تعظيم الأنبياء والصالحين لرب العالمين
أ.د عبدالله الطيار
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ ذي العظَمةِ والجَلالِ، الذي تفرَّدَ بِكُلِّ جمالٍ وكمالٍ، وأشْهدُ أنْ لا إلَه إلا اللهُ، وحْده لا شريكَ له، لا نِدَّ له ولا مِثالَ، له الأسْماءُ الحُسْنى والصِّفاتُ العُلى، وهو الكبيرُ المُتَعالُ، وأشْهدُ أنَّ نبيَّنا محمدًا عبْدُه ورسولُه، كريمُ الأخْلاقِ، وطَيِّبُ الخصالِ، وخيْرُ منْ تقرَّب إلى اللهِ جلَّ وعلا، صلَّى اللهُ وسلَّم عليْه وعلى آلهِ وصحْبهِ خيْرِ صحْبٍ وآلٍ، وعلى مَنْ تَبِعَهم بإحْسانٍ إلى يومِ الدينِ، أما بعدُ:
فأُوصيكم أيُّها المؤمنونَ ونَفْسي بِتَقْوى اللهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [آل عمران:102].
أيُّها المؤمنونَ: إنَّ تعظيمَ اللهِ جلَّ جلالُه واجبٌ على كلِّ مسلمٍ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ, وهو مِنْ أجلِّ العباداتِ القلبيةِ الدَّالةِ على قوةِ إيمانِ العبدِ بربِّهِ ومعرفتِه لأسمائِه وصفاتِه, ومنزلةُ التعظيمِ تابعةٌ لمنزلةِ المعرفةِ, وعلى قدرِ معرفةِ العبدِ باللهِ يكونُ تعظيمُه للهِ أعظمَ، وأعرفُ النَّاسِ باللهِ همْ الأنبياءُ والمرسلون ومَنْ تَبعَهم من الصحابةِ الكرامِ والتَّابعينَ ومَنْ تَبِعَهم من العلماءِ والصالحينَ، وهؤلاءِ هم أشدُّ النَّاسِ تعظيماً وإجلالاً له سبحانَه وتعالى.
عبادَ اللهِ: إنَّ أكثرَ النَّاسِ تعظيمًا للهِ جلَّ وعلا هم أنبياؤُه ورسلُه، فَقَدْ عَرَفُوا اللهَ حقَّ المعرفةِ، وعلموا عظمتَه وجلالَه وقدْرتَه وسلطانَه فَنَصبوا أَنْفسَهم في عبادتِه ظاهرًا وباطنًا، ودعوا أقوامَهم إلى محبَّتِه وخَشْيتِه، والخوفِ مِنْ نِقْمتِه، وشديدِ عقابِه، فنوحٌ عليه الصلاةُ والسلامُ خَاطَبَ قومَه بقولِه{مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا* وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}[نوح: 13،14] أي: ما لكم لا ترونَ للهِ تعالى عظمةً.
وموسى عليه الصلاةُ والسلامُ لمَّا جاءَ لميقاتِ ربِّه وكلَّمه ربُّه {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}[الأعراف: 143].
أيُّها المؤمنونَ: ولقد كانَ نبيُّنا ﷺ أعرفَ الخلقِ بربِّه، وأكثرَهم تعظيمًا لخالقِه في عبادتِه وأكثرَهم محبةً وخشيةً وذكرًا ودعاءً ولجوءً لربِّه، فقد وَرَدَ عنه ﷺ أنَّه قالَ: (فَواللَّهِ إنِّي لَأَعْلَمُهُمْ باللَّهِ، وأَشَدُّهُمْ له خَشْيَةً) رواه البخاري (6101)، وعن أنس س قال: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ:(لَوْ تَعْلَمُونَ ما أعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا ولَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا) رواه البخاري (6486)
ومِنْ تعظيمِه ﷺ لربِّه أنَّه كان يسدُّ جميعَ الأبوابِ التي تُفضِي إلى الغلوِّ فيه وإخراجِه عن حدودِ العبوديةِ والرسالةِ التي أَنْزَلَهُ اللهُ تعالى إيَّاها، فعنْ عبدِ اللهِ بن الشِّخِّيرِ س قال: انْطَلَقْتُ في وفْدِ بَنِي عامِرٍ إلى النبيِّ ﷺ فقلْنا لهُ: أنتَ سَيِّدُنا فقال: (السيِّدُ اللهُ تباركَ وتعالى) قُلْنا: وأفضلُنا وأَعْظَمُنا طَوْلًا. قال: (قُولوا بِقَولِكُمْ أوْ بَعْضِ قَوْلِكُمْ، ولا يَسْتَجْرِيَنَّكُمْ الشَّيْطانُ). وفي روايةٍ: (ولا يَسْتَهْوِيَنَّكُمْ الشَّيْطانُ) رواه أبو داود (4172)، وأحمد (15726).
وعَنْ ابنِ عباسٍ L قالَ: قالَ رجلٌ للنبيِّ ﷺ: ما شاءَ اللهُ وشئتَ، فقالَ ﷺ: (أَجَعَلْتَنِي للهِ ندًّا؛ لا بلْ ما شاءَ اللهُ وَحْدَهُ) رواه أحمد (1742)، وحسَّنه الألبانيُّ في السلسلةِ الصحيحةِ (1/266)، وكانَ ﷺ يقولُ: (لا تُطْرونِي كما أطْرتِ النصارى ابنَ مريمَ، إنَّما أنَا عبدُه، فقولوا: عبدُ اللهِ ورسولُه) البخاري (3445)، مسلم (1691).
