس يتخطى المساجد على حساب فوت ركعة أو ركعات من العشاء طلبًا للصلاة مع فلان وفلان، والفرض أعظم من النفل حتمًا وتقديمًا وعملًا.
وثمة تنبيه آخر: وهو أن بعض الناس تفوته صلاة القيام مع الإمام، فيمضي شهره وقد صلى شطره، وربما لم يركع ركعة، فاحرص على المحافظة عليها، فهي من أسباب المغفرة، ومن صلاها مع الإمام كُتب له قيام ليلة.
ومن أبواب الحسنات في شهر الخيرات والعطيات: قراءة القرآن. كيف لا ورمضان أُنزل فيه القرآن، فاجعل شعارك كلام ربك، ولا تقتصر على ختمة واحدة، بل ارفع همتك، وأشعل وقود الهمة بكثرة الختمات والتلاوة مع التدبر والمعرفة.
ومن أخبار المعاصرين: شيخ القصيم وعلامته عمر بن سليم –عليه رحمة الله-، كان له فيما نُقل عنه ستون ختمة في رمضان.
وهذا مأثور عن البخاري والشافعي وجملة من التابعين.
ولشيخنا محدث القصيم الدويش –رحمه الله- ثلاثون ختمة في رمضان.
ومعظم عبّادنا في كل ثلاث، وربما في العشر الأخيرة كل يومين، ولهذا يحرصون على الجلوس في المساجد، وهم ما بين قارئ وراكع وساجد.
ومن أبواب الحسنات في شهر الخيرات: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) (القدر: 3). فهي من مميزات هذا الشهر، وفيها عظيم الثواب والأجر، وأنزل الله فيها سورة القدر.
ومن أبواب الحسنات والمبرات في أوقات الرحمات: الاعتكاف. وهو المكث في العشر الأخيرة من رمضان، عشرة أيام، تأسيًا بالمصطفى عليه السلام، ولما فيه من الانقطاع عن الذنوب والآثام وتعليق القلب بالملك العلام القدوس السلام.
ومن أبواب الحسنات في أوقات المسرات أمة البر والخيرات: الصدقة. وكان نبي الأمة في جانب الصدقة أسرع من الريح المرسلة، فابذلوا وتصدقوا، وزكوا أموالكم، وأعطوا وأنفقوا مما رزقكم الله يُخلف الله عليكم سواه، وراعوا الضعفاء والمعوزين، والفقراء والمحتاجين، والأرامل والمساكين، ولا بد من ملاحظة الأقربين، فالأقربون أولى بصدقة المتصدقين.
وعليكم بإعانة المتزوجين وسداد ديون المديونين.
ومن الأبواب للحسنات والثواب: الدعاء. فاجعل شعارك في كل لحظة رفع دعوة صادقة، وتغانم لحظات الصيام، وسواد الليل والناس نيام، فالسر في الدعاء في وقت الخفاء، فكن من الملحين، وناد رب العالمين، واسأله في كل حالة وحين، وقدم آداب الدعاء كالذل والخضوع، والتمسكن والخشوع، والوضوء والطهارة، ورفع اليدين واستقبال القبلة، وتحري أوقات الإجابة، وسؤال الله بأسمائه، فحري بنا -ونحن في شهر الإجابة والدعاء والاستجابة- أن نسأل الله كل حاجة دون إثم أو اعتداء أو لجاجة.
أتهزأ بالدعاء وتزدريه
سهام الليل لا تُخطئ ولكن
***
*** ولا تدري بما صنع الدعاء
لها أمد وللأمد انتهاء


وقد روى الثقات عن خير الملا
في ثلث الليل الأخير ينزل
هل من مسيء طالب للمغفرة
يمنّ بالخيرات والفضائل
***
***
***
*** بأنه عز وجل وعلا
يقول: هل من سائل فيُقبل
يجد كريمًا قابلًا للمعذرة
ويستر العيب ويعطي السائل

ومن الأبواب والخيرات والمضاعفة للحسنات: العمرة في رمضان. ففي الصحيح عن ولد عدنان: فضلها كحجة، شريطة ذلك أن يعتمر ولا يفرط فيما هو أوجب عليه منها، كأن يترك واجبًا عليه كالإمامة والوظيفة وبر بالوالد والوالدة، أو يرتكب ما حرم الله عليه، أو يترك عملًا موكولًا إليه.
ومن ذلكم –تقبل الله صيامكم وقيامكم-: المجاهدة في العشر الأخيرة ومزيد من العبادة. كما كان هديه: إذا دخلت العشر أحيا الليل وأيقظ أهله، وشد مئزره. متفق عليه.
ومن أبواب الحسنات: السنة عند الإفطار بأكل التمرات والدعاء بما ثبت عن سيد البريات. ومن الدعاء: (ذهب الظمأ، وابتلت العروق، وثبت الأجر -إن شاء الله-).
وكذا تعجيله، وكذا السحر حيث ثبت قولًا وفعلًا وإقرارًا.
وختامها، وخير الختام ذكرها: زكاة الفطرة. (طُهرة للصائم من اللغو والرفث، وطُعمة للمساكين)، فهي من سنة سيد المرسلين، أوجبها على عباده المؤمنين.
يا من عرفت محمدًا بصفاته
املأ مكانك والزمانَ مصليًا
***
*** وجلاله وخصاله وجماله
ومسلّمًا دومًا عليه وآله

والله أعلم.
المرفقات

خطبة- تنبيه الحر -بصيام الحر -وأبواب الحسنات - في شهر الخيرات (2-9-1436) -جامع أبي هريرة - ببريد.doc

خطبة- تنبيه الحر -بصيام الحر -وأبواب الحسنات - في شهر الخيرات (2-9-1436) -جامع أبي هريرة - ببريد.doc

المشاهدات 991 | التعليقات 0