تعظيم الله
ناصر محمد الأحمد
تعظيم الله
14/6/1439ه
د. ناصر بن محمد الأحمد
الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: إن الناظر في أحوال الناس ليعجب من هذه النفوس التي إذا ذُكِّرت بالله لم تتذكر، وإذا وُعظت لم تتعظ، وإذا قُرئت عليها آيات الوعد والوعيد لم تبك ولم تتأثر، ولا شك أن هذا نذير خطر على العبد إذا لم يراجع نفسه ويحاسبها ويذكرها بالله تعالى، ولعله من أعظم الأسباب التي أوصلت الإنسان إلى هذه الحالة عدم استشعار عظمة الله في القلوب والبعد عن خشيته والخوف منه سبحانه.
إن الله تعالى لم يخلق الخلق ولم يرسل الرسل ولم ينـزل الكتب إلا من أجل تحقيق غاية من أسمى الغايات ألا وهي عبادته سبحانه وتحكيم شرعه، ولا يمكن أن تصل العبادة إلى أعلى كمالها إلا بتعظيم المعبود، فالعبادة هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه.
ولقد جاءت النصوص الشرعية من الكتاب والسنة في بيان فضل تعظيم الله، قال الله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين) ( الفاتحة : 5 )، قال القرطبي رحمه الله: ثم الآية الرابعة جعلها الله بينه وبين عبده، لأنها تضمنت تذلل العبد لربه وطلب الاستعانة منه، وذلك يتضمن تعظيم الله تعالى. وقال تعالى: (وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِراًّ وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار) ( الرعد : 22 )، وقال عز وجل: (مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) ( نوح : 13 )، وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعرابي، فقال: يا رسول الله! جُهدت الأنفس، وضاعت العيال، ونُهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك أتدري ما تقول؟"، وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عُرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: "ويحك إنه لا يُستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظمُ من ذلك". أخرجه أبو داود.
ولكي نتصور أخي الكريم حقيقة وكنه التعظيم فإن علينا أن نتفكر في هذا المثال: أنظر إلى حال رفقاء الملوك والأمراء والرؤساء إلا من رحم الله تجد أحدهم لا يستطيع أن يرد لهذا الملك أو لهذا الرئيس أمراً ولا أن يرتكب نهياً حتى وإن كان هذا الأمر والنهي يضره في بدنه أو ماله أو أهله، وعندما نسأله عن سر هذه الطاعة العمياء نجد أن تعظيمه لهذا الرئيس هو السبب الحقيقي لهذه الطاعة. إذاً فالتعظيم يولِّد في النفس الخوف من المعظَّم.
ولهذا ما فتئ علماء الأمة يجتهدون في تذكير الناس بمسألة تعظيم الله، فها هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يصنف كتاب التوحيد، ويقرر فيه مسائل العقيدة ثم يختم كتابه بأبواب عديدة كلها تتعلق بتعظيم الله، مثل: باب فيمن لم يقنَع بالحلف بالله. باب التسمي بقاضي القضاة. باب احترام أسماء الله. باب لا يُردّ من سأل الله. باب قوله: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ( الزمر : 67 ). وهذا آخر باب ذكره الشيخ في كتابه القيم.
لكن هل نحن معظمون لله أم لا؟. للإجابة عن هذا التساؤل لا بد أن ننظر إلى حالنا عند الإقدام على فعل طاعة من الطاعات: هل نؤديها رغبة ورهبة، خوفاً وطمعاً؟ أم أن الطاعة أصبحت عادة من العادات نعملها كل يوم دون استشعار الهدف من أدائها؟ وهل المرأة حين تلبس الحجاب الشرعي تلبسه لأنه شرعٌ من الله أم أنه تراث وتقاليد؟ كذلك ننظر إلى حالنا عند فعل المعصية: هل نحس كأننا تحت جبل يكاد أن يسقط علينا، أم كذبابة وقعت على أنف أحدنا فقال بها هكذا؟ كذلك لننظر إلى حالنا أثناء أداء الصلاة والقيام لرب العالمين، هل نستشعر عظمة من نقابله فنخشع في صلاتنا، أم تشغلنا الأفكار والهواجس؟ وهل إذا قابلنا ملكاً من ملوك الدنيا صنعنا عنده مثل ما نصنع في صلاتنا؟ إذا أجبنا عن هذه التساؤلات بكل تجرد فسنعرف يقيناً هل نحن معظمون لله أم لا؟.
