تَـــــــــــــــدَارَكْ

راشد بن عبد الرحمن البداح
1442/09/10 - 2021/04/22 14:36PM

الحمدُ للهِ حَمْدًا كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيهِ، كما يُحبُ ربُنا ويَرضَى، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه شهادةً فرضًا، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه؛ خيرُ أهلِ الأرضِ  طُولاً وعَرْضًا، فصلَّى اللهُ وسلمَ عليهِ تسليمًا هوَ أَحْضَى. أما بعدُ: فالتقوَى التقوَى، فهذا شهرُها الأقوَى.

جاءَ مَلْهوفًا خائفًا، وهوَ يقولُ: احْتَرَقْتُ! هلِ اشتعلتِ النارُ بجسدِهِ أو بيتِهِ؟! لا.

دَخَل [يَدْعُو وَيْلَهُ  ] ([1])وَيَقُولُ: هَلَكَ الأَبْعَدُ. هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «وَمَا أَهْلَكَكَ؟» قَالَ: وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي فِي رَمَضَانَ وَأَنَا صَائِمٌ ([2]).

فجعلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعدِّدُ عليهِ الكفارةَ بالتدريجِ: هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا؟ هَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ؟ هَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا». وفي كلِ ذلكَ يقولُ الرجلُ: لاَ

فقَالَ: «اجْلِسْ» فَجَلَسَ، [فجاءَه رزقُهُ من حيثُ لا يَحتسبُ ]، فَأُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتَمْرٍ. فقَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ؟» «أَيْنَ المُحْتَرِقُ»([3]).فَقَالَ: أَنَا، قَالَ: «خُذْهَا، فَتَصَدَّقْ بِهِ» فَطمعَ الرَّجُلُ [المسكينُ  ] فقَالَ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَ لاَبَتَيِ المدينةِ أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ [الرحيمُ  ] صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ أَنْيَابُهُ، [تعجُبًا منه، حيثُ جَاءَ خَائِفًا، ثم انقلبَ طامِعًا  ] ثُمَّ قَالَ: «أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ»([4]).

قصةٌ مفيدةٌ مليئةٌ بالعَجَبِ، وَقَدِ استخرَجَ منها أحدُ العُلَماءِ أَلْفَ فَائِدَةٍ فِي مُجَلَّدَيْنِ([5]).ومن أعجَبِ فوائدِها أن المؤمنَ قد يَضعُفُ عنِ العملِ، بل قد يقعُ في الحرامِ، ولكنهُ يَتدارَكُ! فيخافُ، ثم يندمُ، فيتوبُ، فيكونُ بهذا مُتقيًا!

عجبًا! كيف يكونُ متقيًا وهوَ قد ارتكبَ محرمًا وفي رمضانَ.

الجوابُ خذْهُ من كتابِ ربِكَ، فإنه –سبحانَه- لما ذكرَ الجنةَ، وأنها:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} ثم ذَكَرَ صفاتِهم، ومنها أنهمْ: {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

ياللهِ العَجَبُ! مُتقونَ يَفعلونَ فواحشَ؟! نعمْ لأنهمَ لما أذنَبوا {ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}. ولأنهمْ {لَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

فيا مَن أدرَكَ شهرَ رمضانَ المباركَ تَدَارَكْ. وما يُدريكَ؛ لعلكَ تُلِحُ وتُلِحُ، ثم يَنظرُ اللهُ إلى قلبكَ، فيعطيكَ أكثرَ مما سألتَ، ويقالُ لكَ في لحظةِ ضعفٍ: {فَبَشَّرْنَاهُ}.

تَدَارَكْ، فقد كانَ نبيكَ e يتَدَارَكُ: فاتتهُ راتبةُ الظهرِ البعديةُ فقضاها بعدَ العصرِ، وكَانَ إِذَا لَمْ يُصَلِّ أَرْبَعًا قَبْلَ الظُّهْرِ صَلاَّهُنَّ بَعْدَهَا([6]). وإِذَا فَاتَهُ الْقِيَامُ مِنَ اللَّيْلِ صَلَّى ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً مِنَ النَّهَارِ "([7]). بل فاتَه اعتكافُ رمضانَ فقضاهُ في شوالَ.

أيُها الصائمُ: أتدريْ ما معنى عدمِ القبولِ في رمضانَ؟

‏معناهُ كأنكَ تسلمتَ ورقةَ الأسئلةِ، ومعَها ورقةُ إجابةٍ نموذجيةٍ، ومع ذلكَ رسبتَ في الامتحانِ! فاللهم ارحمْنا ولا تحرِمْنا.

قالَ ابنُ رجبٍ: لما كثُرتْ أسبابُ المغفرةِ في رمضانَ كانَ الذي تفوتُه المغفرةُ فيه محرومًا غايةَ الحرمانِ([8]).

