تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ -وعدم جواز الذهاب إلى الحج دون أخذ تصرِيحٍ-
محمد بن عبدالله التميمي
الخُطْبَةُ الأُوْلَى
الْحَمْدُ لِلَّهِ.. شَرَعَ الشَّرَائِعَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَجَعَلَهَا سَبَبًا لِلْفَوْزِ يَوْمَ الْمَعَادِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَلِمَ ذُنُوبَ عِبَادِهِ فَشَرَعَ لَهُمُ الْمُكَفِّرَاتِ، وَفَتَحَ لَهُمْ أَبْوَابَ الْخَيْرَاتِ، فَلَا يُحْرَمُ مَغْفِرَةَ اللَّهِ -تَعَالَى- إِلَّا مَحْرُومٌ، وَلَا يُبْعَدُ عَنْ رَحْمَتِهِ إِلَّا شَقِيٌّ مَذْمُومٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ حَجَّ حَجَّةً وَاحِدَةً وَدَّعَ فِيهَا أُمَّتَهُ، فَلَحِقَ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ حَجَّتِهِ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. أمَّا بعد:
فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعلموا أنَّ التقوى خيرُ مرقاةٍ لبُلوغِ المرام، وأَمْنَعُ عَاصِمٍ لِاجْتِنَابِ الأَوْزَارِ والآثَام، فتَدَرَّعُوا بها مِمَّا تُلاقُون، وتزوَّدُوا مِنَ الأعمَالِ الصَّالِحَةِ ما تَسْتَطِيْعوْن {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
عباد الله.. إنَّ تعجيلَ العبادة سببُ الرضوان وقد ذكر الله في كتابه أن موسى عليه السلام قال في خطابه: ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "رِضا الربِّ سبحانه في العَجلةِ إلى أوامره".
ومن التعجيل -عباد الله- إلى أوامر الله: المبادرة إلى الصلاة أوَّلَ وقتِها، وكذا المبادرة إلى قضاء الصَّوْم الواجب، وكذا المبادرة إلى الحجِّ بعد توفُّر شروطه؛ قال ﷺ: «تَعَجَّلُوا إِلَى الْحَجِّ -يَعْنِي: الْفَرِيضَةَ- فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ».
الحجُّ أحدُ أركان الإسلام، ودعائمه العظام، وأجمع على ذلك أهل الإسلام، وقد قال الله تعالى في محكم البيان: ﴿وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ العَالَمِينَ ﴾، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، قال: خَطبَنا رسولُ الله ﷺ فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا»، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ»، فإنما يجب على المكلَّف في العُمُرِ مرَّة واحدة.
ومَن أنكر فريضة الحجِّ فقد كفر، ومن أقرَّ بها وتركها تهاونًا فهو على خطر، فإن الله يقول بعد ذكر إيجابه على الناس: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ وقد تضمَّنت الآية أنَّ مَن مات ولم يحجَّ وهو قادر، فالوعيد يتوجه إليه، ولا يجزئ أن يحجَّ عنه غيرُه؛ لأنَّ حج الغير لو أسقط عنه الفرْض لسقط عنه الوعيد.
فكيف تطيب نفسُ المؤمن أن يترك الحجَّ مع قدرته عليه ببدنه ومالِه، وهو يعلم أنَّه من فرائض الإسلام وأركانه؟! كيف يَبْخَلُ بالمال على نفسِه في أداء فَرِيْضِةِ الله عليه وهو ينفق الكثيرَ فيما تهوى نفسُه وعيالُه؟! كيف يجد سعةً أنْ يُسافِر شَرقَ الأرض وغَرْبها ويَسْتكثِرُ ما يُنفق فيما يُكمَّل به إسلامَه، كيف يتراخَى ويؤخِّر أداءه وهو لا يَدري لعلَّه لا يستطيع الوصول إليه بعد عامه؟!
يا من لم تحجَّ وأنت قادر اعلَمْ أَنَّ ركنًا من أركان دِينك ناقص، فأيُّ عُذرٍ لك تلقى به الله؟!
صحَّ عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "مَن أطاق الحجَّ فلم يحجَّ، فسواء عليه مات يهوديًّا أو نصرانيًّا"، فكلُّ مَن استطاعَ السبيلَ إلى الحجِّ وجَبَ عليه أداءُه على الفور، ولا يجوزُ له تأخيرُه بلا عذرٍ شرعيٍّ، وبهذا قال أئمةُ الإسلامِ.