أيها المسلمون: لنتأمل حال أولئك المعظمين لله تعالى عند قيامهم للصلاة، فقد قال مجاهد رحمه الله: كان إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يشد بصره إلى شيء، أو أن يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث بشيء أو يحدث نفسه من شأن الدنيا إلا ناسياً ما دام في صلاته. وكان ابن الزبير إذا قام في الصلاة كأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فأتى المنجنيق فأخذ طائفة من ثوبه وهو في الصلاة لا يرفع رأسه. وكان مسلمة بن بشار يصلي في المسجد فانهدم طائفة منه فقام الناس وهو في الصلاة لم يشعر. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذا حضرت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه، فقيل له: ما لك؟ فقال: جاء والله وقت أمانة عرضها الله على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها. وكان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خدَّيه على لحيته. وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إذا دخل في الصلاة ترتعد أعضاؤه حتى يميل يمنة ويسرة. وهذا غيض من فيض من أخبار وأحوال أولئك المعظمين لله.
بل إن من العجيب أن كفار قريش كان في قلوبهم شيءٌ من تعظيم الله، وإليك بعض الشواهد على ذلك:
منها: قصة عتبة بن ربيعة حينما قرأ عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فواتح سورة فصلت فلما بلغ قوله تعالى: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ) ( فصلت : 13 )، وضع يده على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الله والرحم ليسكت.
وقصة جبير بن مطعم أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ، أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المسَيْطِرُونَ) ( الطور : 35-37 ) قال: كاد قلبي أن يطير.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وحوله صناديد قريش فقرأ عليهم سورة النجم فلما وصل إلى السجدة في آخر السورة سجد فسجدوا معه.
فهذه الشواهد تدل على أن كفار قريش رغم كفرهم وإشراكهم كان في قلوبهم شيء من تعظيم الله. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والمشركون ما كانوا ينكرون عبادة الله وتعظيمه ولكن كانوا يعبدون معه آلهةً أخرى".
أخي الكريم: إن عدم تعظيم الله في القلوب سيُسأل عنه كل فرد منا، فلا بد من المحاسبة والمراجعة وتقويم النفس والنظر في علاقتنا بربنا جل وعلا.
ولعل من أعظم أسباب عدم تعظيم الله:
الوقوع في المعاصي: وهذه هي المعضلة، وهي السبب في كل بلاء ومحنة وبعد عن الله تعالى. قال ابن القيم رحمه الله: "وكفى بالعاصي عقوبةً أن يضمحل من قلبه تعظيم الله جل جلاله وتعظيم حرماته، ويهون عليه حقه، ومن بعض عقوبة هذا أن يرفع الله عز وجل مهابته من قلوب الخلق ويهون عليهم ويستخفُّون به كما هان عليه أمره واستخف به". وقال بشر بن الحارث: "لو تفكر الناس في عظمة الله لما عصوا الله".
ومن أسباب عدم تعظيم الله: التساهل في أوامر الله: فتجد كثيراً من الناس لا يؤدون العبادات على الوجه المطلوب، فلو كانوا يعظمون الله حق التعظيم لعظموا أمره كذلك.
ومن الأسباب: عدم تدبر القرآن حال قراءته: وعدم الوقوف عند وعده ووعيده، وأصبح همُّ القارئ آخر السورة فحسب، دون اعتبار للهدف الذي أُنزل من أجله القرآن. قال الله تعالى: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَاب) ( ص : 29 ).
ومن الأسباب: النظر فيما حرم الله تعالى: فالنظر الحرام يولد في القلب القسوة والجفاء، وهذا لا يتأتى مع التعظيم، لأن التعظيم لا يكون إلا من قلب خاضع خاشع لين مقبل على الله بكليته. والنظر الحرام لا يكاد يسلم منه أحد اليوم بسبب الجوالات التي بأيدينا، وتساهل الناس في كثير من المقاطع التي يتداولونها والله المستعان. ولهذا فلا عجب أن يكون السلف الصالح رضوان الله عليهم من أشد الناس تعظيماً لله، لأنهم أحرص الناس على طاعته وأبعدهم عن معصيته.
