تنبيهات مهمات لعام مضى وعام آت. 1439/12/27هـ

عبد الله بن علي الطريف
1439/12/27 - 2018/09/07 00:39AM
تنبيهات مهمات لعام مضى وعام آت. 1439/12/27هـ
أيها الإخوة: ونحن نودع عاماً ونستقبل عاماً لا بد أن نتنبه لبعض الأمور: أولها أن الوقوف مع النفس ومحاسبتها ليس في نهاية العام كما يُنَظِرُ له بعض الناس قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:18،19] قال ابن كثير أي: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم..
فحري بالمسلم أن يقف مع نفسه كل يوم ويحاسبها على ما قدمت وأخرت؛ فالأيام خزائن الأعمال.. ومحاسبة النفس مستمرة.. ولذلك كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ» رواه مسلم عَنِ الْأَغَرِّ الْمُزَنِيِّ رضْيَ اللهُ عَنْهُ وما التوبة ولاستغفار إلا جزء من المحاسبة ونتيجة لها. وعلى هذا فقصرها على نهاية العام خطأ.
أيها الإخوة: لقد أوجد الله تعالى لنا في هذه الكون ما يتذكر به من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فالشمسُ تطلع كلَّ يوم من مشرقها وتغرب في مغربها وفي هذا أعظمَ الاعتبار، فطلوعُها ثم غيابُها إيذان بأنّ هذه الدنيا ليست دارَ قرار، وإنما هي طلوعٌ وزوال.
انظر إلى هذه الشهور، تهلّ فيها الأهلّة صغيرةً كما يولَد الأطفال.. ثم تنمو رويدًا، رويدًا كما تنمو الأجسام.. حتى إذا تكامل نموُّها أخذت في النقص والاضمحلال..
وهكذا الأعوام تتجدّد على الإنسان عامًا بعد عام، فإذا دخَل العام الجديد نظر الإنسان إلى آخره نظرَ البعيد، ثم تمرّ به الأيام سِراعًا فينصرم العامُ كلمح البصر فإذا هو في آخر العام، وهكذا عُمر الإنسان يتطلّع إلى آخره تطلُّع البعيد، فإذا به قد هجم عليه الموت وصار خبر بعد عين..
يؤمّل الإنسان بطولِ العمر ويتسلَّى بالأماني فإذا بحبلِ الأماني قد انصرم، وبناء الآمال قد انهدَم..
قال أبو الدرداء رضْيَ اللهُ عَنْهُ: يا ابنَ آدم، إنما أنتَ أيّامٌ، فإذا ذهب منك يومٌ ذهبَ بعضُك.. وقال أبو حامد الغزالي: اعلم أن العبد كما (ينبغي أن) يكون له وقت في أوّل النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق، فينبغي أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كلّ سنة أو شهر أو يوم... فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد.؟! ما هذه المساهلة إلا ناتجة عن الغفلةِ والخذلان وقلةِ التوفيق نعوذ بالله من ذلك.
يقول الماوردي المحاسبة: أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعال نهاره، فإن كان محمودًا أمضاه وأتبعه بما شاكله وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه وانتهى عن عمل مثله. اهـ.
أيها الإخوة: وللمحاسبة فوائد متعدّدة ومنافع متكاثرة، منها:
الاطلاع على عيوب النفس ومثالِبها ونقائِصها، فمن اطلع على عيب نفسه أنزلها منـزلها وبادر في إصلاحها.
ومنها: أن العبدَ يتعرفُ على عظيمِ فضلِ الله ومنته عليه.. عندما يقارن عظيم فضل الله عليه بكبير تفريطه وتقصيره في جنب الله، فيكون ذلك معينًا لنفسه على ردعها، فيزكيها، ويطهرها من كل عمل يهلكها، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى.) [النازعات:40،41] قال أحد السلف: رحم الله عبدًا قال لنفسه كل ليلة: ألست صاحبة كذا.؟ ألست صاحبة كذا.؟ ثم ألزمها كتاب الله وكان لها قائدًا.
