تكرار الحج

محمد بن إبراهيم النعيم
1438/11/04 - 2017/07/27 16:28PM

الخطبة الأولى

روى أبو هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- قَالَ خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ –صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا فَقَالَ رَجُلٌ أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قَالَ ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ) رواه مسلم.

أيها الأخوة في الله

الحج إحدى الفرائض التي فرضها الله على عباده مرة واحدة في العمر لمن استطاع إليه سبيلا ولكن البعض أصبحوا يحجون في كل عام، فبالرغم أن ذلك مستحب إلا أنه يمثل ضرراً للحجاج الذين يحجون أول مرة حيث يتسبب الزحام الشديد صعوبة تحرك الحجاج لأداء مناسكهم بل وموت بعض الضعفاء منهم، فعلى الرغم من فضائل الحج الجمة إلا أنه يجب أن نقف وقفة تأمل وتفكر أمام فقه الأولويات، وهل الأفضل للقادرين الأغنياء تكرار الحج كل عام أم التوجه إلى فضائل الأعمال أخرى ؟ فلماذا لا يكتفي هؤلاء الأثرياء بحجة أو حجتين ويوجهون ما لديهم من أموال زائدة لمساعدة فقراء المسلمين أو كفالة الأرملة واليتيم أو المساهمة في زواج شباب المسلمين؟

 

فكثير من الناس الميسورين سهل عليهم الحج كل عام بسبب تيسر المواصلات وأمن الطريق وتوفر الخدمات مما جعل أعداد الحجاج يتزايدون عاما بعد عام، والنتيجة ما نراه اليوم من كتل بشرية تموج في بعضها البعض كالبحر المتلاطم وهم يؤدون شعائر محددة ويتحركون إلى أماكن محددة وفي أزمنة محددة مما يصعب معه إيصال كافة الخدمات والمساعدات للمحتاجين منهم ويعرض بعضهم للمخاطر.

 فالازدحام الهائل يفقد الفريضة روحانيتها وقدسيتها، ويحيلها إلى صخب وضجيج وعِراك وجدال، وحوادث مميتة لا تحمد عقباها.

إن بعض الناس لا يستشعر الآثار الصعبة التي يحدثها من تكراره للحج كل عام، على إخوانه المسلمين القادمين من بعيد، المؤدين للفريضة- وليس النافلة - من شيوخ ونساء وضعفاء، فهو لا يبالي بهم، ولا يكترث لمعاناتهم، لأن المهم عنده أن يداوم على ما اعتاده من الحج كل عام، ولأن رحلة الحج تحولت عنده إلى فسحة ومتعة وتسلية واستئناساً بالصحبة المعتادة.

 ولو أن كل من أدى فريضة الحج أخذ على نفسه أن يتصدق بقيمة حجه النافلة على إخوانه المحتاجين، ويؤثر غيره بالمكان الذي سوف يشغله في منى أو عرفة أو مزدلفة أو عند الطواف بالبيت أو عند الجمرة؛ لأمكننا أن نساهم فعلياً في تخفيف الازدحام، وتيسير الحج.

فنظراً للصعوبات التي تواجه الحجاج كل عام من إشكالات عديدة في أداء النسك بسبب الجهل والازدحام وصعوبة التنظيم وغير ذلك، ينبغي لمن حج -خصوصا من النساء - أن لا يحج كل سنة وإنما يحج على الأقل كل خمس سنين ويدع الفرصة لغيره استنادا لما رواه أبو سعيد الخدري  -رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم-  قال: إن الله يقول (إِنَّ عَبْدًا أَصْحَحْتُ جِسْمَهُ وَأَوْسَعْتُ عَلَيْهِ فِي الْمَعِيشَةِ تَأْتِي عَلَيْهِ خَمْسَةُ أَعْوَامٍ لَمْ يَفِدْ إِلَيَّ لَمَحْرُوم) رواه الطبراني

وقد سئل ابن باز رحمه الله تعالى عن تكرار الحج مع ما يحصل فيه من الزحام واختلاط الرجال بالنساء، وهل الأفضل للمرأة ترك الحج إذا كانت قد قضت فرضها وربما تكون قد حجت مرتين أو أكثر؟

فأجاب قائلا: لا شك أن تكرار الحج فيه فضل عظيم للرجال والنساء ولكن بالنظر إلى الزحام الكثير في هذه السنين الأخيرة بسبب تيسر المواصلات واتساع الدنيا على الناس واختلاط الرجال بالنساء في الطواف وأماكن العبادة وعدم تحرز الكثير منهن عن أسباب الفتنة، نرى أن عدم تكرارهن الحج أفضل لهن وأسلم لدينهن وأبعد عن المضرة على المجتمع الذي قد يُفتنَ ببعضهن، -ثم قال- وهكذا الرجال إذا أمكن ترك الاستكثار من الحج لقصد التوسعة على الحجاج وتخفيف الزحام عنهم.

فنرجو أن يكون أجره في الترك أعظم من أجره في الحج إذا كان تركه له بسبب هذا القصد اهـ.

 

وروى منبوذ بن أبي سليمان عن أمه أنها كانت عند عائشة رضي الله عنها فدخلت عليها مولاة لها فقالت لها: يا أم المؤمنين، طفت بالبيت سبعاً، واستلمت الركن مرتين أو ثلاثاً، فقالت لها عائشة: لا أجرك الله لا أجر الله، تدافعين الرجال؟ ألا كبّرت ومرَرْت.