والعباد يتفاضلون في الإيمان على قدر تعظيم الله في القلوب والإجلال له، والمراقبة لله في السر والعلانية.
فإذا أراد المسلم أن يكون ممن يعظم الله حق التعظيم، فلا بد من وجود نية صادقة تدفعه دفعاً للوصول إلى هذه الغاية، وأن يكون حرصه على تعظيم الله نابعاً من استشعاره لأهمية التعظيم، وأن يريد بعمله وجه الله تعالى لا أن يمدحه الناس ويثنوا عليه.
بارك الله ..
الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: هناك عدد من الأمور المعينة على تعظيم الله، منها:
أولاً: تحقيق العبودية الكاملة لله تعالى: فالعبد كلما تقرب إلى ربه بأنواع العبادات وأصناف القرُبات عظُم في قلبه أمر الله، فتراه مسارعاً لفعل الطاعات مبتعداً عن المعاصي والسيئات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وكلما ازداد العبد تحقيقاً للعبودية ازداد كماله وعلت درجته".
ثانياً: التدبر الدقيق للقرآن الكريم: وما فيه من حِكم وأحكام، والنظر فيما فيه من الدروس والعبر، وأن نتدبر في الآيات التي تتحدث عن خلق الله وبديع صنعه، والآيات التي تتحدث عن عقوبته وشديد بطشه، وآيات الوعد والوعيد، فإن تدبر القرآن يؤثر في القلب ولا شك، ويُذكي فيه عظمة الخالق والخوفُ منه. بل قراءة آية بتدبر وتفهُّم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهُّم، وأنفع للقلب وأدعى إلى حصول الإيمان وذوق حلاوة الإيمان، وهكذا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من بعده، حتى إنه ليردد الآية إلى الصباح، وهذا هو أصل صلاح القلب، ومن مكائد الشيطان تنفير عباد الله من تدبر القرآن لعلمه أن الهدى واقع في التدبر.
ثالثاً: من الأمور المعينة على تعظيم الله: التفكر في خلق السماوات والأرض: فإن الناظر فيها ليُدهَشُ من بديع صنعها وعظيم خلقها واتساعها، ومع هذا فهو لا يرى فيها شقوقاً ولا فطوراً قال الله تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) ( الملك : 3-4 ). ولهذا أثنى الله على عباده الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض فقال تعالى: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُوْلِي الأَلْبَابِ، الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار) ( آل عمران : 190-191 ).
وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وفضل العرش على الكرسي كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة". أخرجه البيهقي. فهذا الحديث يبين عظمة السماوات وعظمة الكرسي والعرش، ونحن بني آدم لا نساوي شيئاً أمام هذه المخلوقات العظيمة، ومع ذلك يقول الله تعالى في السماء والأرض: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) ( فصلت : 11 )، فيا سبحان الله! كيف بالإنسان هذا الضعيف الذليل يتكبر ويتبجح ويقارع جبار السماوات والأرض بالمعاصي والآثام؟! نسأل الله السلامة والعافية.
رابعاً: من الأمور المعينة على تعظيم الله: النظر في حال من غبر: فلقد عاش على هذه الأرض أقوام وشعوب أعطاهم الله بسطة في الجسم وقوة في البدن لم يعطها أمة من الأمم ولكنها كفرت بالله وكذبت بالرسل، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف ودمرهم تدميراً، فها هم قوم عاد الذين قالوا: من أشد منا قوة؟! أهلكهم الله: (بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ، سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى القَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) ( الحاقة : 6-7 )، وها هم ثمود الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، أهلكهم الله بالصيحة: (فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ) ( هود : 67 )، فالله سبحانه لم يتكلف في عذاب هذه الأمم، ولم يكن له سبحانه أن يتكلف، إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون، فما بالنا نحن الأضعف والأقل قوةً وبطشاً لا نخشى أن يصيبنا مثل ما أصاب أولئك؟. رحماك ثم رحماك يا رب.
فاللهم إنا نسألك تعظيمُك والخوفُ منك، وأن تمنّ علينا بتوبة صادقة تعيننا على طاعتك واجتناب معصيتك.