في صَحِيْحِ مُسْلِم أنَّ جَابرًا رضي الله عنه قال في صفةِ حَجةِ النبي ﷺ: «فخرَجْنا معه ﷺ حتى أتيْنا ذا الحُليْفةِ، فولدتْ أسماءُ بنتُ عُميسٍ محمدَ بنَ أبي بكرٍ، فأرسلَتْ إلى رسولِ اللهِ ﷺ: كيف أصنعُ؟ قال: «اغْتَسِلِي، وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي».
الله أكبر، تأمّلوا في حال تلكم المرأة الصالحة، خرجت حاجَّةً مع رسولِ الله ﷺ فور فرضية الحج، خرجت وهي حَامِلٌ وفِي أَيَّامِها الأَخِيْرَة، فما أنْ بلغتْ ميقاتَ أهلِ المدينة حتى وَضَعَتْ حَمْلَها، فأمرها النبيُّ ﷺ أن تغتسلَ وتُحرِم، ففعلَتْ ومضتْ معهم رضي الله عنها.
فأين ما يتعلَّلُ الكثيرون به اليوم مِن الأعذارِ الواهيةِ؟ أين هُم مِن حال تلك المرأة الحَامِل؟! وما تبِعَ وضعَها مِن ضعْفِها، وما لحقَها مِن عناءِ الطريقِ ووعْثَاءِ السَّفَرِ وبُعْدِ الشُّقَّة.
معاشر المسلمين: إنَّ الفُرَصَ إذا أُتِيحَتْ للإنسانِ فأضَاعَها حريٌّ أنْ يُعاقَبَ بالحرمانِ منها، ويُحَالُ بينه وبينها. وإنَّ كثيرًا مِن الأعذارِ التي يتعذَّرُ بها كثيرٌ مِن القاعدين اليوم هي أعذارٌ واهيةٌ، لا قيمةَ لها، ولا يَعبأَ الله بها.
فعلى كلِّ مستطيعٍ ببدنِه ومالِه أن يبادرَ لإكمالِ إسلامِه، فإنَّ الإسلامَ لا يتمُّ إلا بالحج، قال ﷺ: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ الْبَيْتِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ»، متفق عليه
فليبادرْ إلى حجِّ بيت الله الحرام مَن لم يحجَّ بَعْدُ، قَبْلَ أنْ يَمُوتَ فَيَنْدَمَ سَاعَةَ لا يَنْفَعُ النَّدَم، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَظِيمَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
***
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعالمينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلامُ عَلَى الرَّسُولِ الْكَرِيمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الَّذِي عَلَّمَ أُمَّتَهُ كُلَّ خَيْرٍ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ كُلِّ شَرٍّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ. أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -أَيُّها المؤْمِنُونَ- وَاعْلَمُوا أَنَّ التَّقْوَى زَادُكُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيا لِلدَّارِ الْآخِرَةِ، وَإنَّ مِمَّا تُبْتَغَى فِيْها التَّقوى وتُطلب حَجُّ بَيْتِ اللهِ الحَرَام، فِي أَدَاءِ نُسُكِ الْحَجِّ، وَفِي تَعْظِيمِ حَرَمِ اللهِ وَحُرُمَاتِهِ وَمَشَاعِرِهِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ ، وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الذَّهَابُ إِلَى الْحَجِّ دُونَ أَخْذِ تَصْرِيحٍ، وَيَأْثَمُ فَاعِلُهُ. وَالِالْتِزَامُ بِالتَّصْرِيحِ يُحَقِّقُ مَصَالِحَ جَمَّةً مِنْ جَوْدَةِ الْخِدْمَاتِ الْمُقَدَّمَةِ لِلْحُجَّاجِ فِي أَمْنِهِمْ وَسَلَامَتِهِمْ وَسَكَنِهِمْ وَإِعَاشَتِهِمْ، وَيَدْفَعُ مَفَاسِدَ عَظِيمَةً.
كَمَا أنَّ الْاِلْتِزَامُ بِاسْتِخْرَاجِ التَّصْرِيحِ لِلْحَجِّ هُوَ مِنْ طَاعَةِ وَلِيِّ الْأَمْرِ فِي الْمَعْرُوفِ، يُثَابُ مَنِ الْتَزَمَ بِهِ، وَيَأْثُمُ مَنْ خَالَفَهُ.
وَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنِ الْمُكَلَّفُ مِنِ اسْتِخْرَاجِ تَصْرِيحِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ عَدَمِ الْمُسْتَطِيعِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾، كَمَا جَاءَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ هَيْئَةِ كِبَارِ الْعُلَمَاءِ.
ثُمَّ اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى نَبِيِّهِ الْأَمِينِ، فَقَالَ فِي كِتَابِه المُبِيْن: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيْمًا﴾.