ومن فوائد المحاسبة: أنها تربي الضمير الحيّ، عند الإنسان وتنمي الشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال بميزان دقيق هو ميزان الشرع، قال ابن القيم: أضرّ الأمور على المكلّف إهمال المحاسبة والاسترسال، وتسهيل الأمور وتمشيتها؛ فإنه يؤول بذلك إلى الهلاك، وهذا حال أهل الغرور، يغمضون أعينهم عن العواقب، ويتكلون على العفو، ولم يستطيعوا فطم أنفسهم عن مواقعة الذنوب. اهـ.
ولقد كان السلف رحمهم الله يحاسبون أنفسهم كثيرًا، وضربوا لنا أروع الأمثلة من ذلك ما رواه أنس رضْيَ اللهُ عَنْهُ أنه سمع عمر بن الخطاب رضْيَ اللهُ عَنْهُ يومًا في حائط يكلم نفسه قائلا: عمر! أمير المؤمنين! بخٍ بخٍ، والله يا بُنيَّ الخطاب لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: نَهَارُك ضَيْفُك فَأَحْسِنْ إلَيْهِ فَإِنَّك إنْ أَحْسَنْت إلَيْهِ ارْتَحَلَ بِحَمْدِك، وَإِنْ أَسَأْت إلَيْهِ ارْتَحَلَ بِذَمِّك، وَكَذَلِكَ لَيْلُك..
وقال حاتم الأصم: تعاهد نفسك في ثلاث: إذا عملت فاذكر نظر الله إليك، وإذا تكلمت فاذكر سمع الله منك، وإذا سكتّ فاذكر علم الله فيك.
وكان الأحنف بن قيس قد كبر سنه، فلاموه على الصوم لأنه يضعفه، فقال: إني أعده لسفر طويل، وكان يقول لنفسه: لم صنعتَ كذا يوم كذا.؟!.
وَقَالَ آخَرُ: اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ يَعْمَلانِ فِيك فَاعْمَلْ فِيهِمَا. وَقَالَ آخَرُ: اعْمَلُوا لآخِرَتِكُمْ فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الَّتِي تَسِيرُ كَأَنَّهَا تَطِيرُ.. وَقَالَ آخَرُ: الأَيَّامُ صَحَائِفُ أَعْمَالِكُمْ، فَخَلِّدُوهَا أَجْمَلَ أَفْعَالِكُمْ.. وَقِيلَ فِي مَنْثُورِ الْحِكَمِ: اِقْبَلْ نُصْحَ الْمَشِيبِ وَإِنْ عَجَّلَ.. وَقِيلَ: مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ، إلا وَعَظَتْ بِأَمْسٍ.. قال أحدهم:
      نسيرُ إلى الآجال فِي كل لحظة          وأعمارنا تطوى وهن مراحل
      ترحل من الدنيا بزاد من التقـى         فعمــرك أيـام وهن قلائـل
 أيها الإخوة: لننظر في صحائف أيامنا التي خلت ماذا ادخرنا فيها لآخرتنا؟! لنخلوا بأنفسنا ونتأمل أعمالنا: ماذا تكلم به اللسان؟! وماذا رأت العينان؟! وماذا سمعت الأذنان؟! وأين مشت القدمان.؟! وبماذا بطشت اليدان.؟! ولنحاسب أنفسنا على الفرائض ماذا أدينا منها.. والمنهيات ماذا تركنا منها.. ولنحاسب أنفسنا على الغفلات، فنحن نمتطي عربة الليالي والأيام، وهي تحثّ بنا السير إلى الآخرة.. 
سمع أبو الدرداء رَضْيَ اللهُ عَنْهُ رجلاً يسأل عن جنازة مرت من هذا؟ فقال أبو الدرداء رَضْيَ اللهُ عَنْهُ: (هذا أنت) يعني أن الجميع إلى هذا المصيرِ صائر فاستعدّ لذلك.
ولما سئل أبو حازم: كيف القدوم على الله؟ قال: أما المطيع فكقدوم الغائب على أهله، وأما العاصي فكقدوم العبد الآبق على سيده.
وقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ، قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ، وَحَسُنَ عَمَلُهُ»، قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قَالَ: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ» رواه الترمذي عن أَبِي بَكْرَةَ رضِيَ اللهُ عنه وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وقال الألباني حسن صحيح.