فلنبادرْ أيامَ شهرِنا فإنَ اللهَ قَلَّلَها فقالَ: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}. ذهبَ ثلثُها، والثلثُ كثيرٌ، ولنتذكرْ أنَ التعبَ ذَهَبَ، ولكن ثَبَتَ الْأَجْرُ إِنْ شَاءَ اللهُ.

وإن سرعةَ الأيامِ لَمُخيفةٌ، والأحداثَ تتسارَعُ مِن حولِنا، والأمواتَ يتساقطونَ أمامَنا {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ}

فاللهم لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، ظَلَمْنا نُفُوسَنَا وَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنَا، فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا جَمِيعًا، إِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ.
الحمدُ للهِ مُولِينا، ومُعطِينا، والصلاةُ والسلامُ على داعِينا وهادِينا، أما بعدُ:

فتخيَّلْ أننا الآنَ صباحَ العيدِ، وأنتَ تطرحُ على نفسِكَ أسئلةً:

هلْ أنا ممن غُفرَ له ما تقدمَ من ذنبهِ؟!

هلْ حافظتُ على كل صلوات رمضان وعددُهُن مائةٌ وخمسون صلاة؟

هلْ صليتُ التراويحَ التي مدتُها عشرونَ دقيقةً، لأُحصِّلَ قيامَ ليلةٍ تمتدُ عشرَ ساعاتٍ؟

هلْ ختمتُ ختماتٍ؟ هل أكثرتُ الدعواتِ؟

فيا نائمًا عن صلواتٍ: تَدَارَكْ. ويا مُشاهِدًا محرماتٍ: تَدَارَكْ. ويا مُفَوّتًا ختماتٍ: تَدَارَكْ. ويا من غَزَاهُ الشَيبُ: تَدَارَكْ. ويا من تمضي أيامُ عمره: تَدَارَكْ.

جاءَ رجلٌ إلى عمرَ رضيَ اللهُ عنه، فقالَ: فاتَتْني الصلاةُ الليلةَ، فقال: أدرِكْ ما فاتَكَ مِن ليلتِكَ في نهاركَ، فإن اللهَ (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)([9]).

·      فاللهمَّ أعِنَّا على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عَبَادَتِكَ.

·      اللهمَّ وَفِّقْنا للصَّالِحَاتِ قَبْلَ المَمَاتِ، وأرْشِدْنَا إلى اسْتِدْرَاكِ الهَفَواتِ مِنْ قَبْلِ الفَوَاتِ. وألْهِمْنا أَخْذَ العُدَّةِ للوَفَاة قَبْلَ المُوَافَاةِ، وارْفَعْ عنَّا خَطَايَا الخُطُوَاتِ إلى الخَطِيْئَاتِ.

·      اللَّهُمُّ اِحْفَظْ بِلَادَنَا بِالْأَمْنِ وَالْإيمَانِ وبالسَّلامَةِ مِنَ الآفَاتِ ومِنَ المُحْدَثَاتِ.

·      اللَّهُمَّ واكفِنا شرَ الوباءِ بقدرتِكَ، وارفعهُ برحمتِكَ.

·      اللَّهُمَّ عُمَّ أَوْطَانَ الْمُسْلِمِينَ بِالْخَيْرِ والصحةِ وَالسَّلامِ.

·      اللَّهُمَّ وَاِحْفَظْ مجاهِدينا ومُرابِطِينا فِي ثَكَنَاتِهِمْ وَتَفْتِيشَاتِهِمْ، واخلفُهُمْ فِي أَهْلِيِهِمْ بِخَيْرِ.

·      اللَّهُمَّ احْفَظْ لَنَا مَلِكَنَا وَأَمِدَّهُ بِالصِّحَّةِ فِي طَاعَتِكَ، وَمَصْلَحَةِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ.

·      اللَّهُمَّ أَعِنْ وَلِيَّ عَهْدِهِ وَارْزُقْهُم بِبِطَانَةٍ صَالِحَةٍ نَاصِحَةٍ.

·      اللهم صلِّ وسلِّمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }



([1])موطأ مالك (803) ومسند أحمد (6944)
([2])صحيح البخاري (6709) وصحيح مسلم (1111)
([3])صحيح البخاري (1935 )
([4])صحيح البخاري (1936)
([5])فتح الباري لابن حجر (4/ 173)
([6])سنن الترمذي (426 )
([7])مسند أحمد (26219 ) وصححه الأرناؤوط.
([8])لطائف المعارف لابن رجب (ص: 211)
([9])تفسير الطبري (19/ 290)

المرفقات

1619102144_تَدَارَكْ.pdf

1619102154_تدارَكْ.docx

المشاهدات 894 | التعليقات 0