 

 فهناك ثمّة نوافل وفضائل أعمال تنفع الناس، ويتعدّى برّها وخيرها لهم؛ كنوافل الصدقة والإحسان؛ فمهما أكثر منها المرء كان فضلاَ له، ونفعاً لغيره.

فحري بالأغنياء أن يولوا وجوههم نحو هذه الفضائل، فلعل ذلك يكون أعظم لأجورهم.

 

وقد ذكر ابن مفلح في الفروع أن الإمام أحمد سُئل: أيحج نفلاً أم يصل قرابته؟ قال: إن كانوا محتاجين يصلهم أحبّ إلي، ونقل ابن هانئ في هذه المسألة أن الإمام أحمد قال: يضعها في أكباد جائعة.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: والحجّ على الوجه المشروع أفضل من الصدقة التي ليست واجبة، وأما إن كان له أقارب محاويج فالصدقة عليهم أفضل، وكذلك إن كان هناك قوم مضطرون إلى نفقته.

وعندما خرج عبد الله بن المبارك إلى الحج وجد في طريقة إلى مكة طفلة تبحث عن ميتة الطيور في أكوام القمامة، فسألها ألا تعلمين أن الميتة حرام أكلها؟ فقالت له الطفلة: لا طعام لنا غيرها، فأمر عبد الله بن المبارك خادمه أن يعطى تلك الطفلة كل المال الذي أعده لرحلة الحج قائلاً: ليس لنا حج إن كان بيننا أمثال هذه الطفلة.

 يجبُ أن نعلمَ أن الإسلام لم يجعل تكاليفه على مستوى واحد، فهناك مراتب للأعمال، فالنبي –صلى الله عليه وسلم-  قال: "الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" أي أن هناك أدنى وهناك أعلى وهناك في الوسط شيء، والله تعالى يقول (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله...).

فتكرار الحج دون سبب، وترك الأولويات هو من عدم الفقه، وأولى أن يفهم المسلم أنه حين يطعم جائعًا أو يداوي مريضًا أو يؤوي مشرَّدًا أو يكفل يتيمًا أو يقضي حاجة أرملة أو يبني مدرسة أو مسجدا لأقليات مسلمة بأن هذا أفضل عند الله عز وجل إذا احتسب ذلك.

وإذا أراد المسلم ثواب الحج فبإمكانه أن يبحث عن أناس لم يحجوا ليدفع لهم نفقات الحج فينال ثواب الحج وهو قاعد في بيته، ويرى بعض أهل العلم المعاصرين عدم أفضلية هذه الطريقة لأنك ستوجب الحج على فقير سقط عنه الحج أصلا وتجعله يحج ويعاني مشقة الحج، مما يزيد من عدد الحجاج ولا يحل مشكلة الزحام.

وقد أصدرت وزارة الداخلية تعميما يهدف إلى تنظيم الحج وتقليل الزحام حثت فيه المواطنين والمقيمين على الالتزام بالتعليمات والأنظمة التي وضعتها الدولة لتنظيم حجاج الداخل، وعدم الحج إلا بعد الحصول على تصريح نظامي بالحج، والتحذير من حملات الحج الوهمية غير الرسمية وأهمية طاعة ولي الأمر فيما يقره من تعليمات وتنظيمات في هذا الشأن.

أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، والشكر له وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه من خلقه سيد البشر صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر وسلم تسليما كثيرا، أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه واعلموا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- دلنا على بعض الأعمال التي ثوابها يعدل ثواب الحج، لعلنا أن نتشبث فيها ونؤثر عيرنا في أداء مناسك الحج كي نخفف الزحام على حجاج بيت الله:

العمل الأول: أداء العمرة في رمضان فقد روى  جابر –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "عمرة في رمضان تعدل حجة" متفق عليه، وفي رواية "تعدل حجة معي" .

العمل الثاني: المحافظة على صلاة الإشراق: فعن أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة" رواه الترمذي. ‌

العمل الثالث: أداء الصلاة المكتوبة في المسجد، فقد روى أبو أمامة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: " من خرج من بيته متطهرا إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر وصلاة على أثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين" رواه أبو داود. ‌

العمل الرابع: حضور الدروس والمحاضرات في المساجد، فقد روى أبو أمامة –رضي الله عنه- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: "من غدا إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيرا أو يعلمه كان له كأجر حلج تاما حجته" رواه الطبراني وصححه الألباني.

هذه بعض الأعمال التي ينال صاحبها ثواب حج نافلة ولا يسقط عنه حج الفريضة، أسأل الله العظيم أن يحببها لنا ويفقهنا في أمر ديننا.

اللهم أعنا على أنفسنا ويسر الهدى لنا ، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أحينا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وأمتنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا، وابعثنا على أحسن الأحوال التي ترضيك عنا اللهم ارزقنا الثبات حتى الممات، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر،اللهم احفظ علينا أمننا واستقرارنا، وأصلح ولاة أمرنا، وارزقهم بطانة صالحة ناصحة يا رب العالمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداء الدين..

اللهم يا حي يا قيوم أصلح لنا شأننا كله فلا تدع لنا ذنبا إلا غفرته...،

للهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من الجهد والضنك ما نشكوه إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع وأنزل علينا من بركات السماء، واكشف لنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت بنا غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا، اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا، سحا عاما غدقا مجللا، اللهم اسق عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك وأحيي بلدك الميت. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.....

23/11/1429هـ

المشاهدات 670 | التعليقات 0