تفسير رفض برلمان باكستان المشاركة في "العاصفة"وآثاره / أمير سعيد

احمد ابوبكر
1436/06/24 - 2015/04/13 02:44AM
[align=justify] فيما كانت العواصم تعلن مواقفها من عملية عاصفة الحزم التي أعلنتها السعودية في الأسبوع الأخير من مارس الماضي بقيادتها ومشاركة عدد من الدول الخليجية والعربية الأخرى، كانت الأنظار تتجه إلى دول بعينها يكتنف مواقفها غموض حيال صراعات لم تختبر إراداتها أو نواياها تجاهها.

باكستان، واحدة من تلك الدول المؤثرة والفاعلة في حال ألقت بثقلها في العملية العسكرية الدائرة في اليمن لاسيما في الحرب البرية المتوقعة، وواحدة من أبرز الدول التي احتاجت لأن توضع على محك الاختبار في صراع إقليمي كهذا.

لا تقع باكستان في بؤرة الصراع، لكنها تقع في بؤرة عدسته الأسيوية، حيث تفصل بينها وبين مناطق التأثير في الحرب اليمنية مسافات شبه متساوية، ومصالح متعاكسة إلى حد بعيد.. يحدوها ذلك إلى أن تتخذ موقفاً محايداً من أطراف الحرب..

ليس الحياد محموداً في كل حال، وفي تلك الحال؛ فإن الحياد قد يراه البعض على أنه يعني ميلاً تجاه الطرف الإيراني، كونه يبعد حليفاً مهماً عن التحالف الذي تقوده السعودية، لكن تحاول باكستان من خلال رئيس وزرائها نواز شريف زعيم حزب الرابطة الإسلامية أن يفند هذا الشعور، بتشديده الدائم على تعهد بلاده بمساعدة السعودية عسكرياً إن تعرضت لاعتداء.. وهو تعهد نظري أكثر منه شيئاً آخر، إذ يستبعد أن تقدم إيران على ارتكاب حماقة سياسية كهذه بشكل مباشر، حيث لا يتسع المجال الخليجي لمقامرة كمثل هذه، وإنما يمكنها اللعب بأوراق أخرى خلاف ذلك.

ظُن للوهلة الأولى، أن حزب نواز شريف الذي يتضاءل التأثير الإيراني، الأيديولوجي تحديداً، عليه، قد يكون أكثر تجاوباً مع التطلعات الخليجية بالمشاركة المباشرة في عملية عاصفة الحزم، كونه الحزب الذي حصل على أكبر نسبة من المقاعد في البرلمان الباكستاني، وبتفوق كبير على الأحزاب القريبة من إيران، والتي تهيمن عليها أقليات شيعية، سواء أكانت إسماعيلية أو إثني عشرية، كحزب الشعب الباكستاني (الذي ظلت عائلة بوتو الإسماعيلية تقوده لعقود)، لكن بكل تأكيد، إن كان لدى حزب الرابطة الإسلامية هذه المزية عن غيره، فليس هذا هو أكبر العوامل التي يمكنها أن تحكم مشاركة في عملية حساسة كعاصفة الحزم، أعني العامل الأيديولوجي، بل إن هذا العامل نفسه ليس محكوماً فقط بمن هم في سدة الحكم ظاهرياً في باكستان؛ فحينما نتحدث عن باكستان، فأذهاننا لابد أن تذهب باتجاه العسكر، مصالحهم، وتوجهاتهم السياسية، وليس التأثير الإيراني حتى لدى هؤلاء محدوداً لهذه الدرجة، وإلا لما رأينا بعضاً من كبار الجنرالات الباكستانيين متعاطفين مع إيران بدرجة أو بأخرى، ولأسباب بعضها طائفي أيضاً.

وإذا كانت حسابات الورقة والقلم تقود إلى تخيل سيطرة كبيرة لشريف على القرار الباكستاني، كون حزب الرابطة حصد نحو أربعة أضعاف نسبة أقرب منافسيه إليه في الانتخابات البرلمانية قبل عامين، من دون أن يحرز أغلبية مطلقة، إلا أن شريف بدا ضعيفاً جداً العام الماضي، حينما أرادت قوى مرتبطة بالعسكر والغرب أن تحجم نفوذه بدرجة كبيرة؛ فافتعلت "ثورة" عمران/قادري الهزيلة التي أفسح لها المجال لتحتل مناطق وأماكن شديدة الحساسية في العاصمة، فيما بدا أنها "قرصة أذن" لنواز شريف، سرعان ما تركت أثرها على سياسة بلاده الداخلية والخارجية (كان شريف يريد محاكاة نموذج أردوغان في تحجيم العسكر، لكن لم تأت الرياح بما تشتهيه سفينته).
على أية حال؛ فالبرلمان الباكستاني ليس تعبيراً مطلقاً عن الديمقراطية؛ فتأثير التوجه الاستراتيجي للدولة الذي يرسمه الجنرالات واضح عليه.