وكان من دعاء رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» رواه مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضْيَ اللهُ عَنْهُ. فنسأل الله العظيم أن يبارك لنا في أعمارِنا، وأن يختم بالصالحات أعمالَنا، إنه بر رحيم. وصلى وسلم الله على محمّد..
الخطبة الثانية:
أما بعد: ومما يجب التنبيه على حكمه التهنئة بالعام الهجري.؟ الجواب الأصل فيها الإباحة، فليست مشروعة وليست بدعة.. ومن أهل العلم من يرى أن الأولى ألا يبدأ بها الإنسان، ولكن إن هنئ فلا ينبغي له أن ينكر بل يجعل الرد بالدعاء.. ومنهم من بدأ بالتهنئة مثل الشيخ عبد الرحمن السعدي فقد بعث كتابا لأحد طلابه وكان في ديباجة رسالته: ونهنئكم بالعام الجديد، جدد الله علينا وعليكم النعم ودفع عنا وعنكم النقم. والأمر فيه سعة. 
أيها الإخوة: ومما يجب التنبه عليه أن بعض الناس يظن مشروعية صيام آخر يوم من ذي الحجة وأول يوم من المحرم، مستدلين بما نسب إلى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وأوَّلَ يومٍ مِنْ الْمُحَرَّمِ فَقَدْ خَتَمَ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ بِصَوْمٍ، وافْتَتَحَ السَّنَةَ الْـمُسْتَقْبَلَةَ بِصَوْمٍ، جَعَلَ اللهُ لَهُ كَفَّارَةَ خَمْسِينَ سَنَةً» ذكره ابن الجوزي في الموضوعات وقال فيه أحمد الهروي وقطب بن وهب وكلاهما كذاب وضْاع، وذكره الشوكاني الفوائد المجموعة وقال فيه كذابان. وعليه فهذا ليس بحديث..   
ومن الأدعية التي يرسلها بعض الناس دعاءً يسمونه دعاء دخول السنة الجديدة ويروون في ذلك حديثاً نصه: عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي تَوَاضَعَ كُلُّ شَيْءٍ لِعَظَمَتِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ذَلَّ كُلُّ شَيْءٍ لِعِزَّتِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَضَعَ كُلُّ شَيْءٍ لِمُلْكِهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي اسْتَسْلَمَ كُلُّ شَيْءٍ لِقُدْرَتِهِ، فَقَالَهَا يَطْلُبُ بِهَا مَا عِنْدَ اللَّهِ، كَتَبَ اللَّهُ لَهُ  بِهَا أَلْفَ حَسَنَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ بِهَا أَلْفَ دَرَجَةٍ وَوَكَّلَ بِهَا سَبْعِينَ أَلْفَ مَلِكٍ، يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» قال الهيثمي في مجمع الزوائد رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَابِلُتِّيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. ووصفه الحافظ في اللسان بأنه منكراً، وقال الألباني حديث منكر، وضعفه الغزالي في الإحياء في فصل أدعية مأثورة ولم يجعله للسنة الجديدة. والعجيب أن هؤلاء الكذابين يخرجون كل عام بدعاء ويلبسون فيه على العامة ثم يتناقل عبر وسائل الاتصال فينتشر.
ومن التنبيهات المهمة: عدم ربط ختم الأعمال وطي الصحائف بنهاية العام الهجري فهذا لا أصل له فقد دلت السنة على أن أعمال العباد ترفع للعرض على الله عز وجل أولاً بأول، في كل يوم مرتين: مرة بالليل ومرة بالنهار فَقَدْ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأَصْحَابِهِ خَطِيْبًا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لا يَنَامُ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ». رواه مسلم فعَنْ أَبِي مُوسَى الأشعري رضي الله عنه..
واعلموا أن الأعمال تعرض على الله كل اثنين وخميس قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ يَوْمِ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا إِلا امْرَأً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا ارْكُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» رواه مسلم فعن أَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنه. ثم إن ابتداء العام الهجري كما هو معروف إنما اصطلح عليه في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلا معنى لتخصيصها بالاستغفار والمسامحة... وأسأل الله أن يوفقنا لإتباع هدي رسولنا إنه جواد كريم...
 
المشاهدات 1780 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا