تعظيم النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفسِنا، ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مُضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء: 1]، أما بعد:

 

أيها المسلمون: لقد سمى الله -تعالى- نفسه بالعظيم، والعظمة التي اتصف بها -سبحانه- عظمة كاملة غير منقوصة ومطلقة غير مقيدة؛ فليس له شبيه في عظمته ولا مثيل في أقواله وأفعاله، وصدق الله إذا قال في كتابه العزيز: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)[الشورى:11]، والمعنى المراد في هذه الآية الكريمة؛ كما يقول العلامة السعدي -رحمه الله-: " أي: ليس يشبهه -تعالى- ولا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فليس كمثله شيء، لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه".

 

عباد الله: إن من عرف عظمة ربه ومولاه امتلأ قلبه بتعظيمه؛ ولن يبلغ العبد منتهى التعظيم للعظيم -سبحانه وتعالى- حتى يعظم ما عظم الله؛ ألا وإن من أعظم ما عظم العظيم -جل في عليائه- تعظيم الله لقدر النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا أدل على ذلك من أن الله أقسم بحياة نبيه -صلوات ربي وسلامه عليه-؛ فقال: (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ)[الحجر:72]؛ يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "مَا خَلَقَ اللَّهُ وَمَا ذَرَأَ وَمَا بَرَأَ نَفْسًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَمَا سَمِعْتُ اللَّهَ أَقْسَمَ بِحَيَاةِ أَحَدٍ غَيْرِهِ".

 

أيها المؤمنون: عظموا نبيكم ووقروه واعلموا أنه لن يكون العبد مؤمنا حقا إلا بتعظيم رسول رب العالمين وسيد الخلق أجمعين؛ يقول الحق -تبارك وتعالى-: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا *** لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ)[الفتح:8، 9].

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "التعزير اسم جامع لنصره وتأييده ومنعه من كل ما يؤذيه، والتوقير؛ اسم جامع لكل ما فيه سكينة وطمأنينة من الإجلال والإكرام، وأن يعامل من التشريف والتكريم والتعظيم بما يصونه عن كل ما يخرجه عن حد الوقار"، وعظم الله أخلاق نبيه -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال في كتابه الكريم: (وإنك لعلى خلق عظيم)[القلم:4]، ورفع ذكر نبيه -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا والآخرة؛ فقال: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[الشرح:4].

 

ولسائل أن يسأل كيف أكون معظما للنبي -صلى عليه وسلم-؟

والجواب: إن لتعظيم النبي -عليه الصلاة والسلام- مقتضيات ولوازم لا يتحقق إلا بالقيام بها فمن ذلك: الإيمان به؛ قال -تعالى-: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الأعراف: 157].

 

ويكون العبد معظما لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: بطاعته في ما أمر والانتهاء عن ما نهى عنه وزجر واتباع سنته واقتفاء أثره؛ وهذا مقتضى الإيمان بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وقد جاءت نصوص كثيرة توجب طاعته وامتثال أوامره، بل إن الله قرن طاعة نبيه بطاعته -سبحانه-: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)[النور:54].

 

ويكون العبد معظما لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: بالاستجابة المطلقة لأوامره وحاله معها في كل حال سمعنا وأطعنا؛ كما قال -سبحانه-: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[النور: 51]، (فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[النساء:65]، كما أن تعظيم النبي الكريم يقتضي عدم التقديم بين يديه أو تقديم قول أحد على قوله أو حكم غيره على حكمه وشريعته.

 

ومن لوازم تعظيم النبي الكريم ومقتضياته: التأدب معه -صلى الله عليه وسلم-؛ فليس مقامه كمقام أحد من الخلق؛ (ما كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)[الأحزاب: 40].

 

وما أجمل قول الشاعر في أعظم الخلق -صلى الله عليه وسلم-:

مُحَمَّدٌ أَشْرَفُ الأعْرَابِ والعَجَمِ***مُحَمَّدٌ خَيْرٌ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ

مُحَمَّدٌ تاجُ رُسْلٍ اللهِ قاطِبَة***مُحَمَّدٌ صادِقُ الأٌقْوَالِ والكَلِمِ

مُحَمَّدٌ ذِكْرُهُ رُوحٌ لأَنْفُسِنَا***مُحَمَّدٌ شُكْرُهُ فَرْضٌ عَلَى الأُمَمِ

 

وتعظيم النبي الكريم -صلوات وسلامه عليه-: يكون بمحبته؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يُؤمِنُ أحدُكُم حتى يكونَ اللهُ ورسولُه أحَبَّ إليه ممّا سِواهُما، وحتى يُقذَفَ في النّارِ أحَبَّ إليه مِن أنْ يَعودَ في الكُفرِ، بعدَ إذ نجّاه اللهُ منه، ولا يُؤمِنُ أحدُكُم حتى أكونَ أحَبَّ إليه مِن وَلَدِه، ووالِدِه والنّاسِ أجمَعينَ"(أخرجه البخاري ومسلم).

 

ويتحقق تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم-: بنصرته والدفاع عنه؛ (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ)[التوبة: 40]، والمتأمل في القرآن الكريم يتجلى له دفاع الله عن نبيه -صلى الله عليه وسلم- من أعدائه؛ فقال -سبحانه-: (وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)[المائدة:67]، (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)[الكوثر: 3]، (إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ)[الحجر: 95]؛ يقول الشيخ ابن سعدي -رحمه الله-: "وقد فعل -تعالى-, فما تظاهر أحد بالاستهزاء برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به إلا أهلكه الله وقتله شر قِتلة".

 

لك يا رسول الله صدقُ محبةٍ *** وبفيضها شهِد اللسانُ وعبّرا

لك يا رسول الله صدقُ محبةٍ *** فاقتْ محبةَ كل مَن عاش على الثرى

لك يا رسول الله صدقُ محبةٍ *** لا تنتهي أبداً ولن تتغيرا

لك يا رسول الله منا نصرةٌ *** بالفعل والأقوال عما يُفترى

نفديك بالأرواح وهي رخيصةٌ *** من دون عِرضك بذلها والمشترى

 

أيها المسلمون: كيف يطيب لمسلم عيشه وهو يرى ويسمع الإساءات المتكررة للبشير النذير والسراج المنير من أحفاد القردة والخنازير ممن طمس الله بصائرهم وأعمى قلوبهم وختم على أفئدتهم! دون أن ينتصر له أو يكون له حظ من الدفاع عنه بأي وسيلة مشروعة.

 

ألا فانتصروا -أيها المؤمنون- لنبيكم بتعظيمه في قلوبكم وتعظيم سنته في حياتكم، وتمسكوا بشريعته واتبعوا سبيله تسعدوا في الدنيا والأخرى، واحذروا مخالفة أمره فتصيبكم فتنة في حياتكم والعذاب في أخراكم؛ (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النور: 63]، وعلموا أولادكم سنته وسيرته.

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الولي المبين والصلاة والسلام على رسوله الأمين، أما بعد:

 

عباد الله: وإن من تعظيم النبي -صلى الله عليه وسلم-: الصلاة والثناء عليه في كل وقت وحين وخصوصا عند ذكره؛ فقد أمر الله بذلك عباده المؤمنين؛ بل إن الله وملائكته يصلون على النبي الكريم؛ قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وعن عن أبي بن كعب -رضي الله عنه- أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "كم أجعلُ لك من صلاتي؟ قال: ما شئتَ، قال: الثُّلُثَ، قال: ما شئتَ وإن زدتَ فهو أفضلُ، قال: النِّصفَ، قال: ما شئتَ وإن زدتَ فهو أفضلُ، قال: أجعلُ لك صلاتي كلَّها، قال: إذًا يكفيك اللهُ همَّك، ويغفرُ لك ذنبَك"(رواه البيهقي في شعب الإيمان).

 

أيها المسلمون: اعلموا أن قدر النبي -صلى الله عليه وسلم- عظيم ومقامه رفيع؛ فاعرفوا له قدره؛ فإن في ذلك تعظيم لربكم؛ وتأسوا بالصحابة الكرام والسلف الأعلام في تعظيم خير الأنام محمد -عليه الصلاة والسلام-؛ فقد كانوا يجلونه ويوقرونه ويقدمونه على أنفسهم وأولادهم ويفدونه بأرواحهم وأموالهم؛ وما قصة الصديق -رضي الله عنه- يوم أن لدغته حية حين كان مع النبي الكريم في الغار عنكم ببعيد؛ حيث كره أن يوقظ النبي -صلى الله عليه وسلم- من نومه وتحمل الألم ولم يأبه لما أصابه حتى سال الدمع من عينيه.

 

وقيل لبعض الصحابة لما أسرته قريش؛ "أتحب أن يكون محمد مكانك وأنك معافى في أهلك ومالك" فقال: "والله ما أحب أن أكون معافى في أهلي ومالي ويشاك محمد -صلى الله عليه وسلم- بشوكة -أي وهو كذلك معافى في أهله وماله-".

 

ومن أجمل ما قيل في ذلك المشهد الإيماني العجيب:

أسرت قريش مسلمًا فمضى***بلا وجل إلى السّياف

سألوه هل يرضيك أنك سالم***ولك النبي فدَى من الإتلاف

فأجاب:

كلا لا سلمت من الردى***ويصاب أنف محمد برُعاف

 

بأبي وأمي أنت يا خير الورى *** وصلاةُ ربي والسلامُ معطرا

يا خاتمَ الرسل الكرام محمدٌ *** بالوحي والقرآن كنتَ مطهرا

الدينُ محفوظٌ وسنةُ أحمدٍ *** والمسلمون يدٌ تواجِه ما جرى

صلى عليه اللهُ في ملكوته *** ما قام عبدٌ في الصلاة وكبّرا

 

اللهم املأ قلوبنا تعظيما لك ولنبيك محمد صلى الله عليه وسلم.

 

اللهم اجعلنا ممن يعظمون رسولك الأمين ويقتفون أثره إلى يوم الدين.

 

وصلوا وسلموا على البشير النذير والسراج المنير حيث أمركم بذلك العليم الخبير؛ فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب:56].

المشاهدات 493 | التعليقات 0