وللتوجه الاستراتيجي هذا ما يمكن تفهمه من حيث المصالح العليا للبلاد، والتي لا تفرضها بالضرورة تطلعات الحلفاء، ومنها ما يدخل في سياق التأثير "غير الوطني" الذي لا يمكن تبريره، كمثل علاقة العسكر بالولايات المتحدة، والتي قد يبدو القرار الأخير لبرلمان باكستان متناغماً مع اللون السياسي الذي اختارته واشنطن لتعاطيها مع الأزمة اليمنية، ومع حلفائها تحديداً في الخليج، وهو اللون الرمادي الذي يمنح العملية تأييداً خجولاً لا يتسق مع متانة العلاقات بين واشنطن والعواصم الخليجية.. هذا اللون انصبغت به قرارات دول أخرى في المنطقة، وبدا أن الإرادة الأمريكية حاكمة على أكثر من عاصمة لم تكن بالحماسة ذاتها التي ظلت عواصم خليجية مفعمة بها. ومنها، أعني التأثير "غير الوطني"، هو ما يربط بعض القيادات العسكرية والنخب السياسية بطهران بشكل خاص قد يتعارض مع المصلحة العليا لباكستان.

لكن ما يعنينا أكثر، هو ما يندرج في سياق "المصلحة العليا الباكستانية"، والتي تجعلها تقدم قدماً، وتؤخر أخرى في تأييد عاصفة الحزم، وفي قلبه العلاقة الاستراتيجية بين باكستان وإيران.

ومن أهم مصالح باكستان العليا تلك في اتخاذها موقفاً متزناً بين أطراف الصراع، الحرص على استقرار الأوضاع في باكستان ذاتها؛ فليس خافياً على صناع القرار الباكستاني قوة التأثير الإيراني الشيعي داخل باكستان حيث يدين ما تقدره بعض المصادر الباكستانية بما بين 10 -20 مليون بالعقيدة الشيعية الإمامية، وتعود مرجعية كثير من هؤلاء لمرجعيات إيرانية في قم وطهران لها مكانة كبرى في السياسة الإيرانية (بعضهم يخض مباشرة لمرجعية خامنئي ومن قبله الخميني المنحدر من جذور هندية)، ويمكن لهؤلاء بإشارة من قم أن يحدثوا قلاقل كبيرة في باكستان تتضاءل أمامها الاضطرابات التي أحدثها شيعة باكستان حينما أراد الرئيس الأسبق لباكستان ضياء الحق تقنين الشريعة الإسلامية في باكستان؛ فقتل المئات في معركة إيران رفض فرض الشريعة "السنية" على "الشيعة"!..

كذلك؛ فإن باكستان وإيران يتقاسمان الهموم ذاتها حول الأقلية البلوشية في البلدين؛ فباكستان التي تخشى النزعة الانفصالية (أو الاستقلالية) لدى نحو عشرة ملايين من البلوش في إقليم بلوشستان الحدودي مع إيران، والذين يطمحون إلى إعلان "دولة بلوشستان الكبرى" التي تقع معظم أراضيها في باكستان، والجانب الأصغر في إيران، وكلا البلدين برغم التوتر بينهما في هذا الملف، وإلقاء كليهما مسؤولية تدهور الأوضاع الحدودية أحياناً على الآخر، إلا أنهما معنيتان بإنضاج تفاهم مشترك حول القضية ذاتها، لاسيما أن جيش العدل الناشط في الجانب الإيراني بدأت ضرباته توجع القوات الإيرانية بعمليات نوعية تتصاعد في الآونة الأخيرة، كما أن انزعاج الدول العربية من التمدد الإيراني قد يعقبه تحريك قضايا الأقليات في إيرانية، ومنها البلوش بما يحتاج من طهران لتنسيق أكبر مع إسلام آباد في المرحلة القادمة. وكذلك يبدو وضع بلوشستان الكبرى التي تقتطع جزءاً كبيراً من باكستان في "خارطة الدم" التي سوق لها مركز أمريكي عسكري قبل سنوات، أثارت إزعاجاً كبيراً لدى إسلام آباد، لاحتمالات تعرض باكستان لضغوط أمريكية تحت لافتة حقوق الأقليات في باكستان.

بينهما أيضاً، قضية الغاز الإيراني الذي دشن البلدان مشروع خطوط نقله إلى الهند مروراً بباكستان التي تعاني من أزمة طاقة كبيرة وصلت إلى أرقام عجز قياسية في الغاز بما انعكس على مشكلة انقطاع التيار الكهربائي، لحد بلغ فترات زمنية طويلة جداً حتى في العاصمة إسلام آباد (في بعض الأوقات انقطع التيار لأكثر من عشرين ساعة في اليوم). وتفضل باكستان استيراد الغاز الإيراني عبر خطوط الغاز عن استيراده من تركمانستان عبر خط أنابيب يصل عبر أفغانستان، أو استيراد الغاز المسال من قطر. ومن جانبها؛ فإن إيران التي ترتبط بعلاقات اقتصادية كبيرة مع الهند لا يمكنها توصيل الغاز إلا بطريقين إما عبر باكستان بخطوط برية أو بحرية مباشرة ووفق تفاهمات دولية، ولاشك أن الأول أوفر سعراً وأكثر أمناً وصيانة.. لكنها ربما ستلجأ للأخير اضطراراً بعدما تراجعت الهند عن مشاركتها في هذا الخط تجنباً لمرور الخط في أراضي عدوها الأول، باكستان.

