تَفَكَّكُ الأُسْرَةُ وَهَدَمْ الأُلْفَــةَ والْمَوَدَّةَ
سعود المغيص
الخطبة الأولى :
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً.
أمّا بعد عباد الله:
اتقوا الله تعالى وتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تَعَالى: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ )، وإيَّاكُمْ أَنْ تَغْفَلُوا عَنْ ذلكَ، وَلْتَكُنْ عَدَاوَتُهُ دائِمًا عَلَى بالٍ، فَإِنَّه يَراكُمْ وأَنْتُمْ لا تَرَوْنَه، وَهُوَ دائِمًا لَكُمْ بِالْمِرْصادِ.
وأَعْظَمُ أَمْرٍ يَتَعَلَّقُ بِعَدَاوَتِه: هُو السَّعْيُ في الوُقُوعِ في الشِّرْكِ والكُفْرِ والبِدَعِ والضّلالاتِ، التي تَصُدُّ الناسَ عَنْ دِينِهِمْ.
ثُمَّ بَعْدَ ذلكَ : يَنْتَقِلُ إلى الخُطْوَةِ الثانِيَةِ التي هِيَ مِنْ أَهَمِّ مُهِمَّاتِه، ألَا وَهِيَ تَفَكُّكُ الأُسْرَةِ، قال صَلى اللهُ عَليه وسلم: ( إنَّ إبليسَ يضَعُ عَرْشَه عَلَى الماءِ، ثمَّ يَبْعَثُ سَرَاياهُ، فَأَدْناهُم مِنْهُ مَنْزِلةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قال: ثمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقَولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَه وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ ). فأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ إِبْليسَ يَبْعَثُ جُنْدَه كُلَّ يَوْمٍ، وأَنَّ أَقْرَبَ جُنْدِه مِنْه، أَكْثَرُهُم إِفْسادًا وإِضْلَالًا، وأَنَّ أَشَدَّهُمْ إِفْسادًا مَنْ يَقُولُ: ( مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَه وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ )، أَيْ بَذَلْتُ جُهْدِي وَكُلَّ ما أُوتِيتُ مِنْ قُوَّةٍ، حَتَّى هَدَمْتُ البَيْتَ، وَهَدَمْتُ الأُلْفَةَ والْمَوَدَّةَ التي بَيْنَ فُلانٍ وَزَوْجَتِه، وأَلْقَيْتُ بَيْنَهُما العَدَاوَةَ والبَغْضاءَ، وَما تَرَكْتُ الزَّوْجَ حَتَّى طَلَّقَ زَوْجَتَه، أَوْ جَعَلْتُ زَوْجَتَه تَطْلُبُ الخُلْعَ مِنْه. فَيَقُولُ لَه: ( نِعْمَ أَنْتَ )، أيْ نِعْمَ الجُنْدِيُّ أَنْتَ، لِأَنَّه بِالطَّلاقِ : تَتَفَكَّكُ الأُسْرَةُ، وَيَنْقَطِعُ النَّسْلُ، ويَسْهُلُ الزِّنا وأسْبابُه، وَتَضِيعُ الرَّقابَةُ عَلى الأَوْلادِ والنِّساءِ، فَتَنْتَشِرُ الجَرِيمَةُ، ويَكْثُرُ التَّباغُضُ والتَّشاحُنُ والعَدَاواتُ والفِتَنُ، والأَضْرارُ عَلى المُجْتَمَعِ وَبُنْيَتِهِ وَتَماسُكِهِ. وكُلُّ هَذِهِ الْمَفاسِدِ، مِنْ أَعْظَمِ مَقاصِدِ إبْلِيسَ.
فَيَدُلُّ هذا الحَدِيثُ : عَلَى عِظَمِ شَأْنِ الطَّلاقِ وَخَطَرِهِ.
وَيَدُلُّ : عَلَى أَنَّ السَّعْيَ في الإِفْسادِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، مِنْ أَشَدِّ أَنْواعِ الفَسادِ فِي الأَرْضِ. ويَلْزَمُ مِنْ ذلكَ أَنَّ السَّعْيَ في الإِصْلاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، مِنْ أَعْظَمِ أَنْواعِ الإصْلاحِ في الأَرْضِ.
وَهَذا أَعْظَمُ واعِظٍ لَنا في إِدْراكِ خُطُورَةِ هذا الأَمرِ، والوُقُوفِ ضِدَّهُ، والسَّعْيِ فِي تَوْعِيَةِ الناسِ، خُصُوصًا الشَّبابَ، مَعَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ هُمَا نَواةُ الْمُجْتَمَعِ، ولَبِنَتُهُ الأُولَى، مِمَّا يَجْعَلُ كُلًّا مِن الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ الإِقْدامِ عَلى الزَّواجِ، أَنْ يَحْرِصَ عَلَى حُسْنِ الاخْتِيارِ، وأَنَّ الْمُؤَهَلَ الأَوَّلَ هُوَ الدِّينُ والخُلُقُ.
