تنبيه أولي الأبصار بخطر الغش والتستر والاحتكار
محمد بن سليمان المهوس
الخُطْبَةُ الأُولَى
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ: أُوصِيكُمْ وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: خُلُقٌ دَنِيءٌ، وَمَرْكَبٌ وَطِيءٌ، وَكَبِيرَةٌ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ يَمْحَقُ الْبَرَكَةَ، وَيُوَلِّدُ ضَعْفَ الثِّقَةِ بَيْنَ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ، وَسَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
إِنَّهُ الْغِشُّ الَّذِي مِنْ أَعْظَمِهِ مَا بَيَّنَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللهُ رَعِيَّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ؛ إِلاَّ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» [رواه مسلم، من حديث معقل بن يسار - رضي الله عنه - ].
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «مَعْنَاهُ بَيِّنٌ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ غِشِّ الْمُسْلِمِينَ لِمَنْ قَلَّدَهُ اللهُ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ أَمْرِهِمْ، وَاسْتَرْعَاهُ عَلَيْهِمْ، وَنَصَبَهُ لِمَصْلَحَتِهِمْ فِي دِينِهِمْ أَوْ دُنْيَاهُمْ، فَإِذَا خَانَ فِيمَا اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَنْصَحْ فِيمَا قُلِّدَهُ، إِمَّا بِتَضْيِيعِهِ تَعْرِيفَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ دِينِهِمْ، وَأَخْذِهِمْ بِهِ، وَإِمَّا بِالْقِيَامِ بِمَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ، مِنْ حِفْظِ شَرَائِعِهِمْ، وَالذَّبِّ عَنْهَا، وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ الْمُوبِقَةِ الْمُبْعِدَةِ مِنَ الْجَنَّةِ» انتهى.
وَمِنَ الْغِشِّ: الْغِشُّ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالَّذِي اسْتَصْغَرَتْهَا النُّفُوسُ الْمَرِيضَةُ وَالأَهْوَاءُ الْمُضِلَّةُ، فَرَأَتْهَا بِطُولَةً وَحِذْقًا، وَشَجَاعَةً وَرُجُولَةً؛ وَهُوَ خِسَّةٌ وَدَنَاءَةٌ تَبَرَّأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مُرْتَكِبِهِ؛ وَالَّذِي مِنْهُ إِخْفَاءُ الْعَيْبِ أَوْ خَلْطُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ، أَوْ بَيْعُ الْفَوَاكِهِ وَالْخَضْرَوَاتِ بَعْدَ رَشِّهَا مُبَاشَرَةً، أَوْ إِظْهَارُ الْمُقَلَّدِ مِنَ الْبَضَائِعِ بِصُورَةِ الأَصْلِيِّ ؛ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: مَرَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبُ الطَّعَامِ؟!» قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟! مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا» [ رواه مسلم].
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لاَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ بَاعَ مِنْ أَخِيهِ بَيْعًا فِيهِ عَيْبٌ إِلاَّ بَيَّنَهُ لَهُ» [رواه ابن ماجه، وصححه الألباني في صحيح الجامع].
وَكَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِذَا قَامَ إِلَى السِّلْعَةِ يَبِيعُهَا بَصَّرَ عُيُوبَهَا ثُمَّ خَيَّرَهُ، وَقَالَ: إِنْ شِئْتَ فَخُذْ، وَإِنْ شِئْتَ فَاتْرُكْ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ مِثْلَ هَذَا لَمْ يَنْفُذْ لَكَ بَيْعٌ، فَقَالَ: إِنَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» [رواه الطبراني في الكبير].
وَكَانَ وَاثِلَةُ بْنُ الأَسْقَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَاقِفًا؛ فَبَاعَ رَجُلٌ نَاقَةً لَهُ بِثَلاَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَغَفَلَ وَاثِلَةُ وَقَدْ ذَهَبَ الرَّجُلُ بِالنَّاقَةِ؛ فَسَعَى وَرَاءَهُ وَجَعَلَ يَصِيحُ بِهِ: يَا هَذَا اشْتَرَيْتَهَا لِلَّحْمِ أَوْ لِلظَّهْرِ؟ فَقَالَ: بَلْ لِلظَّهْرِ، فَقَالَ: إِنَّ بِخُفِّهَا نَقْبًا قَدْ رَأَيْتُهُ، وَإِنَّهَا لاَ تُتَابِعُ السَّيْرَ، فَعَادَ فَرَدَّهَا فَنَقَصَهَا الْبَائِعُ مِائَةَ دِرْهَمٍ، وَقَالَ لِوَاثِلَةَ: رَحِمَكَ اللهُ! أَفْسَدْتَ عَلَيَّ بَيْعِي، فَقَالَ: إِنَّا بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عَلَى النُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» [إحياء علوم الدين للغزالي 2/76 ]
وَمِنَ الْغِشِّ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: بَخْسُ الْوَزْنِ أَوِ الْعَدَدِ أَوِ الْمَسَاحَةِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين: 1- 6].
وَمِنَ الْغِشِّ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: بَيْعُ الْمُحَرَّمَاتِ لِلنَّاسِ؛ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ اللهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ» [صححه الألباني].
وَمِنَ الْغِشِّ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، وَخِيَانَةُ الأَمَانَةِ فِي عُقُودِ الْمُقَاوَلاَتِ، وَالإِنْشَاءَاتِ، وَالصِّيَانَةِ وَنَحْوِهَا؛ قَالَ تَعَالَى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1].
وَمِنَ الْغِشِّ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: احْتِكَارُ السِّلَعِ وَمُضَايَقَةُ النَّاسِ وَعَدَمُ مُرَاعَاةِ أَحْوَالِهِمْ؛ فَعَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» [رواه مسلم].
وَمِنَ الْغِشِّ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: التَّسَتُّرُ التِّجَارِيُّ بِجَمِيعِ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ، وَالَّذِي هُوَ خِيَانَةٌ لِلْوَطَنِ، وَظُلْمٌ لأَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ؛ وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾
[ المائدة: 2].
اللَّهُمَّ اكْفِنَا بِحَلاَلِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَأَغْنِنَا بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اتَّقُوا اللهَ تَعَالَى، وَاعْلَمُوا أَنَّ السَّمَاحَةَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَعَدَمَ الإِضْرَارِ بِالنَّاسِ فِي الْمُبَالَغَةِ بِالْمَكَاسِبِ: أَخْلاَقٌ رَفِيعَةٌ، وَقِيَمٌ سَامِيَةٌ يُمَارِسُهَا أَهْلُ الْقُلُوبِ النَّيِّرَةِ وَالنُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ؛ الَّذِينَ دَعَا لَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْلِهِ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، وَإِذَا اشْتَرَى، وَإِذَا اقْتَضَى»
[رواه البخاري].
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَاحْذَرُوا الْغِشَّ فِي جَمِيعِ مَجَالاَتِهِ وَاخْتِلاَفِ صُوَرِهِ وَأَشْكَالِهِ، فَإِنَّهُ حَرَامٌ! يَقُودُ صَاحِبَهُ إِلَى الْهَلاَكِ وَالْخُسْرَانِ، وَنَزْعِ الْبَرَكَةِ وَالْحِرْمَانِ -أَعَاذَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ وَجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ-.
هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم كَمَا أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ رَبُّكُمْ، فَقَالَ: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا» [رَوَاهُ مُسْلِم]
المشاهدات 2858 | التعليقات 3
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاك الله خيرا
شبيب القحطاني
عضو نشط
جزاك الله خيرا
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق