تقارب الزمان
هلال الهاجري
الحمدُ للهِ الرَّحيمِ الرَّحمانِ؛ نحمدُه حمدًا كثيرًا، ونشكرُه شُكرًا مزيدًا؛ خلقَنا ورزقَنا وأَحيانا ثم يميتُنا ثم يحيينا وإليه مرجعُنا وعليه حسابُنا وجزاؤنا، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له؛ عَظُمَ حِلمُه على عبادِه فأمهلَهم، (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى)، وأشهدُ أن مُحمداً عبدُه ورسولُه؛ اصطفاه اللهُ على العالمينَ، واختارَ له من الأصحابِ أفضلَهم، ومن الزوجاتِ أطهرَهنَّ، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، والتابعينَ بإحسانٍ .. أما بعدُ:
فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ، فَتَكُونَ السَّنَةُ كَالشَّهْرِ، وَيَكُونَ الشَّهْرُ كَالْجُمُعَةِ، وَتَكُونَ الْجُمُعَةُ كَالْيَوْمِ، وَيَكُونَ الْيَوْمُ كَالسَّاعَةِ، وَتَكُونَ السَّاعَةُ كَاحْتِرَاقِ السَّعَفَةِ)، لا إلهَ إلا اللهُ .. يقولُ ابنُ حجرٍ رحمَه اللهُ المتوفى عام 852 للهجرةِ في شرحِ الحديثِ: (فَاَلَّذِي تَضَمَّنَهُ الْحَدِيثُ قَدْ وُجِدَ فِي زَمَاننَا هَذَا، فَإِنَّا نَجِدُ مِنْ سُرْعَةِ مَرِّ الْأَيَّامِ مَا لَمْ نَكُنْ نَجِدهُ فِي الْعَصْرِ الَّذِي قَبْلَ عَصْرِنَا هَذَا)، فماذا عسى أن يُقالَ في زمانِنا نحنُ؟.
ألا ترونَ أيُّها الأحبَّةُ هذا التَّسارعَ العجيبَ في أيامِنا، ما إن نستيقظَ من نومِنا في أولِ النَّهارِ، حتى نَدخلَ مُعتركَ المَعاشِ، وتَدورُ بنا دوَّامةُ الحياةِ، وفجأةً، وإذا نحنُ على فُرُشِنا قد أنهكَنا التَّعبُ، قد انتهى يومُنا، ونبحثُ عن الرَّاحةِ لِيومٍ جَديدٍ، فكيفَ بدأَ اليومُ؟، وكيفَ انتهى؟، وماذا قدَّمنا فيه؟، وهل سيعودُ بعدَ ذلكَ؟، أسئلةٌ كثيرةٌ، نفِرُّ منها، ونصُدُّ عنها، فإلى متى؟.
أليستْ هذه الأيامُ من أعمارِنا، كما قالَ الحسنُ البصريُّ رحمَه اللهُ: (يا ابنَ آدمَ، إنما أنتَ أَيامٌ، كلما ذهبَ يومٌ: ذهبَ بعضُك)، ألم نتدبَّرْ قولَ خالقِنا سُبحانَه وتعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)، فأصحابُ العُقولِ والأحلامِ، يتفكَّرونَ في مرورِ الأيامِ، ويعلمونَ أنَّها تُقرِّبُهم من الخِتامِ، فيملؤنها بخيرِ الأعمالِ والكلامِ.
تَفُتُّ فُؤَادَكَ الأَيَّامُ فَتَّا *** وَتَنْحِتُ جِسْمَكَ السَّاعَاتُ نَحْتَا
وَتَدْعُوكَ الْمَنُونُ دُعَاءَ صِدْقٍ *** أَلاَ يَا صَاحِ أَنْتَ أُرِيدُ أَنْتَا
وانظرْ إلى الأسابيعِ، ما إن يبدأُ الأسبوعُ، حتى نَصلَ إلى نهايتِه، وما إن ينزلُ خطيبُ الجمعةِ، حتى يصعدَ مرَّةً أخرى، وما إن ننتهيَ من سورةِ الكهفِ، حتى نُعيدَ قراءَتَها مرةً أُخرى، أسابيعُ تسيرُ سيراً حثيثاً لا هوادةَ فيه، فهل من وَقفةٍ لنسألَ أنفسَنا في خِضَّمِ تسارعِ عجلةِ الزَّمنِ، ماذا قدَّمنا لأنفسِنا في حياتِنا، وقفةٌ أمرَنا اللهُ تعالى بها في قولِه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)، آيةٌ تستحقُّ منَّا التَّدبرَ والتأملَ طَويلاً، لنكونَ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا.