كلا البلدين يحتاج الآخر في هذا المجال، وكلاهما معني بثبات تلك العلاقات الاقتصادية التي تمتد من الغاز إلى النفط الإيراني وإمكانية تكريره في باكستان (تصدر إيران النفط وتستورد البنزين). وكلاهما يرتبط اجتماعياً وثقافياً بالآخر بشكل كبير، فيكفي أن يعلم أن لإيران أربع قنصليات في المدن الباكستانية، وخمس ممثليات ثقافية في لاهور وبيشاور ومالتان وروالبندي وحيدر آباد، ومركز لدراسة اللغة الفارسية في إسلام آباد.

بعض ما تقدم يحكم التحرك الباكستاني باتجاه عاصفة الحزم، وفي مقابله علاقات وثيقة مع السعودية، ومصالح اقتصادية مشتركة مع دول الخليج، ويكفي أن يعلم أن الإمارات وحدها تعد ضمن أكبر خمس دول تستثمر في باكستان، ولديها حجم تجارة مع باكستان تبلغ 18 ضعفاً ما بين باكستان وإيران (حيث قدرت بنحو 9 مليار دولار العام الماضي)، لكن لا يعلم ما إذا كانت الإمارات ذاتها تتطابق رؤيتها تماماً حيال عاصفة الحزم مع السعودية، الدولة التي تقود تحالف العملية العسكرية في اليمن.

لكن إن نفضت باكستان يديها عن تلك العملية، واقتصرت على التأييد الفظي لها؛ فإن لهذا آثاراً بعضها آني، وبعضها استراتيجي بعيد المدى؛ فقد لوحظ على الفور الإعلان عن مشاركة مصرية في القصف الجوي لمواقع الحوثيين وقوات صالح، كما لفت النظر تصريح مفتي المملكة بشأن المطالبة بتجنيد إجباري للشباب السعودي، بما يعني أن ثمة أفكاراً على المدى المتوسط والبعيد تأخذ في اعتبارها تلك المواقف المتأرجحة لدول حليفة.

يبدو من آثار قرار البرلمان الباكستاني حول تأييد مشروع قرار للحياد في الصراع الدائر في اليمن، تعزيز فرص احتمالات عدة، يتعلق بعضها بالعلاقة السعودية مع القاهرة، وبعضها يعاكسه ويتعلق بتزايد الحاجة لفعالية أكبر من اللجان الشعبية اليمنية لتقليل الحاجة لتدخل بري خارجي، وهذا يقوي من فرص انخراط التجمع اليمني للإصلاح، وقبائل قريبة منها كالأحمر، في القتال بتشجيع وربما مساعدة من دول خليجية (وهذا لن ترتاح له القاهرة بالطبع)، وكذا؛ فإن احتمال طول فترة القصف الجوي أضحت واردة أكثر مما سبق لها من تقديرات، بالنظر إلى الرغبة في جعل الحاجة للعمل البري في حده الأدنى المتاح، أيضاً، بدأ التذبذب الباكستاني جلياً في تأثيره على القرار التركي، الذي سرعان ما تبلور في مطلب لحل سلمي للأزمة اليمنية، تقوده كلا من السعودية وإيران. وهذا يقوي معسكر "الفريق الثالث"، الذي يسعى لإنهاء العملية بأسرع وقت ممكن ويدفعها إلى طاولة مفاوضات، لا تستثني أي "طرف" من المعادلة اليمنية، بما يمنح الحوثيين فرصة للمشاركة في الحكم بعدما تلطخت أيديهم بالدماء اليمنية، وساهموا في انقلاب على نظام معترف به دولياً.

لكن مهما يكن من أمر؛ فإن عملية عاصفة الحزم، وإن لم تعد هادي مرة أخرى لسدة الحكم في صنعاء، إلا أنها أضعفت كثيراً من خصومه، وأوجدت واقعاً جديداً على الأرض، وحرمت الحوثيين من مزية التفوق على خصومهم، وأبقت معادلة الصراع الداخلي ضمن حيز الممكن بالنسبة للمقاومة اليمنية ولجانها الشعبية.. هذا كله، يخصم من آثار قرار البرلمان الباكستاني، وأمثاله، ويضع القاطرة على سكة جديدة تماماً، فليس ما كان قبل ليلة 26 مارس كمثل ما تلاها..

المصدر: المسلم
[/align]
المشاهدات 916 | التعليقات 0