تلك صدقة يغفل عنها الناس

احمد ابوبكر
1434/09/02 - 2013/07/10 21:25PM
بقلم الشيخ د. صالح البهلال



حمداً لله، وصلاة وسلاماً على رسوله محمدٍ، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا أنسى في رمضانٍ مضى ـ وبالتحديد في ليلة السابع والعشرين منه ـ رجلاً يبادر بالسلام على آخر، وهذا الآخر يصد عنه، ويستنكف منه، فلا يمد يداً، ولا ينطق كلمة، ولا يخفض رأساً، فأعجلت إلى الرجل، فشفعت بقبول السلام، فأصر على الإباء، وجمح إلى هواه، وقال لي: إنك لا تدري ما صنع بي، فذكرت له بركة هذه الليلة، وبركة الشهر، وعزمت عليه أن يعفو، فقام، وقال : أخبرك فيما بعد، فاستفصلت فيما بعد عن القضية، وكنت أظنها قضية تنوء بحملها الجبال الراسيات، وإذا بي أفاجأ بأنها قضية تافهة جداً، يضحك منها الصبيان، ولكن الشيطان صعَّد فيها وصوب، فانجلت عن فراق وسوء أخلاق، فأيقنت حينها بأنه موفق ومحروم.

أيها الأحبة : إن الله ـ جل في علاه ـ إذا أراد بالعبد خيراً غرس فيه طباع الخير، فيبذلها بلا كلفة، أسلس من الماء، وصار كما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (حُرِّم على النار كلُّ هين لين سهل قريب من الناس) أخرجه أحمد والترمذي من حديث ابن مسعود.

وإذا صرف الله العبد عن المكارم عسرت أخلاقه، وغلظت طباعه، فاشتد على الخلق مخالطته، وصار كما قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف) أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة.

وإن رمضان جمُّ الخيرات وافرُها، يبعث على كرمِ النفوس وسماحتها، وحسن الأخلاق وسخاوتها؛ وما أمر الصدقة بالعرض بأهونَ من الصدقة بالمال، ولكنها صدقة يغفل عنها الناس، وهي لا تكلف مالاً، ولا تتطلب عملاً؛ سوى أن تقول : عفوت عن فلان، وقد أخرج أبو أحمد الحاكم ـ في كتابه الأسامي والكنى، بإسناد صححه الحافظ ابن حجرـ من حديث أبي هريرة أن رجلاً من المسلمين قال : اللهم إنه ليس لي مال أتصدق به، وإني جعلت عرضي صدقة. قال : فأوجب النبي ـ صلى الله عليه و سلم ـ أنه قد غفر له.

وإن رمضان فرصة في إعلان الاعتذار في حق من جهلت عليه، فبما أن الإنسان لا يخرج عن حيِّز البشرية، ومن لازم ذلك أن يرد منه الخطأ في تعامله مع الناس، فإن كفارة ذلك الذنب هو اعتذاره ممن أخطأ عليه، فاعتذرْ لمن جهلت عليه ولو برسالة جوال.

فما أجمل ذلك الابن الذي قصد والديه، فتذلل بين يديهما، ثم أخذ يلقي معاذيره، ويقول: من اليوم سأبدأ صفحة جديدة معكما، فأرجو منكما العفو عن تقصيري وزللي معكما.

وأكرم بذاك الزوجِ الذي جاء إلى زوجه، فاعتذر منها على تقتيره بالنفقة.

وأكرم بتلك المرأة التي بادرت زوجها معتذرة عن كلامها الخاطئ بالأمس عليه.

ولله در ذاك الكفيل الذي قصد عامله الذي قسا عليه بالأمس، وطلب منه العفو والمسامحة.

ولله ذاك الرجل الذي بادر إلى صديقه الذي انقطعت صلته به بسبب خطأ منه، فأعلن اعترافه بالخطأ، وطلب العفو عما عما سلف.

وإنه ليتأكد في حق من اعتُذر منه أن يقبل العذر، ويكل سريرة المعتذر إلى الله، تأسياً بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ فإنه لما جاءه المخلفون عام تبوك، وطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، قبل علانيتهم، ووكل سرائرهم إلى الله.

وفي الآداب الشرعية1/319 أن المرُّوذي قال للإمام أحمد: إن أبا موسى هارونَ بنَ عبدِالله قد جاء إلى رجل شتمه لعله يعتذر إليه، فلم يخرج إليه، وشق الباب في وجهه، فعجب الإمام أحمد، وقال: سبحان الله: أما إنه قد بغى عليه، سينصر عليه، ثم قال: رجل نقل قدمه ويجيء إليه يعتذر لا يخرج؟!

وإنك لتجد مِن بعض النفوس مَنْ إذا هبت عليها نفحات هذا الشهر المبارك، وَكَفَ لها في سخاء النفس وابل، فآتت أكلها ضعفين؛ فترى فيها جزالة النفس، ورجاحة الحِلم، وتدفُّقَ البِشْر، وجمال الصفح، ولقد كان رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أجود ما يكون في رمضان، وهذا يشمل جميع أنواع الجود، ومنه الجود بالخلق الحسن، والمنطق الطيب، والعفو عن الناس، فهل من جواد مستبق؛ فهذا الشهر فرصة في اغتفار الهفوات، وتمتين العلاقات، وصلة القرابات، وتجديد الصلات، والموفَّق من وفقه الله.
المشاهدات 2181 | التعليقات 0