وأما الشُّهورُ فعَجباً من الأعاجيبِ، فيبدأُ شهرُ رمضانَ، ولا نشعرُ إلا ونحنُ في عشرِ ذي الحِجَّةِ، ثُمَّ إذا نحنُ نصومُ عاشوراءَ، ثُمَّ يُهنىءُ بعضُنا بعضاً بقدومِ شهرِ رمضانَ الآخرَ، الأزمنةُ تتوالى، والأعمارُ تتعالى، والأيامُ تجري فيها جريَ ريحِ سُليمانَ عليه السَّلامُ العاصفةِ، غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ، يخسرُ فيها الخاسرونَ ويربحُ فيها أهلُ الصَّبرِ المؤمنونَ، وصدقَ اللهُ تعالى: (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
إِنَّا لَنَفْرَحُ بِالأَيَّامِ نَقْطَعُهَا *** وَكُلُّ يَوْمٍ مَضَى يُدْنِي مِنَ الأَجَلِ
فَاعْمَلْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ الْمَوْتِ مُجْتَهِدًا *** فَإِنَّمَا الرِّبْحُ وَالْخُسْرَانُ فِي الْعَمَلِ
وأمَّا السُّنونُ فيا حسرتى على السِّنينَ، تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، كأنَّنا فيها على سفينةٍ تدفُعها الرِّيحُ دفعاً، وتسفعُ رؤوسَنا فيها شمسُ الغفلةِ سَفعاً، من سقطَ منها بكيناهُ ساعةً ثُمَّ نَسيناهُ، ومن بقيَ فيها انشغلنا عنهُ وتركناهُ، يحملُنا النَّهارُ إلى اللَّيلِ، ويُعيدُنا اللَّيلُ إلى النَّهارِ، وهكذا في عجلةٍ مُتسارعةٍ جِدَّاً، لا تنتظرُ الشَّمسُ فيها أحداً، واسألْ من بلغَ السِّتينَ أو السَّبعينَ، كيفَ مرَّتْ السُّنونَ؟، وكيفَ تقطَّعتْ الشُّهورُ؟، بل اسمع لمن عاشوا أطولَ مِنَّا عُمراً، ماذا يُجيبونَ ربَّهم على هذا السُّؤالِ: (قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، فاللهمَّ رُحماكَ .. وأيقظْ قلوبَنا بِذكراكَ.
لاحَ شيبُ الرأسِ منِّي فاتَّضحْ *** بَعدَ لَهْوٍ وشَبابٍ ومَرَحْ
فَلَهَوْنَا وفَرِحْنَا، ثمّ لَمْ *** يَدَعِ المَوْتُ لذي اللُّبِّ فَرَحْ
عجيبةٌ هذه الأيامُ، تمرُّ فيها أيامُ السَّعادةِ كأنَّها ساعاتٍ، وتزحفُ فيها ساعاتُ الحُزنِ كأنَّها سنواتٍ، تذهبُ السَّعادةُ بجمالِها، وترحلُ الهمومُ بجبالِها، وتبقى الذِّكرياتُ بأطلالِها.
يموتُ الميِّتُ فنبكي، ويولدُ المولودُ فنفرحُ، ويمرضُ المريضُ فنحزنُ، ويُعافى المُبتلى فَنَسعدُ، نغيبُ عن أصدقائنا قليلاً ثُمَّ نَراهُم في مكانٍ، فإذا قد ظهرَ على وجهِهم ورؤوسِهم آثارُ الزَّمانِ، نلتقي ثُمَّ نفترقُ ونحنُ لا نعلمُ هل سنتلقي مرةً أخرى أم لا؟، حياةٌ مليئةٌ بالمشاعرِ المُختلفةِ، ومعَ ذلكَ لا نريدُ سماعَ الأخبارِ الحزينةِ، ولا فَقْدَ أصحابِ المكانةِ الثَّمينةِ، ونحنُ نعلمُ أننا لو عَمَّرنا فيها فسيتركُنا الأحبابُ، ويفارُقُنا الأصحابُ، ويَذهبُ والآباءُ والأمَّهاتُ، ولنَ يبقَ منهم إلا جميلَ الذِّكرياتِ.
