تنبيهات مهمة لليالي العشر المتمة
عبد الله بن علي الطريف
تنبيهات مهمة لليالي العشر المتمة 1446/9/21هـ
أيها الإخوة: ها هي ليالي العشر الحسان قد حطت فينا رحالَها، وازدانت مراكبُ السائرين إلى الله بربانِها، وضجت قوافلُ التائبين بدعواتها، وأُسرجت مصابيحُ المساجدِ فتوهجت بأنوارِها.. ونادى الرحمنُ عباده لاهتبالِ أوقاتها، فَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بِأنَّ رَبَّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى «يَنْزِلُ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ». رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْه-.
فيا الله ما أكرمه من عرض.. وما أجزلَه من عطاء.. وما أغفلَ كثيرٍ من المسلمين عنه.. رَبُنا تبارك وتعالى بجلالِهِ وجبروتِهِ ينادي عبادَه الضعفاءَ المحتاجين لتلبية حاجاتهم وإعطائِهم سُؤْلَهم.. فلا يستجيبُ لدعوته ولا يكترث لعرضه كثيرٌ منهم..! يبذلُ لهم مغفرتَه فلا يطلبها إلا قليل منهم..!
أيها الإخوة: كانت معالجة النفس للقيام قبل رمضان أمرًا يصعُبُ على جُلِ الناس إلا من وفقه الله، ولكن في هذه الأزمان لا عذر لكثيرٍ منا فالسهر أصبح ديدن الناس، وقليل من الناس من ينام، فما لنا عن التذكرة معرضين وعن جميل العروض الربانية الضخمة منصرفين..
وآهـ ثم وآهـ.. فكم فرصة ذهبية أتت علينا ففرطنا فيها وتعاجزنا عن الأخذ بها.. وربما بتوافه الأمور انشغلنا.. وإني لأعجب من أحدنا كيف يمضي ثلث الليل الأخير ساهرًا باستجمام أو بسمر مع أهله أو أصحابه، وهو يعلم أنَّ هذه السويعات زهرةُ ليله وفرصةُ عمره فلا يُرعيها بالًا..
أليست لنا ذنوبٌ فنستغفر الغفار منها..؟ أليست لنا حاجات لدى الكريم فنسأله إياها..؟ أليست لنا دعوات ملحة فندعو بها..؟
أدعوكم إخوتي ونفسي دعوة محب للخير لنا جميعًا لِـهَبَةٍ صادقة.. وعزيمة جازمة.. نطوي بها آفة الكسل، ونشمرُ بعدها عن ساعد الجد في السير إلى الله والعمل فهو يَقُولُ: «مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ».. وهو القائل: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186] فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك..
أيها الأحبة: المطلع على أحوال الناس يرى كم يتهافت الناس على تنزيلات السلع، وكيف يفرحون بعروض المتع، وهي حاجات دنيوية ومطالب أرضية، أما النداءات الربانية، والعروض الرحمانية فقد حَجَبَ الشيطانُ الرجيمُ عن كثيرٍ من المسلمين وضاءتها، وغَطَى عنهم ضَخَامَتها، فلا يراها منا إلا الموفقون جعلنا الله منهم ...
أيها الإخوة: ليالي الْعَشْرِ ليالٍ مباركة.. وأوقاتها أوقاتُ جدٍ وتشميرٍ وتجارةٍ رابحة مع العزيز القدير.. ها هو نَبِيُّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْتَهِدُ فِيها مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِا، فَإِذَا دَخَلَتْ، أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ.. وهو من غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ فَكَيْفَ بِنَا عَلَى مَا فِينَا مِنْ تَقْصِرٍ.. وَقد كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ بَعْدَ مَا أُتِيَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ.. وَقَدْ دَعَا النَاسَ لِلاعْتِكَافِ فَقَالَ: «مَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ» فَاعْتَكَفَ النَّاسُ مَعَهُ. رواه مسلم..
أيها المتسابقون للخيرات: مما يُشرع في العشرِ الاعتكاف ومعناه: المكث في المسجد لطاعة الله تعالى سواء كانت المدة كثيرة أو قليلة.. وهو سنة مؤكدة، والكمال في رمضان أَنْ يَعْتَكِفَ المُـسلِمُ أيامَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ ولياليه، وأدنى الكمال اعتكافُ يومٍ وليلةٍ أو يومٍ أو ليلةٍ.. لكنه قد يشق أو يتعذر على كثيرٍ ذلك، لكن إذا لم يدرك أحدُنا الكمالَ أو أَقَلَّهُ فهل يترك الأخذ بسنة الاعتكاف.؟ الجواب: لا.. ففي الأمر سعة ولله الحمد فقد سُئِلَ سَمَاحَةُ الشَيْخِ ابنُ بَازٍ رَحِمَهُ اللهُ مَا أَقَلْ مُدة الاعتكاف؟ فَقَالَ: "ما له حد محدود، لا يوم ولا ليلة ولا ساعة معلومة، ما تيسر له، أقول: ما تيسر له؛ لأن الرَسُولَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما حدد شيئًا، والله ما حدد شيئًا" اهـ.. وقال في موضع آخر "الاعتكاف هو المكث في المسجد لطاعة الله تعالى سواء كانت المدة كثيرة أو قليلة، لأنه لم يرد في ذلك فيما أعلم ما يدل على التحديد لا بيوم ولا بيومين ولا بما هو أكثر من ذلك، وهو عبادةٌ مشروعةٌ إلا إذا نذره صار واجبًا بالنذر، وهو في المرأة والرجل سواء" اهـ. وقال النووي رَحِمَهُ اللهُ: الصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْكَثِيرُ مِنْهُ وَالْقَلِيلُ حَتَّى سَاعَةٍ أَوْ لَحْظَةٍ.. اهـ باختصار.. وعليه ينبغي لنا ألا نفوت هذه السُنَّة التي ربما كثيرٌ منا لم يفعلها في حياته، فما علينا إلا أن ننوي الاعتكاف إذا أتينا المسجد مدة مكثنا به لنحوز أجرَ الاعتكافِ وفضلَهُ.. وقدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ، أَنَّ عَطَاءً أَخْبَرَ، عَنْ الصَحَابِي يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قَالَ: "إِنِّي لأَمْكُثُ فِي الْمَسْجِدِ السَّاعَةَ، وَمَا أَمْكُثُ إِلَّا لِأَعْتَكِفَ" ثم قال عبد الرزاق: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: "قَالَ عَطَاءٌ هُوَ اعْتِكَافٌ مَا مَكَثَ فِيهِ، وإِنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِدِ احْتِسَابَ الْخَيْرِ فَهُوَ مُعْتَكِفٌ، وإِلَّا فَلَا." أهـ. أسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا ويبارك لنا في عشرنا ويوفقنا لإدراكِ ليلة القدر والعملِ الصالح فيها.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: الاعتكاف فرصة سانحة للتفرغ من عوالق الدنيا وأشغالها، وميدانٌ رحب للتزود بالطاعة من الصلاة وقراءة القرآن والذكر كالتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والدعاء والصلاة على النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن قرأ المعتكف القرآن ناله من الفضل ما قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَفَلَا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَعْلَمُ أَوْ يَقْرَأُ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللهِ عز وجل خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلَاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلَاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ. وَمِنْ أَعْدَادِهِنَّ مِنَ الْإِبِلِ» رواه مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ-رَضِيَ اللهُ عَنْه-..
والمعتكف ينتظر صلاة بعد صلاة وهذا ممَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ، وهو رباط في سبيل الله قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ.» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْه-. والمنتظرون للفريضة ممن يباهي الله بهم الملائكة فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو-رَضِيَ اللهُ عَنْه- قَالَ: صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-الْمَغْرِبَ، فَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ، وَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُسْرِعًا، قَدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، وَقَدْ حَسَرَ عَنْ رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: «أَبْشِرُوا، هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ، يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ، يَقُولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي قَدْ قَضَوْا فَرِيضَةً، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى» رواه أحمد وابن ماجة وصححه الألباني.
والمعتكف مدة اعتكافه في صلاة؛ لأنه ينتظر الصلاة بعد الصلاة.. وتصلي عليه الملائكة مدة بقائه في المسجد قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ مَا دَامَ يَنْتَظِرُهَا، وَلا تَزَالُ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ» أي: ما لم ينتقض وضوؤه. رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْه- وصححه الألباني.
قال ابن بطال رحمه الله في شرحه للبخاري:" فمن كان كثير الذنوب وأراد أن يحطها الله عنه بغير تعب؛ فليغتنم ملازمة مكان مصلاه بعد الصلاة ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجو إجابته لقوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء:28].
https://t.me/+iSRXA4HV_oFmMDc0 رابط قناة التلجرام