ومِنْ شدَّةِ تعظيمهِ ﷺ لربِّه جلَّ وعلا أنَّه كانَ يقومُ من الَّليلِ حتَّى تَتَفَطَّرَ قدَمَاه، قالتْ له عائشةُ J: تَفْعلُ ذلكَ وقدْ غُفِرَ لكَ ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأخَّرَ! فقالَ ﷺ:(أفلا أُحِبُّ أَنْ أكونَ عبدًا شَكُورًا) رواه البخاري (1130)، مسلم (2819).
عباد الله: وكان ﷺ إذا رأى غيمًا عُرِفَ في وجْهِه، قالت عائشةُJ: يا رسولَ اللهِ! الناسُ إذا رأوُا الغيمَ فَرِحُوا، رجاءَ أن يكونَ فيه المطرُ، وأَراكَ إذا رأيتَ غَيْمًا عُرِفَ في وجْهِكَ الكراهَيَةُ! فقال:(يا عائشةُ! وما يُؤَمِّنني أن يكونَ فيه عذابٌ؟ قد عُذِّبَ قومٌ بالريحِ وقد رأى قومٌ العذابَ فقالوا:{هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا}[الأحقاف:24]) رواه البخاري (4454)، ومسلم (1497).
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: {إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُون* وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون* وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُون* وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون* أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُون}[المؤمنون:57 ــ 61].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ، واعْلمُوا أنَّ الصحابةَ M كانوا أكثرَ الخلقِ تعظيمًا للهِ بَعْدَ نبيِّهِم ﷺ ، فهم أحرصُ الخلقِ على جهادِ أنْفسِهم، وتعظيمِ شعائرِ الإسلامِ، فَأَخْمصُوا بطونَهم عَنْ كلِّ مَطْعمٍ حرامٍ، وَتَركَتْ جوارِحُهُم قبائحَ الأقوالِ والأفعالِ، واجْتَنَبوا جميعَ الذنوبِ والآثامِ، هيبةً للهِ وخوفًا من عذابِه.
قالَ عليٌّ س: "لَقَدْ سَبَقَ إلى جنَّاتِ عدنٍ أقوامٌ ما كانُوا بأَكثرِ الناسِ صلاةً ولا صياماً ولا حجّاً ولا اعتماراً، لكنَّهم عَقَلُوا عنِ اللهِ مواعظَ وَجِلَتْ منها قلوبُهم، واطْمأَنَّتْ إليهَا نفوسُهم، وخَشَعتْ لها جوارحُهم، فقاموا في النَّاسِ بطيبِ المنزلةِ، وعلوِّ الدرجةِ عندَ الناسِ في الدُّنيا، وعنْدَ اللهِ في الآخرةِ".
عبادَ اللهِ: ومِنْ صورِ تعظيمِ هؤلاءِ الصَّحْبِ M ومَنْ تَبِعَهم لربِّهم جلَّ وعلا، ما يأتي:
فهذا أبو بكرٍ الصديقُ س كان قويُّ الإيمانِ راسخَ اليقينِ، أسيفًا بكَّاءً في صلاتِه وعِنْدَ تلاوةِ القرآنِ، غزيرَ الدَّمعةِ، قريبَ العَبرْةِ، شديدَ الورعِ والخوفِ من اللهِ.
وهذا عمرُ س كانَ في وجْهِهِ خطّانِ أسودانِ من كثرةِ البكاءِ من خشيةِ اللهِ، قالَ لابنِه عبدِاللهِ عندَ وفاتِه: " يا بُنَّيَ ضَعْ خدِّي على الأرضِ عساهُ أَنْ يَرحَمني، ثمَّ قالَ بلْ ويلُ أُمَِّي إِنْ لم يَغْفرْ لي، ويلُ أُمِّي إِْ لم يُغْفرْ لي"
وهذا عثمانُ س كانَ مشهورًا بالكَرمِ والإنفاقِ في سبيلِ اللهِ، صوَّامًا قوامًا، تاليًا لكتابِ اللهِ آَنَاءَ الَّليلِ والنَّهارِ، مُحِبًّا للهِ ومُعَظِّمًا لهُ سبحانَه، قال ابنُ عمرَ L في قولِ اللهِ تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 9]، ذاكَ عثمانُ.
وهذا بلالُ بنُ رباحٍ س يومَ أَنْ امْتَلأَ فؤادُه بجلالِ اللهِ وعظمتِه، هانَ عليهِ كلُّ عظيمٍ في سبيلِه، حتَّى وُضِعَ في رَمْضاءِ مكةَ المحرقةِ، وُوُضِعَتْ على صَدْرِه الصخرةُ الكبيرةُ، فَصَبرَ وَاحْتَسَبَ، وكانَ يقولُ من شدِّةِ مَحبَّتِه لربِّهِ وتعظيمِه لهُ: أَحَدٌ، أَحَدٌ.
وهكذا سارَ الخَلََفُ على طريقِ السَّلفِ في تعظيمِ اللهِ تعالى في جميعِ أحوالِهم.
فاتَّقوا اللهَ أيُّها المؤمنونَ وعظِّموا اللهَ في قلوبِكم، واخْضَعُوا لهيْبَتِه، وأَخْلِصُوا عُبُودِيتِه، ولا تُشْرِكُوا مَعَهُ غيرَه، حتَّى تَنَالوا فَضْلَه وَرَحْمَتَه ورِضْوانَه وجَنَّتَه.
أسألُ اللهَ تعالى أَنْ يملأَ قلوبَنا إعْظامًا وإجْلالاً لربِّنا جلَّ وعلا وأَنْ يرْزقَنَا محبَّتَه وخَشْيتَه في جميعِ أحوالِنا، وأَنْ يختمَ لنَا ولكُمْ بخاتمةِ الحُسنى.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى والقدوةِ المجتبى فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ وعلا:[إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}[الأحزاب: 56].
الجمعة: 24 / 7 / 1443هـ