مرَّتْ سُنونٌ بالسُّعودِ وبالهَنا *** فكأنَها مِنْ قِصْرِها أيَّامُ
ثمَّ انْثنتْ أيامُ هجرٍ بعدَها *** فكأنها منْ طولِها أعوامُ
ثمَّ انقضت تلكَ السُّنونُ وأهلُها *** فكأنَّها وكأنَّهُمْ أحلامُ
أستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمؤمنينَ من كلِّ ذَنبٍ، فاستغفروه حقًّا، وتوبوا إليه صِدقًا، إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والعاقبةُ للمتقينَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وليُّ الصالحينَ، وأشهدُ أن محمداً رَسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ .. أما بعد:
أيُّها الأحبَّةُ .. إننا نَخافُ مع تسابقِ السَّاعاتِ، وقِلةِ البركةِ في الأوقاتِ، وحِرصِنا على تحصيلِ أكبرِ قَدرٍ من الثَّرواتِ، لتأمينَ مُستقبلِ البنينَ والبناتِ، أن يَصدقَ علينا قولُه تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ).
فالحذرَ الحذرَ، وعلينا أن ننتبهَ من الغفلةِ، وأن نعلمَ أنَّه لا ينفعُ مع هذا التَّسارعِ في الزَّمانِ، وفي ظلِّ تتابعِ الأفراحِ والأحزانِ، إلا الإيمانُ بقضاءِ اللهِ تعالى، والتَّسليمُ لأقدارِه، وأن نعلمَ حقيقةَ الدُّنيا التي وصفَها خالقُها سبحانَه وتعالى بقولِه: (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
والبِدارَ البِدارَ، بالعملِ واستغلالِ الأوقاتِ، ولِنَعْمُرَ أَيامَنا بالطَّاعاتِ، قالَ الحسنُ البَصريُّ رحمَه اللهُ: (الدُّنيا ثَلاثةُ أيامٍ: أما الأمسُ فقد ذهبَ بما فيه، وأما غداً فلعلكَ لا تُدركُه، وأما اليومُ فلكَ فاعمل فيه)، إذاً نحتاجُ إلى تركيزٍ، ذكرٌ للهِ تعالى وعبادةٌ، وفرحٌ بقدرِ اللهِ وسعادةٌ، ونملأُ وقتَنا الحالي بما ينفعُ، ولا نجعلْ حُزنَ الماضي يفترسُنا، ولا همَّ المستقبلِ يأسرُنا، فمنْ عاشَ ماتَ، ومن ماتَ فاتَ، وكلُّ ما هو آتٍ آتٍ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ قُلُوبَنَا مُطْمَئِنَّةً بِحُبِّكَ، وَأَلْسِنَتَنَا رَطْبَةً بِذِكْرِكَ، وَجَوَارِحَنَا خَاضِعَةً لِجَلاَلِكَ، اللَّهُمَّ أَحْسِنْ عَاقِبَتَنَا فِي الأُمُورِ كُلِّهَا، وَأَجِرْنَا مِنْ خِزْيِ الدُّنْيَا وَعَذَابِ الآخِرَةِ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَارِنَا أَوَاخِرَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ نَلْقَاكَ، اللهمَّ اهْدِنَا لأِحْسَنِ الأَخْلَاقِ والأَقْوَالِ وَالأَعْمَالِ لاَ يَهْدِي لِأحْسَنِها إِلاَّ أَنْتَ وَاصْرفْ عَنَّا سَيِّئهَا لَا يَصْرِفُ عَنَّا سَيِّئَها إِلاَّ أَنْتَ، اللهم آمنا في أوطانِنا وأصلح أأمتَنا وولاةَ أمورِنا، اللهم ألفْ بين قلوبِ المسلمينَ واجمع كلمتَهم على الحقِّ واهدهم سبلَ السلامِ يا ربَّ العالمينَ.
المرفقات
1669802535_تقارب الزمان.docx
1669802545_تقارب الزمان.pdf