وَيَجِبُ عَلَى الشابِّ قَبْلَ زَواجِهِ ، أَنْ يَتَعَلَّمَ الواجِباتِ الْمَنُوطَةَ بِهِ، وحُقُوقَ الزَّوْجَةِ عَلَيْهِ، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ( اسْتَوْصُوا بِالنِّساءِ خَيْرًا )، وقال أيضًا: ( خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ ) وَيَجِبُ عَلَى الشابِّ أَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّ النَّقْصَ في الزَّوْجَةِ لابُدَّ مِنْهُ، وأَنَّ الكَمالَ مُتَعَذِّرٌ، قالَ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ ) أيْ لا يُبْغِضْ زَوْجٌ زَوْجَتَه، وُيُبالِغْ في كُرْهِها، فَيُؤَدِّي ذلكَ إلى ظُلْمِها، وتَرْكِها والإِعْراضِ عَنْها، ولْيَنْظُرْ إلى ما عِنْدَها مِنْ مَحاسِنٍ، وَيَتَغاضَى عَنْ بَعْضِ ما يَكْرَهُهُ مِنْ تَصَرِّفاتِها، لِأَنَّ الحَياةَ لا تَسْتَمِرُّ بِدُونِ ذلك، قال تعالى: ( فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية :
الْحَمْدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إلهَ إِلا اللهُ وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً أمّا بعد عباد الله:
اتقوا الله تعالى واعلموا أنه وَيَجِبُ عَلَى الشابَّةِ أَنْ تَعْلَمَ بِأَنَّ الْمَرْأَةَ راعِيَةٌ في بَيْتِ زَوْجِها وَوَلَدِهِ، وأَنَّ هذِهِ هِيَ سُنَّةُ اللهِ في البَشَرِ، فَإذا خُولِفَتْ، فَسَدَ أَمْرُ البَشَرِيَّةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُسَخِّرَ إْمْكاناتِها في ذلك.
وأَنْ تَعْرِفَ أيْضًا مَكانَةَ الزَّوْجِ بِالنِّسْبَةِ لَها، وَحَقَّه الذي أَمَرَ اللهُ بِالقِيامِ بِهِ، فَإنَّ هذا مِنْ أَعْظَمِ ما يُعِينُها عَلَى القِيامِ بِحَقِّهِ، ويَجْعَلُها لا تَلْتَفِتُ لِمَا تَسْمَعُه مِنْ جُنُودِ إبْلِيسَ السَّاعِينَ بِإِفْسادِ النِّساءِ عَلى أَزْواجِهِنَّ، فَإِنَّ اللهَ جَعَلَ الزَّوْجَ سَيِّدًا لِزَوْجَتِهِ، فَقال سُبْحانَهَ لَمَّا ذَكَرَ امْرَأَةَ العَزِيزِ: ( وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى البابِ )، مَعَ العِلْمِ أَنَّها أَمِيرَةٌ، وَمِنْ أَهْلِ الشَّرَفِ والْمَكانَةِ، وَمَعَ ذلكَ أَخْبَرَ اللهُ أَنَّ زَوْجَها سَيِّدُها.
وَبَيَّنَ اللهُ أَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ، أَعْظَمُ مِنْ حَقِّ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِها، فَقالَ سُبْحانَه: ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ )، أَيْ رِفْعَةٌ ورِياسَةٌ، وَزِيادَةُ حَقٍّ عَلَيْها.
وَشَرَعَ اللهُ تَعَالَى خِدْمَتَها لَهُ فِيما تَقْدِرُ عَلَيْهِ، ولِذَلكَ كانَتْ فاطِمَةُ رضي الله عنها، بِنْتُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عَليه وسلم، وَسَيِّدَةُ نِساءِ أَهْلِ الجَّنَّةِ، تَخْدُمُ زَوْجَها عَلِيًّا رضي اللهُ عَنه، حَتَّى أَثَّرَتْ فِيها الخِدْمَةُ وأَتْعَبَتْها.
وَمِنْ أَدِلَّةِ وُجُوبِ خِدْمَتِهِ، قَوْلُ النبيِّ صلى اللهُ عَليه وسلم: ( لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ) فَإِنَّ هذا الحديثَ يَدُلُّ عَلى أَنَّه لابُدَّ مِنْ إِذْنِه، وَلَوْ لَمْ يُرِدْ جِماعَها والاسْتِمْتاعَ بِها. لِأَنَّ مُراعاةَ الزَّوْجِ وَخِدْمَتَه واجِبَةٌ في الأُمُورِ الْمُعْتادَةِ، مِن الطَّعامِ والشَّرَابِ واللِّباسِ.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبينا محمد
رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّياتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجْعَلنا لِلمُتَّقِين إِمَاما.
اللهم اهدنا لأحسنِ الأخلاق لا يهدي لأحسنِها إلا أنت واصرف عنّا سيئها لا يصرف عنّا سيئها إلا أنت .
اللهم آتِ نفُوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليّها ومولاها، اللهم وفقنا لما يرضيك عنّا وجنبنا ما يسخط علينا .
اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين
اللهم وفق ولاة أمرنا بتوفيقك ، وأيّدهم بتأييدك ، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة،
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.